تـسلل

 

 

ـ 1 ـ

ما أن انتهيت من القراءة ، وهممت بالذهاب إلى الحمام ، حتى تشبثت يد دامية بأطراف ثوبك وشلت حركتك ، بصوت تحبسه حشرجة فاه صوت غريب :
ـ هل يرضيك ترضيك محاولة قتلي وتظل في أريكتك متفرجا !
استنفرت قوتك لكي التخلص من اليد الماسكة بك بإحكام ، برفق أول الأمر.حاولت التخلص من هذه الورطة الصادمة والمدهشة ولا تدرك هل هي حقيقة أو تهيؤات خيال، تمزق الثوب وزاد الضغط على يدك حد الشعور بالألم ، انتفضت وقاومت بقوة رافعا عقيرتك ناشدا الغوث ، لكن لم تجد صوتا إلا حشجرة تخنقنك ورغبة عارمة بأن تبل حلقك بحسوة ماء .

ـ 2 ـ

انتبهت إلى الغرفة كأنك تراها لأول مرة، فهالك أن تجدها مكتظة بشخصيات الرواية التي تسربت من بين الأسطر واستوت شخصيات بلحم وشحم وضجيج وصخب إلا الشخصية الرئيسية التي استندت إلى كرسي وشرعت تدخن غليونها وهي تملأ الغرفة بغيمات دخان تنفتل وسرعان ما تتلاشى .
تلمست هاتفك الخلوي عسى أن تحدث أحدا، لعلك تكون تحت تأثير مؤثرا ما، أو مجرد شطحات أوهام .
شلت حركاتك تماما، المرأة الشقراء التي كانت تثيرك كلما مررت على ذكرها في سرود الرواية، وحدها تبتسم برقة وتندس إلى جانبك في الفراش، وتوقظ أحصنة شهوتك الكامنة وقد غم عليك هل أنت في صحوة علم أو تحت سلطة كابوس.
بدأت تمرر أصابعها الناعمة على ظهرك وأنت تستسلم لتخديرلذيذ ينمل أطرافك بمتعة مستفزة للشهوة، كنت ترى في وجهها وجوه كل نساء ربطتك بهن خيبات وانكسارات عاطفية ومغامرات رومانسية تتوقف دوما في منتصف الطريق ، ولعلها تلك المرأة التي قضيت الساعات الطوال في مرسمك ولم تتمكن من إنجاز « بورتريه « يجسدها كما تتخيل، معاناة مريرة أن تعجز عن ترجمة إحساساتك التاوية في الأغــوار ألوانا، تفتح النافذة وتشعل سيجارة وتتابع بفضول عناق لقلاق لوليفته وهما يستوطنان برج عمود كهرباء.

ـ 3 ـ

وفي كل يوم ترسم وتمحو وتعيد الرسم، لتؤكد لنفسك القدرة على التعبيرما يمور في خلجات نفسك من حب ومهارة فرشاتك من فن، كنت تشعر بأن مازلت بعيدا عن تحقيق ما تريد وتصر على المتابعة مهما ترادف الليل والنهار، تغمض عينيك وتحاول تمثل طيفها أطول مدة ممكنة .
سجى الليل. نهضت من الفراش لتتأكد من إغلاق النوافذ والأبواب، عم المرسم هدوء ساد صمت مريب، وما أن اندسست للفراش ناشدا غفوة حتى تناهت إلى مسامعك رنات أصوات وضحكات مجلجلة ونباح متواصل، فتحت الجارور وتناولت حبة مسكن وعدت للفراش .
ضايقك رشق ومض المصورين وكاميرات النقل المباشر تحاصرك وتسد عليك الطريق، وبملابس نومك جروك إلى مرسمك، عالمك، أو النافذة التي تعبر من خلالها إلى العالم ، وكنت خلال سنوات قد تفرغت لورشة مرسمك مطلقا روتين وظيف لا يربطك إلا بالمنغصات، دوما كنت عاشقا لوضع بورتريهات عن شخصيات مؤثرة أو تربطك بها صلات حميمة، أو مجرد شغف بشخصيات تنتمي لعالم الفن والأدب وبكثرة إعجابك بها صارت جزءا منك، وتحمل آثارها في أعماقك، معلم المدرسة الذي علمك الحروف الأولى، جدتك التي كانت تروي لك في ليالي الشتاء حكايات كانت تسافر بك لدنيا بعيدة ،» شارلو» الذي أسال دموع الفرح من عينيك.. «فان كوخ» الذي جز شحمة أذنيه ليقدمهما هدية لحبيبته» إلى» بيكاسو»الذي كانت تثيرك مكعباته و»دالي» المتفنن في عرض شاربه و»الجاحظ» الساخر من بخلائه و»الحلاج» الذي قتلوه لزندقته و»رابعة العدوية «التي تحولت من غانية يفتتن بجمالها الرجال إلى زاهدة عابدة و»ولادة بنت المستكفي» التي فتحت أشهر صالون أدبي تنافس فيه وزراء وشعراء الأندلس على حب ولادة ،» فاطمة المرنيسي» التي عكست أحلام شهرزادات المجهضة، و»أحمد بوزفور» الذي أخلص لفن القصة وجعلها غزالة، تركض في البراري مشتعلة و «محمد زفزاف» الذي عاش وبصحبته أنس غيلم ، و»عبد الجبار السحيمي» الذي جعل من خط يده حرفا ينفذ للقلب و»نجيب محفوظ» الذي جال بك في أحياء قاهرة، كنت تفكر في معرض خاص بالبورتريهات، وكنت تقضي وقتا دارسا بعمق هؤلاء الشخصيات التي أنشددت إليها، كنت تكتفي « بسندويتش» يسد الرمق بتطبيق « نتسخر ليك « وتدمن خلال عملك السجائر والقهوة السادة ، وكلما مر الوقت تشربها باردة مقززة.

ـ 4 ـ

كنت في صغرك صائد فراشات، حيث تحنطها وتضعها في إطارات زجاجية وتزين بها غرفتك، وفي عيد ميلاد معلمتك للغة الفرنسية مادام « لونا» أهديتها لوحة فراشات، قبلتك وعانقتك وهي تقول للتلاميذ المنبهرين «صفقوا للفنان الصغير سيكون له مستقبل كبيرا» ، تبادل التلاميذ نظرات الإستغراب تتراوح بين الحسد والإعجاب .

ـ 5 ـ

نجحت في الحفاظ على فراشاتك سنوات طوال وأنت بين المرة والآخرى تراجع مادة تعقيمها حتى لا تتعرض للتعرية والانمحال. غفلت في قعر زجاجة عن حشرة بتاج عجيب وبخطوط مزركشة، سرعان ماتجمدت وهممت بفتح الزجاجة إذ هي تسسلل من فوهة الزجاجة وتفرد جناحيها وتطير بشكل بديع هالك شكلها وعصرت ذهنك عصرا عسى أن تتمكن من رسمها رسمتها في أوضاع مختلفة وكتبت تحتها « الحشرة الماسية «، لكن لم تنتبه لشكاوى الجيران الذين يشتكون بأن حشرات تخرج من بيتك وتزن زنينا عجيبا ترقص وتحوم على العمارة وسرعان ما تنتشر في المدينة، كنت متأكدا بأن تلك مجرد ادعاءات حارس العمارة العجوز وتخاريف جارتك المصابة بالزهايمر، ولكن هذه الليلة قطعت الشك باليقين وأنت ترى لوحة الحشرة الماسية تخرج منها فتائل رقيقة تتحول وتتحور لشرنقات عظيمة يخرج منها سيل من الحشرات تتصاغر حتى تتبدد في الأفق .

ـ 6 ـ

الشخصيات الروائية تسللت من أسر الصفحات ونشأت تتجول في المعرض وكل الإهتمام انصب على تلك الحشرة الماسية الخلابة للنظر، كان أبطال الرواية يمعنون في الأسئلة الدقيقة، الحشرة لا ترى بالعين المجردة، وكيف استطعت إن ترسمها بهذه الدقة المتناهية وقد أمست حشرة تهدد صحة العالم ، بل واجهك البطل الرئيسي وهو يرضع غليونه بشكل منفر : «لماذا لا تكون أنت الذي سببت للعالم الإصابة بمرض الكورونا أو مايسمى الكوفيد 19 وقد أعددتها لمدة طويلة قبل أن تطلقها في الهواء.

ـ 7 ـ

أسقط في يدك. غامت الرؤية أمامك ، تضاعف الحشد في مرسمك، تحولت لوحات إلى قطع ديكور في يد شخصيات الرواية ، شكلوا قاعة وكراسي ونادى الحاجب منبها الحضور :

ـ محكمة !
تحول المرسم إلى محكمة بكامل طاقمها ، كانت الشقراء الجميلة قد تزيت بالأسود ونصبت نفسها مدافعة عني، أما الرجل فقد تسربل بالشاش ودرج على كرسي متحرك وهو يقوم بدور المدعي العام .
وقف رجل نحيل بنظرات طبية، يحك أرنبة أنفه بشكل مقرف، من وراء القضبان قالوا بأنه هو مؤلف الرواية وهو من حاول عن سبق إصرار وترصد قتل إحدى شخصيات الرواية ، وأنا أحضر بصفتي مشاركا ومتواطئا في الجريمة كقارئ شاهد على الوقائع.
طرق القاضي بمطرقته :
ـ أرجوكم إلتزام الصمت .
ثم وجه كلامه للمؤلف : – بأي مبررحاولت قتل الرجل بمجرد أنه لم يضحك لنكتة قالها معتوه بحان ؟
بصوت خفيض تكلم المؤلف، لم يسمع القاضي كلامه وخاطبه :
ـ ارفع صوتك حتى يسمعك من في القاعة ؟
قال المؤلف محاولا الكلام بصوت مسموع:
ـ في كتاباتي لدي الحرية بأن أبقي وأميت من أشاء أنا أتحكم في قدر أبطالي .
ولا أحد يتدخل في عوالم روايتي إلا النقاد والقراء ، وأعتقد أن الحديث عن الرواية يجب أن يكون خارج هذا المكان، لأن الحديث عن الرواية لايليق بمحكمتكم الموقرة .
القاضي منتفضا :
ـ أنت تهين المحكمة وتحقر وقار المحكمة بكلامك !
تقدمت الشقراء مدافعة :
ـ سيدي القاضي السادة المستشارين، السيد وكيل الحق العام ، لا أحد يحاكم الخيال ولموكلي الحق أن يكتب ويقول مايشاء ، فالكتابة طائر يحلق في سماء الورق بأكثر من جناح .
ثم التفت إلى القاضي :
ـ ليحضر الشاهد .
بخطى متعثرة وقفت شاخصا أمام المنصة ، كانت الأنظار مسلطة عليك بين مبتسم ومتجهم وحدها المرأة المدافعة الشقراء تشجعك بابتسامة واسعة .
نبر القاضي :
ـ لماذا كركرت بالضحك حتى أدمعت عيناك وأنت تقرأ بأن الرجل لم يضحك للنكتة وتعرض للعدوان من قبل المؤلف. ماهذا التشفي فمن حقه أن لايضحك إن كانت النكتة مبتذلة أو سمجة أو لا تعجبه النكت على الإطلاق .
ثم وجه دفة الحديث مشيرا بسبابته إليك :
ـ أنت أولى بأن نقدم ملفك ليعرض أمام أنظار المحكمة .
فتح عوينات نظارته وأخرج أوراقا متفحصا :
ـ أنت أيها الفنان التشكيلي الذي تدعي ممارسة الجمال أنت أكبر مجرم عرفته البشرية على الإطلاق !
آه أنت أنت صاحب سر كورونا والفيروسات الضارة، فقد أتعبت المخابرات التي كانت تحسب بأن الكوفيد تسلل من أحد المختبرات كأحد الأسلحة الفتاكة المدمرة للحياة البشرية، إذ بها تتسلل من من مرسمك أو الأحرى مختبرك السري الذي تطورفيه خبرتك في صناعة الفروسات والجراثيم لحروب قادمة تهدد البشرية في الصميم .
المحامية تتدخل :
ـ سيدي القاضي المحترم أراك تخلط بين المواضيع فمن تهمة موجهة للمؤلف المعتدي على أحد أبطاله إلى اتهام موكلي بصناعة فيروس كورونا أو مايسمى بالكوفيد ، فقد كان منذ صغره مولعا بجمع الفراشات، وكان يعمد إلى تحنيطها ووضعها في إطارات ويزين بها غرفته لأنه يحبها حبا جما .
النائب عن الحق العام صارخا :
ـ أريد أن تطبق أشد العقوبات على المؤلف الذي كان ينوي القيام بجريمة القتل ، كما على محكمتكم الموقرة أن تدين القارئ المتواطئ والذي لم يتدخل ولم يسع إلى إنقاذ شخص في خطر !
المحامية مترافعة وقد استبدت بها فورة غضب :
ـ سيدي القاضي السادة المستشارين السيد النائب عن الحق العام ، أعتقد بأن محكمتنا فقدت مصداقيتها وواقعيتها ودخلنا في مهاترات سوريالية.
المدعي العام معترضا :
ـ المحكمة دوما في خدمة الصالح العام وحافظة للعدل والقانون، ومن فضل المحامية المحترمة أن تسحب كلمة سوريالية لأنها تصف جهودنا بالعبث .
المحامية وقد استبد بها الحنق :
ـ الكل يعود إلى موقعه الحقيقي في الرواية .
القاضي محتجا :
ـ أنا الآمر الناهي في هذه المحكمة ولا أحد له الحق في التدخل في اختصاصي .
تقدم حاجب المحكمة ودس في يده ورقة .
تهامس القاضي مع مستشاريه برهة بعدما ألقى نظرة إلى الورقة ، ثم طرق طرقات :
ـ هذه القضايا تتجاوزنا سوف نحيل كل مايتعلق بهذه القضية للمحمكة العليا ، لأنها تمس أمن وصحة الإنسان وبه الإعلام رفعت الجلسة :
ـ محكمة !


الكاتب : المصطفى كليتي

  

بتاريخ : 18/03/2022