طيلة القرن الماضي، استعجلنا تغيير العالم، وقد حان الوقت من أجل إعادة فهمه.
فأمام جنون التحول الذي يأخذنا اليوم في تياره، نحتاج لأخذ بعض المسافة والشروع في «التعلم
في سنة 1936، خلال مواجهة شهيرة داخل جامعة سلامنكا، صرخ الكاتب الاسباني، ميغيل دي أونامونو، في وجه أتباع فرانكو قائلا : « سنُهزم على أيديكم لكننا لن نقتنع أبدا».
يبدو أن اليسار اليوم، لا يملك سوى هذا الرد في مواجهة الرأسمالية العالمية المنتصرة. هل سيظل محكوما على اليسار – الذي غالبا ما يُقنع إذا ما تعلق الأمر بتفسير أسباب هزيمته – بالإقناع دون الانتصار؟
في أطروحته الحادية عشرة حول فويرباخ، يقول ماركس : « الفلاسفة لم يفعلوا شيئا سوى تفسير العالم بطرق شتى، لكن الأهم يظل هو تغييره.» لكن، هل فعلا اقتصر الفلاسفة، قبل ماركس، على تفسير العالم فحسب؟ ألم يسعوا أيضا إلى تغييره بشكل جذري بداية من أفلاطون الذي سافر إلى جزيرة سيركوسا من أجل إقناع الطاغية دنيسيوس بتطبيق الإصلاحات التي اقترحها عليه؟
من ضمن كل الفلاسفة، ربما يظل هيجل هو الوحيد الذي اقتصر على التأمل المحض، الوحيد الذي أهمل كل مشروع مستقبلي وعكف على وصف الحاضر كما هو. ومن المفارقات، أن يكون ذلك سببا في جعل فلسفته نقطة بداية لمحاولات تغيير العالم الأكثر راديكالية.
يذكرني هذا الأمر بنكتة سوفياتية قديمة. تحت مظلة الحكم الاشتراكي، لم يكن لينين يمل من دعوة الشباب إلى « التعلم، التعلم، التعلم». كان هذا الشعار مثبتا على أسوار معظم المدارس. النكتة هي كالتالي : يُحكى أنه قد طُلب من ماركس، انجلز ولينين أن يختاروا ما بين أن تكون لهم زوجة أو عشيقة. ماركس، بأخلاقه المحافظة، سيختار، دون تردد، الزوجة. انجلز، ككل محب للحياة، سيختار العشيقة. وأمام اندهاش الجميع، سيختار لينين الاثنتين معا. هل نفهم من ذلك أنه، خلف قناع المناضل الزاهد، كان يقبع المتعوي المنحل؟ ليس الأمر كذلك. لينين يشرح موقفه قائلا : « سأقول لزوجتي بأنني ذاهب لرؤية عشيقتي، ولعشيقتي بأنني ذاهب لزيارة زوجتي: ما الذي بوسعنا فعله في مواجهة الرأسمالية العالمية؟ ما الذي بوسعنا فعله؟
سأجيب بكل صدق» هذا بالضبط ما قام به بعد كارثة 1914 : فقد انسحب إلى أعماق سويسرا من أجل الغوص في «منطق» هيجل. فأمام جنون التحول الذي يأخذنا اليوم في تياره، نحتاج لأخذ بعض المسافة والشروع في «التعلم، التعلم، التعلم» لأنه قد أصبح بديهيا افتقادنا للمعالم الضرورية من أجل التوجه في هذا العالم، الذي هو عالمنا في نهاية المطاف.
أول ما يمكننا فعله، هو عدم الانجراف وراء إغراء التصرف، وعدم التسرع من أجل تغيير العالم (وبالتالي تجنب إمكانية الاصطدام بالحائط: ماذا بوسعنا فعله في مواجهة الرأسمالية العالمية؟).
الأجدر بنا أن نعمل على إزالة اللثام عن مختلف مظاهر الهيمنة في هذه الإيديولوجيا.
في الحقيقة، لحظتنا التاريخية الحالية هي نفسها لحظة أدورنو : على سؤال : «ماذا بوسعنا فعله؟ «. سأجيب بكل صدق: «لا أعرف شيئا». كل ما أستطيعه، هو العمل على تحليل الأشياء كما هي. سيعترض أحدهم بالقول، أن كل محاولة نقدية تستدعي اقترحا إصلاحيا. ينبغي التذكير، بأن الأمر هنا، لا يعدو أن يكون حكما مسبقا بورجوازيا. كثيرا ما حدث عبر التاريخ. إن الأعمال التي سُطرت لها أهداف نظرية محضة، هي نفسها التي أحدثت تغييرا في العقليات، وبالتالي، في الواقع الاجتماعي.
إذا قررنا اليوم الانخراط في العمل الميداني، فلن يأتي هذا الفعل ليُسجل فوق صفحة بيضاء، بل على العكس من ذلك، سيكون ضمن سياق أيديولوجية مهيمنة. أولئك الذي يرغبون فعلا في مساعدة أقرانهم، سيختارون الانخراط في صفوف أطباء بلا حدود أو كرينبيس Greenpeace، أو سيشاركون في حملات للنسويين أو ضد الميز العنصري. كلها أشكال نضالية يسمح بها الإعلام وقد يساندها أحيانا، رغم أنها قد تقتحم الميدان الاقتصادي(عن طريق التنديد ومقاطعة المقاولات التي لا تحترم البيئة أو تلك التي تقوم بتشغيل الأطفال، على سبيل المثال). ومع ذلك، فهذه الأشكال النضالية لا يُغض عنها الطرف، ولا تتمتع بالمساندة الإعلامية اللازمة، إلا أنها لا تتجاوز حدودا بعينها.
لكل هذه الأسباب، سأكون مجبرا على قلب أطروحة ماركس: طيلة القرن الماضي، استعجلنا تغيير العالم، وقد حان الوقت من أجل إعادة فهمه.