تعليق سريع على «فيلم أمريكي طويل»

 

قبل أسابيع، انتهى المسلسل الانتخابي الأمريكي الطويل، ولربما تابعنا جميعا، ولأول مرة، عبر المشاهدة الفضائية، التفاصيل اليومية لهذا المسلسل الدرامي المثير. ولا شك لدي أن الخاتمة لم تكن متوقعة بتاتا . فعلى الأغلب، كان التوقع السابق، والذي كانت تدعمه بعض استطلاعات الرأي العام في الداخل الأمريكي، أن الرئيس السابق ترامب، كان قادرا على الفوز الانتخابي لولاية رئاسية ثانية، لولا عوامل مفاجئة خربطت الخريطة الانتخابية لغير صالحه. و منها خصوصا العاملان المباغتان:
– جائحة كورونا التي فاقمت من خسائرها البشرية والاقتصادية والاجتماعية، استهانته بها وسوء إدارته لمضاعفاتها.
– ثم نزعته العنصرية الدفينة وحتى المعبر عنها في تصريحاته العشوائية تجاه الحركات الاحتجاجية التي رفعت شعار “حياة السود مهمة”، والتي ما فتئت أن استوعبت كل الفئات المحتجة الأخرى من الأقليات و النساء والشباب . و آخرها، الحملة الماراطونية التي قادها ترامب، بلا أدلة قانونية مؤكدة، ضد ما اعتبره تزويرا فاضحا، وسرقة انتخابية من الديمقراطيين لفوزه المتوقع منه. وانتهت هذه الحملة الماراطونية من التحشيد و شد أعصاب مناصريه من اليمين المتطرف إلى مشهد الهجوم العنيف على مركز الكابيتول، رمز الديمقراطية الأمريكية.
ورغم ضراوة المعركة وخشونتها غير المسبوق مثيلها في تاريخ الديمقراطية الأمريكية بين الرئيس ترامب ومعارضيه من الديمقراطيين ومن داخل الدولة العميقة، تمكن الرئيس المهزوم من الحصول على حصيلة انتخابية مبهرة فاقت أعلى أصوات الرؤساء السابقين عنه.وهي حصيلة انتخابية تفصح عما وصله الانشقاق العمودي الغائر في المجتمع الأمريكي . و على الرغم من أن ترامب مقبل على محاكمة برلمانية ثانية باتهامات قد تجرده من جميع فضائل من زاول مهمة الرئاسة، وقد تحرمه من أية مسؤولية سياسية لاحقة، فإنه مع ذلك، لا يزال يحظى في تحريات استطلاعات الرأي، بنحو أربعين في المائة من القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري الذي انتسب إليه، وأضحى بعد فوزه بالرئاسة قائد نواته الجماهرية الصلبة.
للانتخابات الأمريكية الأخيرة خصوصا، منزلة عالمية استثنائية فاقت ما كانت عليه في السابق؛ لأن العالم يمر من مرحلة لا يتحكم و لا يعرف مصائرها على النظام العالمي بوجه عام، وعلى فوضى المصالح القومية و الإقليمية بوجه خاص. ولهذا الاعتبار تحديدا، سأحاول باختصار شديد، ان أقرأ بعض ما أراه من ممكنات قريبة وحتى بعيدة في ما انتهت إليه لجاجة أزمة الديمقراطية الأمريكية من فوز محقق للرئيس بايدن عن الحزب الديمقراطي. وقبلها، لا يفوتني التشديد على أن معظم قادة العالم، حتى من أولئك المحسوبين من قبل أمريكا في خانة ” الأعداء “، يشعرون بارتياح حذر من مغادرة ترامب لسدة الرئاسة، وتوليها من قبل منافسه جو بايدن الديمقراطي، ليس لأنه كذلك، و إنما لتوقعات ستضطر إليها الولايات المتحدة على الأرجح بعد ما فشل الاختيار الانعزالي والابتزازي السابق.
ما يعنيني من استخلاصات على المستوى النظري، أي في المدى البعيد، أن هذه المحطة الانتخابية أبرزت على المكشوف أزمة النمودج الديمقراطي الأمريكي، ومعه النموذج الديمقراطي المؤسساتي الليبرالي بوجه عام، باعتبار أن الأول يكرر نفس أزمة المشتركات بين النماذج الليبرالية جميعا، وباعتباره الأعرق وفي البلد الأقوى رأسماليا.
ليس جديدا علي التلميح لأزمة الديمقراطية المؤسساتية الليبرالية في مقالات سابقة. وهو موضوع تطرق إليه العديد من الأكاديميين النقاد من زوايا نظر مختلفة. ولعل ما جرى في المحطة الانتخابية الأخيرة، يزيدنا اقتناعا بضرورة النظر إلى هذه الأزمة في مستوييها المحلي والعالمي أيضا. وللاختصار، سأنتقي واحدة من الظواهر المشتركة في أزمة الديمقراطية الليبرالية ، وهي في ما يجمله النقاد بأزمة الثقة “المتنامية إزاء المؤسسات الديمقراطية التمثيلية سواء المنتخبة أو إزاء النخبة السياسية عامة، والتي باتت توصف بالقوى” التقليدية”.
وقد تأخذ أزمة الثقة مظهر العزوف عن المشاركة في الانتخابات بتدني نسبها. وهذه الظاهرة المعتادة والعامة ، لم تكن كذلك في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، إذ لضراوة الصراع كانت نسبة المشاركة مرتفعة بالمقارنة مع المتوسط المعتاد في أغلب الانتخابات السابقة . وكما كان الحال أيضا في خصوصية معينة كفرنسا مثلا. إذ في مواجهة اليمين المتطرف في الدورة الثانية، ارتفعت المشاركة بينما النسبة الحقيقية لفوز الرئيس ماكرون لا تزيد كثيرا عن عشرين في المائة. أزمة الثقة في أمريكا تجلت، ولأول مرة ‘ في النسبة العالية ممن صدقوا أن الانتخابات مزورة، و حتى بعد انخفاضها قليلا من جراء صدمة الكابتول، بقيت معتبرة في حسابات القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري! والمظهر الآخر لفجوة الثقة العامة في المؤسسات، تصويت الناخبين لصالح من يعتبرونهم من خارج ما بات في نظرهم يحسب على القوى التقليدية التي جربت الحكم في السابق، إنها أغلبية المفاجأة اللا مستقرة، لأسباب موضوعية يمكن تحليلها.
تكون هذه الأغلبية ذات ميولات شعبوية يمينية، ما عدا على سبيل المثال التجربتين “اليساريتين” الإسبانية واليونانية، وقد أظهرتا محدوديتهما الاجتماعية بل انخراطهما في المنظومة الأوروبية النيو لبيرالية كما هي. خاصية التجربة الأمريكية الترامبية في هذا الصدد، لا تختلف نوعيا، فالرجل ركب انتخابيا على حزب تقليدي جاهز، ومن خارجه، وقدم نفسه كمرشح على أنه يشترك مع من سيصوت له نفس الخصومة، وحتى العداء ، لكل” النخبة التقليدية ” الحاكمة والقابعة في واشنطن، وكأنه “المهدي المنتظر” الذي سينتقم لهم منها. وهذا ما يفسر إلى حد كبير، من جهة، الإضافات الانتخابية الحاشدة التي أتى بها إلى الحزب الجمهوري على منافسيه منه. ومن جهة ثانية، فشله طيلة ولايته في أن ينصب إدارة تابثة ومستقرة معه، وأن يبني علاقات متوازنة ومتعاونة مع مؤسسات الدولة العميقة، لما تحمله شخصيته الفردانية الشعبوية الناقمة منها,. و مع أنه ليس إلا نموذجا أيديولوجيا من صنعها. إنه النموذج الآخر الذي تصنعه الأيديولوجيا النيو لبيرالية في أقصاها ” المواطن الشره على المال والمجرد من أية قيمة أخلاقية” ولا شك أن كل من صوت له يرى فيه، بتفاوت ما، ظلاله. وأن يحتفظ بعد صدمة الكابتول بعشرات الملايين ينظرون إليه على أنه الزعيم المنقذ والمثال، فهذا يعكس بالضرورة أزمة القيم النيو ليبرالية بالدرجة الأولى.
من المقولات الشائعة عن الديمقراطية الليبرالية، أنها تصلح أعطابها من ذاتها، بما توفره من ضوابط قانونية سليمة، تتيح للجميع نفس الفرص في المشاركة السياسية وإنتاج الإصلاحات الممكنة. و الدليل على ذلك، أن ترامب ومسانديه اضطروا في النهاية للرضوخ لسلطة القانون وللنتائج التي أقرها المجمع الانتخابي وصادق عليها مجلس الشيوخ. وأن مؤسسات الدولة تمكنت هي الأخرى من إفشال المخطط العنفي لمحتلي الكابيتول.
جميع هذه الوقائع صحيحة، وقد احتلت حيزا زمنيا كبيرا ومتوترا، كاد الصراع خلاله أن يصل إلى ما لا تحمد عقباه! لكن، إذا ما تأملنا المقولة الشائعة في أن الديمقراطية الليبرالية تصلح أعطابها من ذاتها، فإننا سنكتشف ما تحتويه من خدعة منطقية، لأن النتيجة (تصلح أعطابها) متضمنة سلفا في المقدمة(الديمقراطية).وهذا لا يستقيم إلا إذا كان المعنيون بالأمر ديمقراطيين حقا، و إلا كانت النتيجة مناقضة لمقدمتها. هكذا هي الخدع اللغوية دائما. وذلك ما تشهد عليه التجربة الفاشية والنازية فيما مضى، ولعل الفرق أن السابقتين تجليتا في تنظيمين مستقلين تمرنا على العمل السياسي الحزبي المستقل، بينما الترامبية، الحاملة لبذور عنصرية عنيفة, كانت تفتقر للجهاز القيادي الجماعي المتمرس في العمل الحزبي المستقل،لأنها جاءت محمولة على ظهر حزب تقليدي لا يشاركها كل تصوراتها. وفي موازين قوى داخل المجتمع الأمريكي ما زال في سواده الأكبر يتحرك تحت سقف تناقضات الايديولوجية الليبرالية، ومن حيث انه لم ينجب بعد قوى اجتماعية تشكل نقيضا رئيسا لهذه الايديولوجية الليبرالية المتهالكة، وهي العنصر الذي يفرض في المعتاد نمو نقيضه الفاشي الأقصى. وقد لاحظنا كيف أن ترامب حاول في حملته الانتخابية تضخيم خطر التيار اليساري الذي يمثله “سندريز” في الحزب الديمقراطي، وكأن الحزب الديمقراطي صار في مجموعه حزبا “اشتراكيا”. وكلمة الاشتراكية والشيوعية في الولايات المتحدة تكاد تكون من مخلفات المكارتية جريمة ما بعدها جريمة في قاموس الأيديولوجية النيوليبرالية السائدة. وبعيدا عن هذا التضخيم التشهيري الذي كان ترامب بحاجة “موضوعية” له، فإن التيار اليساري حقق فعلا تقدما انتخابيا ملحوظا، يقدره البعض، رغم كل الحصار من داخل الحزب الديمقراطي نفسه ، ب 25% من القاعدة الانتخابية للحزب وخاصة من أوساط الشباب والنساء والأقليات الأمريكية العامة، وأضحت له تمثيلية برلمانية مؤثرة ،وإن لم ينعكس هذا الوزن النشيط في الإدارة الجديدة لبايدن والتي هي بمجملها من قدماء إدارة أوباما.
خلاصة ما فات، أن الشرخ العميق الحاصل في المجتمع الأمريكي، والذي بلغ أوجه بفجوة الثقة «من لدن الملايين من أتباع ترامب، كما يرمز له من خليط في القيم النيوليبرالية، يجد في الموروثات التاريخية والتفاوتات الاجتماعية والعرقية و تراجع الهيمنة الأمريكية المادة «العضوية» للاستمراره وتغذيته. فليس هناك من ضمانة مسبقة لتصلح الديمقراطية أعطابها من ذاتها، إلا الضمانة التي ينتجها المجتمع في التغلب على تناقضاته.
تقودنا هذه الإطلالة الخاطفة على خصوصية أزمة الديمقراطية المؤسساتية الليبرالية في أمريكا إلى النظر لنفس الأزمة على المستوى الكلي العام . يبدو في الظاهر أن اتساع «فجوة الثقة» عامل مشترك بين البلدان العريقة الديمقراطية وبقية بلدان الديمقراطيات الناشئة. قد تختلف أشكال التعبير عن هذه الفجوة، لكنها واحدة بينهم جميعا. وكما يبين العديد من الدارسين، أن هذه الظاهرة الشاملة لأزمة الديمقراطية التمثيلية تكشف في طورها الحالي عن ميل غير مسبوق، وقد يأخذ مراحل مديدة، نحو أشكال جديدة للديمقراطية المباشرة تطعم بها الديمقراطية التمثيلية هياكلها.
وليس بجديد، أن هذه الأزمة، وهذا النزوع، يتلازمان مع عصر الثورة الرقمية وعولمة وسائط التواصل الاجتماعي، واللذين ضاعفا من دور» المواطن» و من قدراته على الفعل الحر المباشر، و إن زادتا أيضا من قدرات الدولة والشركات التواصلية الكبرى على وضعه «تحت المراقبة».
ويفسر لنا هذا الدور لعولمة وسائط التواصل الاجتماعي «السيولة الجماهرية الاحتجاجية»، والتي تتلاحق أعدادها، وطول مددها في مختلف أرجاء العالم. لكن وعلى الرغم من هذا التشابه والاشتراك في أزمة المؤسسات التمثيلية في بلدانها العريقة والأخرى الناشئة، ثمة فرق جوهري، في أن الأخيرة ما زالت بحاجة إلى ثقافة ومؤسسات «المواطنة أولا»، وبدون أن يعفيها ذلك ، وهي محكومة بعصر العولمة، من التطوير الدؤوب لما بات يعرف عندنا «بالديمقراطية التشاركية « بما هي تصب في تطوير آليات الديمقراطية المباشرة.
إلحاحي على توصيف أزمة الديمقراطية التمثيلية بالليبرالية، يأتي من كون المشترك بينهما جميعا يعود أيضا إلى النمو المضطرد لحدة التفاوتات الاجتماعية، وهي خاصية ملازمة للخيارات الرأسمالية أكانت في البلدان المتقدمة أو في البلدان التبعية . و يدل فشل أو جمود التجارب الديمقراطية في هذه الأخيرة على أنها لم تركب في معادلة واحدة بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية وبين التعاطي مع العولمة وإنماء خيارها الوطني المستقل . كان لابد من ذلك التوضيح ، وعلى عموميته، لكي نضع أزمة الديمقراطية الأمريكية في سياقها العالمي ، وهي في البلد الذي يصارع من أجل استعادة توازناته الداخلية من أجل ضمان استمرار هيمنته على النظام الرأسمالي العالمي . فما هي توجهاته وقدراته على ذلك في عهد الإدارة المنتخبة الجديدة ؟
بالعودة إلى الخصوصيات، وهي عديدة و معقدة، لا يمكننا هنا، ونحن نتحدث عن مصداقية الديمقراطية، أن نتغاضى عن دور التكلفة المالية للحملات الانتخابية، والتي لا سقف لها، بما يكشف، كما تقول إحدى الدراسات عن تحول الولايات المتحدة إلى «ديمقراطية تمويلية « يتسم خلالها التسابق من أجل جمع التمويل للفوز في الانتخابات، وعادة من قبل جماعات الضغط و الشركات الكبرى التي يمكن اعتبارها «نفوذا غير منتخب» على نحو يقوض من الديمقراطية. ويبدو كما لو كان شراء للنفوذ و فرض سياسات بعينها على المرشح الفائز. والحقيقة أن هذا التمويل لا يتوقف على الحملات الانتخابية ، بل هو ثابت ودائم للحزبين الكبيرين، وبجانب استعمال وسائل الإعلام والتواصل بكثافة في الحملات الانتخابية،وفي مجموع أدوارها المنحازة في العادة لكل من الحزبين. ولحرج الشركات التي كانت تدعم الحزب الجمهوري ومرشحه ترامب ، بعد صدمة الكابيتول ، أعلن بعضها من مائتي شركة تعليق دعمها المالي لمدد مختلفة، للحزب ولبعض زعمائه . وليست أمريكا إلا النموذج الأقصى لتدخل الرأسمال السياسي في كافة البلدان الرأسمالية. وكأن الانتخابات في النهاية ليست أكثر من الحق القانوني الذي يسمح به للمواطن لكي يختار من بين وكلاء الرأسمالية من سيحكمهم للمدة الدستورية القادمة. هذا التقييم يعود بالذاكرة إلى النقد الأصلي القديم الذي وجهته الحركة الاشتراكية لقصور الديمقراطية الليبرالية البنيوي والتاريخي، والذي لم يفقد وجاهته إلى اليوم. لا سيما ونحن نتحدث عن مجتمع يملك فيه واحد في المائة فقط، وفق بعض التقديرات الأخيرة أزيد من 25% من الدخل الإجمالي، وهي نسبة تقل كثيرا عما رفعته سابقا حركة «احتلوا وول ستريت» وبالمناسبة هي حركة راديكالية تشي بأن تكرار أمثالها ليس مستحيلا في المستقبل . يبين لنا هذا الواقع القوة الهائلة التي في حوزة هذه «الطبقة» بتشابكاتها مع ما يسمى «بالدولة العميقة». فما هي إذن توجهات الإدارة الجديدة؟
كان من الطبيعي أن تحظى الشؤون الوطنية الداخلية بالأولوية في الخيارات المتزامنة للإدارة الجديدة، وعلى رأسها، من جهة، تنظيم العناية الفائقة بالحملة الوطنية للقضاء على انتشار الكوليرا بأرقام عالمية قياسية, فاقمت من التناقضات الداخلية، و شوهت صورة «التفوق» التي تفاخرت بها الولايات المتحدة في الخارج . ومن جهة ثانية، تحريك عجلة الاقتصاد للخروج من الكساد وتزايد البطالة و الفقر ، بضخ أموال تقدر بنحو تريليونين دولار للمؤسسات الإنتاجية ولدعم الفئات الفقيرة و رفع الحد الأدنى للأجور. وهذا بحسب المشروع الديمقراطي والذي لا يوافق على مبلغه الضخم الجمهوريون. ومن جهة ثالثة استعادة ثقة المجتمع الأمريكي في مؤسساته واسترجاع روح التضامن والتوازن بينها، وبعد الهزة العنيفة والشروخ التي أحدثتها الولاية الترامبية.
من السابق لأوانه البحث في نتائج كل هذه الاختيارات، و خاصة جانبها الاقتصادي الاجتماعي . و الملفت العاجل من بين خطواتها الأولى، إحالة ترامب للمحكمة التشريعية الثانية بهدف إدانته وتجريده من أية مسؤولية قادمة. ولأن هذا الغرض سيحتاج إلى ثلثي مجلس الشيوخ، فالأرجح أنه لن يتحقق لخشية أغلب الجمهوريين فيه من الانتخابات النصفية القادمة، ولتأثيراته الضارة بالحزب الجمهوري عامة. ومن غير المستبعد ، حتى و لو فلت ترامب من الإدانة ، أن تؤدي هذه المحاكمة إلى انشقاقات داخل الحزب الجمهوري من شأنها أن تحدث تغييرات على البنية الحزبية التقليدية التي حكمت أمريكا في جل ماضيها. و الراجح في الحصيلة، أن أزمة الثقة، حتى لو تضاءلت قليلا ، سوف تبقى كامنة و قابلة للتجدد والاتساع من الجانبين. من جهة اليمين العنصري الأبيض والمسلح، حتى لو نجح الديمقراطيون في فرض قانون يضبط ويحد من حيازة الأسلحة. ومن جهة اليسار الذي يمثله جيل الشباب، والذي يميل إلى العزوف الانتخابي لشعوره بالنكسة في كل مرة وثق فيها بقيادة الحزب الديمقراطي’ و بعد كل استنهاض تخذل مطالبه وخياراته. ومن هذه الزاوية أيضا، فإن الانفتاح الذي أظهرته الإدارة الجديدة على الأقليات بوجه عام، والإجراءات التي تعتزم القيام بها في إصلاح المنظومة الجنائية والسلوكيات العنصرية للشرطة وإلغاء القيود التي فرضها ترامب على الهجرة والتوطين، وغيرها ، ستبقى في النهاية محدودة الفائدة في الزمن الممتد، لأن بنيتها الأصيلة متداخلة مع المتفاوتات الاجتماعية التي ستظل قائمة.
وتأتي السياسة الخارجية لدولة تصارع من أجل بقاء هيمنتها الامبريالية. وكما جاء في أول خطاب لبايدن في هذا الشأن :» ها هي أمريكا تعود، وها هي الدبلوماسية تعود «. غير أنني سأكتفي في هذه المقالة بتوصيف عام للاستراتيجية الأمريكية، وسأعود لتفاصيلها في مقالات لاحقة، وخاصة في بؤر التوتر العالية الحاكمة على مستقبلها.
وهكذا، يمكن توصيف الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وحتى السابقة لها، على أنها استراتيجية دفاعية، كيفما اختلفت الأساليب الدبلوماسية والعملية بينهما. لأن هذا الاختلاف للوصول إلى نفس الأهداف المتوخاة، لا يلغي في حقيقته الموضوعية، أن «الوضع الاستراتيجي» الأمريكي هو وضع «دفاعي « يصبو إلى وقف تراجع انفراد الهيمنة الأمريكية على المستوى الدولي، أمام تصاعد القوة الاقتصادية الصينية وتزايد النفوذ الدولي لروسيا ذات القوة العسكرية المنافسة. وهما «العدوان» الثابتان في الاستراتيجية الأمريكية منذ أن عجزت على فرض هيمنة القطب الواحد، الذي بشر به جورج بوش للقرن الواحد والعشرين فور انهيار الاتحاد السوفيتي .
والفرق الجوهري بين الإدارة الجديدة وسابقتها الترامبية، أن الأخيرة اعتمدت تكتيكا اندفاعيا وانعزاليا في جميع بؤر الصراع و مجالات المنافسة، وحتى مع الحلفاء الكبار المفترضين . بينما تسعى الإدارة الجديدة إلى نهج تكتكة مرنة ومزدوجة، خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء «كرقصة الملاكم الحذق»، و هي تعول في هذا المسعى على «قوة تحريك» تقوم على تشبيك تحالفات دولية متنوعة بحسب اختلاف حاجيات الخريطة الجيوبوليتيكية الأمريكية، وفي مقدمتها، استعادة تنشيط التحالف الأمريكي – الأوروبي ومحوره الحلف الأطلسي، بعدما أخلت به الانعزالية الترامبية.
ولأن التدخل الأمريكي العسكري المباشر بات مكلفا بشريا وماديا، ومكروها من لدن الرأي العام الداخلي والخارجي، ناهيك عن توتيره للاحتكاكات دولية مقابلة، فإن التنافس العسكري في جميع مستوياته سيبقى في جميع الأحوال قوة ردع لأزمة ( بصرف النظر عن إمكان تجديد الاتفاق مع روسيا الاتحادية حول الحد من بعض أنواع الأسلحة الاستراتيجية)، ومع تعويض التدخل المباشر بما هو معروف في حروب الجيل الرابع، لاسيما الحرب السبرانية وغيرها،
وأخص منها تنشيط الاختراقات الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية ضد الأنظمة التي تستهدفها تحت عناوين اللبرالية والحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو سلاح بات متاحا وفعالا لها في أغلب المجتمعات التي تسعى إلى الاستقلالية الوطنية وتواجه بالتالي مصاعب وتحديات التحرر الوطني في عصر العولمة. فهل يستطيع هذا النهج الجديد أن ينجز ما عجزت عنه الاندفاعات الترامبية الانعزالية والابتزازية ؟
في حسابات تقدير المستقبل، ليس هينا أن تفشل الاندفاعات الترامبية، وقد استعملت في موازين القوى الدولية المتاحة لها، أقصى ما تملكه الولايات المتحدة من قدرات في الحروب التجارية وتشديد العقوبات الاقتصادية في أعلى درجاتها شراسة والاستهانة بكل المؤسسات والتوافقات والمعاهدات الدولية ، واستنفار وكلائها المحليين لإحداث انقلابات سريعة على أنظمتهم، ومع ذلك، بقيت الصين قوة اقتصادية وتكنولوجية صاعدة حتى خلال الجائحة التي عمت العالم، وأخرت اقتصاديات الغرب بما فيه الولايات المتحدة، وزادت روسيا الاتحادية نفوذا دوليا ومناعة داخلية وجيو بوليتيكية، بينما الحليف الأوربي المعول عليه، لا تستطيع دوله الوقوف مجتمعة على سياسة موحدة ومستقرة تجاه الصين أو روسيا الاتحادية، رغم كل مظاهر التواطؤ والعقوبات والتوترات تجاه أي منهما. وبريطانيا التي خرجت من الاتحاد ما زالت تعاني من مآزق شتى قد تطال وحدة المملكة نفسها. وفي جميع بؤر التوتر الأخرى في العالم تجد الولايات المتحدة نفسها مرغمة على التهدئة أو إيجاد تسوية ما تحررها نسبيا من الورطات التي ما انفكت تتخبط فيها.
وإذا كانت هذه هي حالة «الوضع الاستراتيجي الدفاعي» للولايات المتحدة ، فهل من المتوقع أن تقلب تراجعها إلى تفوق انفرادي، و هي عليلة ؟ مصيبة العقلانية البرغماتية الامبريالية هي دائما حولاء يغريها الطمع الامبريالي، ويدفع بها إلى مآزق غير متوقعة، كما جرى في كل البؤر التي هي من أشعلها، وتبحث اليوم عن مخرج لها بأقل الخسارات، لأن العقلية البرغماتية الامبريالية دائما حولاء، ودائما على حساب الرؤية العقلانية الإنسانية العادلة … و هذا ما سنتناوله بالوقائع في مقالات لاحقة.


الكاتب : محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 17/02/2021