تفاصيل دفن جثة الشهيد بن بركة كما روتها لوموند

في الساعة السادسة والنصف صباحًا، وصلت الجثة التي كانت ما تزال دافئة داخل سيارة «رونو 16». كانت ملفوفة ببطانية صوفية. أصدر دليمي الأمر بإنزالها ثم بوضعها في الحفرة. سكب العملاء الإسرائيليون الملح والجير. دلواً بعد آخر، امتلأت الحفرة ببطء. بعد ذلك أُعيدت التربة إلى مكانها، وسُوِّي السطح، ومُحيت الآثار. في السابعة صباحًا كان كل شيء قد انتهى.
قال كينان لاحقًا: «كان علينا أن نكون فعّالين وسريعين، فلا أحد يجب أن يشك في شيء، لا الفلاحون المجاورون، ولا رجال الجمارك، ولا الشرطة».
تأكد الدليمي من أن لا شيء بارز فوق الأرض. ألقى نظرة أخيرة على شجرة الصنوبر، تفحّص المكان المحيط، ثم استأنف طريقه نحو جنيف. وقبل الظهر، كان قد عاد أدراجه إلى فرنسا عبر الطريق نفسه متجهًا إلى باريس.
في ذلك اليوم، 31 أكتوبر 1965، محا المغرب وفرنسا وإسرائيل، معًا، آخر أثر مرئي للرجل الذي اختُطف قبل عشرة أيام في قلب باريس. لم يكن ينبغي أن يبقى أيّ وثيقة أو صورة أو كلمة. غير أن الشهود يتحدثون أخيرًا بعد مرور ستين عامًا. وتؤكد رواياتهم المتقاطعة ما كان كثيرون يشتبهون فيه منذ زمن: إن اختفاء المهدي بنبركة كان ثمرة تعاون سري بين ثلاث دول.
في صباح 2 نونبر 1965 ، توجه عميل الموساد (عتار) إلى متجر «إينو-BJ»، فائق الحداثة – وهو الأول في باريس الذي يجمع بين الأغذية والملابس والأدوات، كما أنه الأول الذي يتوفر على نظام «الخروج الذاتي» مع عدة صناديق للدفع عند المخرج- يقع بجوار متجر «لا ساماريتين»، على رصيف «ميجيسيري». وهكذا، في التوقف التالي، سيملأ صندوق سيارته بالبضائع. هناك يشتري مجرفتين، سيقوم بنشر مقابضهما ليقصّر طول كل واحدة منهما إلى ثمانين سنتيمترا؛ لتتمكّنا، مثل المعول، من الدخول في الحقيبة القماشية الكبيرة التي اشتراها أيضًا. كما وضع في الحقيبة مصباحين يدويين، ومفكّ براغٍ، وحجرًا لشحذ الأدوات. أما المساحة المتبقية، فملأها بخمسة عشر دلوًا الصودا الكاوي (الما القاطعة/كلوريد الصوديوم) التي كان من الممكن أن تثير الانتباه. ذلك أنها تستخدم لإزالة انسداد الأحواض، ولكن بسببقوتها التآكلية القادرة على حرق الجلد، لن يشتري أحد كل هذه الكمية لتخزينها في منزله، لما يمثل ذلك من خطورة.
كانت الساعة التاسعة مساء حين وضع «عتار» وعميل آخر (راشيم) الحقيبة في صالون شقة من أربع غرف في سان كلو، غرب باريس التي كانت هي «المخبأ» الذي يستأجره الموساد، منذ 5 أكتوبر، لفائدة رجال الكاب 1، والتي لم يسلم مفاتيحا الدليمي إلا في ذلك اليوم. وبعد أن أغلقوا باب الشقة خلفهم دون إحداث أي ضجة، نزل العميلان الدرج وخرجا من المبنى الجديد تماما، رقم 26، بارك بيرينجير. ثم وقفا على بعد مسافة قصيرة ، غير مرئيين تحت شرفة.
وما إن مرت ربع ساعة، أسرع مما كان متوقعا، حتى توقفت سيارة أجرة على بعد حوالي 200 متر. نزل منها مغربيان واتجها نحو المبنى. توقفت سيارة الأجرة في انتظارهما، والمحرك يعمل، والمصابيح مضاءة. وبعد بضع دقائق، عاد المغربيان مع الحقيبة ووضعاها في الصندوق الخلفي لسيارة الأجرة التي انطلفت مجددا.
في باريس، حوالي الساعة 9:45 مساء، تم القبض على اثنين من عملاء الموساد من قبل الشرطة. كانت عملية تفتيش روتينية، حيث كانت المصابيح الخلفية لسيارتهم معطلة. فأظهر نفتالي كينان جواز سفره الدبلوماسي، وتقدم بالاعتذار. آنذاك سمح لهم الشرطي بالرحيل. ثم بعد ذلك بقليل، قام العملاء الإسرائيليون بتغيير سيارتهم على الرغم من ذلك – فقد كادت خطة الليلة أن تتعرض للخطر. ركبوا سيارة ”ميفوراش“ [عميل آخر من الموساد]، الذي كان يتبعهم.
وبعد الساعة 10 مساءً بقليل، دخل «ميفوراش» مقهى بالقرب من الشانزليزيه حيث كان بانتظارهم الدليمي واثنان من رجاله. بعد بضع دقائق، وحين أنهيا وضع إجراءات أمنية حول المقهى، انضم إليهم «كينان» و»أتار» الذي تعرف على الشرطيين المغربيين اللذين استلما، قبل ثلاثة أرباع الساعة، في سان كلو الحقيبة التي تحتوي على ”الأدوات“. أبلغ الدليمي الإسرائيليين أن اثنين من عملائه لم يصلا بعد. إنهم قادمون من المغرب مروراً بجنيف حتى لا يتركا آثاراً عند دخولهما فرنسا.
وبعد أحاديث عادية، انتقلت المحادثة إلى موضوع «العملية». حيث أخرج «ألبير» [الاسم الرمزي المطلق على الدليمي] خريطة عليها علامة سوداء تحدد مكان «بريجيت» [الاسم الرمزي الذي أطلقوه على بن بركة]، على بعد 30 كيلومترًا جنوب باريس»، بعد مطار أورلي. ثم سأل «ميفوراش» عن أفضل طريقة للوصول إلى هناك. في فترة ما بعد الظهر، وفي فندق أديلفي، كانوا قد درسوا ثلاثة خيارات: بعد تحديد المكان الذي احتجز فيه بن بركة مسبقا، يمكن لعميل من الموساد أن يكون بمثابة مرشد إما في سيارته أو في سيارة مستأجرة؛ وإلا، لتجنب الحاجة إلى تحديد المكان مسبقا، يمكنه أن يستقل سيارة أجرة ليتبعها المغاربة.
وبعد مداولات صعبة، تم اختيار الخيار الأخير، الأقل سوءًا في نظر «ميفوراش». غير أنهم توقفوا عن العمل بوصول رافي إيتان، الذي أخبرهم أن هناك حواجز شرطة عند مخارج باريس!“ لقد علموا بذلك عبر الراديو. يبدو أن الأمر يتعلق باختطاف بن باركة. «سنقوم بجولة في المكان ونعلمك بالنتائج!» هكذا قال إيتان قبل أن يغادر.
في الساعة 11:15 مساء. شرح «ميفوراش» للدليمي أن عملاء الموساد سيكونون أكثر فائدة في هذه الظروف إذا قاموا بدوريات على الطريق المؤدي إلى مطار أورلي. إذ يمكن لأحد عملاء الكاب 1 أن يستقل سيارة أجرة ليقودهم إلى مكان الاحتجاز. فوافق الدليمي على الفور.
شرح الدليمي خطته. بن بركة «محتجز» من قبل «الفرنسيين» الذين يريدون إخفاء «المعاملة» التي تعرض بها سجينهم. يصر دليمي على إقناع الفرنسيين بأنه جاء مع رجاله لإعادة بن بركة إلى المغرب. سيودعهم شاكراً إياهم على منحه حرية التصرف. إذا انتهت»العملية» في الليل، فسيعود رجاله على الفور إلى المغرب، أما هو وأحد مساعديه غير المشارك في العملية (مدير مكتبه، عبد الحق العشعاشي ، الموجود في باريس منذ يوم السبت) فسيبقيان «لبضعة أيام أخرى» بشكل رسمي، من أجل التحضير لزيارة الحسن الثاني في 11 نوفمبر، مؤكدا أنه «في الوقت الحالي، لم أتصل بعد بالسلطات الفرنسية، خوفًا من أن يتم تعقبي». يشكر العميلين الإسرائليين على «الأدوات»، ويسأل هل هناك تقنية أفضل من أخرى للقيام بذلك؟ يكتب «ميفوراش» في تقريره: «يا لي من مسكين لأنني أبدو في عينيه خبيراً في هذا المجال «.
يجيب مرتجلا: «يجب دائماً الاحتفاظ بالطبقة النباتية التي تمت إزالتها أولاً بصورة منفصلة، وإن أمكن سليمة، حتى يمكن إعادتها كما هي في النهاية. يقوم رجلان، يقفان بشكل قطري حتى لا يعيق أحدهما الآخر، بالحفر في نفس الوقت.
يتناوب الثنائي على العمل بوتيرة سريعة. يكفي حفر مستطيل بطول 60 سم وعرض 1,20 متر وعمق 1,50 متر. بالطبع، يجب معرفة كيفية «إدخال الجثة». وفي حوالي الساعة 11:30 مساء، ينضم إليهم الشرطيان المغربيان اللذان مرّا بجنيف.
تستمر المحادثة. «أين يجب إيقاف السيارة أثناء الحفر؟». يخبرهم الدليمي أن «عشرة كيلومترات» كافية للتأكد من عدم لفت الانتباه. غير أن «ميفوراش» يلفت انتباهه إلى أن ذلك يمثل مسافة طويلة للفريق الذي سيترك في وسط اللا مكان، وبدون سائق للحفر. يوافقه الدليمي الرأي. و»ماذا عن السيارة المستأجرة؟»، يسأل الدليمي، فيقترح ميفوراش» تنظيفها جيدًا، دون ترك أي آثار. بعد ذلك، يمكنه ركنها بالقرب من وكالة التأجير وإرسال المفاتيح إليهم بالبريد، مع توضيح من نوع «آسف حقا، طارئ عائلي، اضطررت للمغادرة في منتصف الليل، لكنني سأدفع لك عند زيارتي القادمة لباريس». سيكونون سعداء جدًا باستعادة سيارتهم ولن يثيروا أي مشكلة. فيوافق الدليمي على وجهة نظره.
يخبرهم إيتان أن الطريق آمن، وأنه لم يعد هناك حواجز. ينهض الجميع، ويمدون أطرافهم. يبدو دليمي «متوتراً بعض الشيء» عندما يقول: « آمل أن تسير الأمور على ما يرام، ولكن في حالة حدوث أي مشكلة و احتجت إلى مساعدتكم، هل يمكنكم الحضور إلى المكان لمساعدتي ؟».
بالاستعانة بخريطة موضوعة على زاوية الطاولة، تم الاتفاق بسرعة على «مكان للالتقاء، عند تقاطع طرق، على بعد حوالي 7 كيلومترات من مكان العملية». سيكفي الاتصال بـ الرقم المرتجل، وسيكون هناك دائمًا شخص ما، طوال الليل.
بعد أن شكر «ميفوراش» وزملاءه، غادر دليمي متبوعا برجاله. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل.
«وفقًا لجميع المؤشرات، ستنتهي القضية اليوم». هذه الرسالة، التي أرسلتها فرع الموساد في باريس في الساعة 1 صباحًا، لم يتبعها… أي شيء طوال صباح يوم الأربعاء 3 نوفمبر. في الساعة 1:15 ظهرًا فقط، أبلغت باريس المقر في تل أبيب أنها «تلقت رسالة هاتفية، لا تتطابق تمامًا مع ما تم الاتفاق عليه، ولكنها توحي بأن كل شيء سار على ما يرام. سنرسل لكم المزيد من الأخبار بمجرد توفرها». (…)
حوالي الساعة 5:30 مساءً، ”بالصدفة“، التقى دليمي و»ميفوراش» في المقهى القريب من الشانزليزيه حيث كانا قد التقيا في الليلة السابقة. (…) دليمي يروي ليلته، بشكل عفوي، في المقهى. ويشير إلى أنهم وصلوا «في الساعة 1:30 إلى المنزل الذي كان بن بركة محتجزا فيه» وأنه «أطلق سراح» الحراس الثلاثة قائلاً لهم إنهم سيقومون «بنقل» بن بركة إلى المغرب. حتى أنه أخبرهم أنه قد يتصل بهم مرة أخرى «في حال احتاج إلى مساعدتهم مرة أخرى». فعل ذلك «ليبعد عن أذهانهم فكرة أنه يريد التخلص من بريجيت [بن بركة]».
بعد مغادرة الحراس الفرنسيين، أعلن الدليمي لبن باركة أن لديه أسئلة يريد طرحها عليه وأنه هذه المرة سوف يتحدث…بدأ [الدليمي] الاستجواب، وعندما لم ترضيه الإجابات ، أخذوه إلى الحمام كما لو كانوا سيعذبونه، ”لكن هذا لم يكن صحيحًا“. دليمي يلفت انتباه محاوره، للتأكد من أنه فهم. في الواقع، بمجرد أن امتلأ حوض الاستحمام بالماء، بدلاً من غمر رأس بن بركة فقط، أبقوه «ثلاث دقائق هكذا» تحت الماء – مد دليمي ذراعه لأسفل، وراحة يده للأمام، لأنهم أنهوا إغراق بن بركة في حوض الاستحمام. «بعد ذلك، التقط الدليمي صورة لبن بركة، «لكي يصدقوني في الوطن أن الأمر قد انتهى حقًا»، أضاف، مازحًا.
لم يربك الدليمي وصول رافي إيتان، الذي أطلعه «ميفوراش» على لقائه العرضي مع نائب رئيس الأمن المغربي. بل على العكس من ذلك، بينما جاء إيتان لتنظيم ”جلسة استجواب“ رسمية مع نفتالي كينان، بدأ الدليمي الحديث معه عن المزايا النسبية بين «طريقة الحمام» و»طريقة الطب» [في إشارة إلى استخدام السم]. وهو يرى أن الطريقة الأخيرة جيدة فقط عندما يتوفر سم فوري المفعول، عديم اللون والرائحة، وسهل التناول. ولأنهم حذروه من أن هذا ليس هو الحال، فقد اختار الطريقة الأسهل. يخبره إيتان أن السم القاتل كان بالفعل في طريقه، وأنه وصل صباح اليوم (على متن رحلة طيران إل عال 44120). فعبر الدليمي عن رغبته في اختبار السمّين «عندما تسنح الفرصة، للمقارنة». يعده إيتان بإرسالهما إليه في المغرب…
بناءً على طلب رافي، يعيد الدليمي إليهم السم غير المستخدم، ومفاتيح «المخبأ» الذي استخدم كمستودع لـ»الأدوات» وجوازات السفر المزورة التي لم يحتاجوا إليها أيضًا. غير أن ال دليمي عبر عن رغبته في الاحتفاظ بجواز السفر الذي صُنع له، كـ»كتذكار».
غادر أحمد الدليمي العاصمة متجهًا نحو سويسرا. كان يخطط للتوقف في الثانية صباحًا بعد أن يقطع نحو أربعمئة كيلومتر، ثم يستأنف الطريق في السابعة. وعند الحدود، لم يطلب منه أحد فتح صندوق السيارة: كانت السيارة لا تزال نظيفة، ولوحتها الدبلوماسية قامت بالباقي.
لم يكن ينبغي أن تبقى أية آثار. نقل دليمي شركاءه إلى مزرعة مهجورة تبعد ثلاثين كيلومترًا جنوب جنيف. قام عملاء الموساد بإنزال الدِّلاء، وأعدّوا بطارية الصناديق، وبدأوا في حفر الأرض المتجمدة تحت أغصان شجرة صنوبر ضخمة. كان دليمي، المنحني فوق ساعته، يذكّرهم بضرورة الإسراع: ليس أمامه وقت طويل. وفي الساعة الخامسة صباحًا كانت الحفرة جاهزة.


بتاريخ : 29/10/2025