تفاعلا مع الدعوة الملكية خلال مناظرة مراكش.. إفريقيا والنموذج الصحي المتكامل بعيون خبراء مغاربة

شكّلت الرسالة الملكية الموجّهة للمشاركين في المناظرة الإفريقية الأولى للحدّ من المخاطر الصحية، التي احتضنتها مراكش، لحظة قوية وبالغة الأهمية بالنظر لحمولاتها المتعددة، التي تؤكد مرة أخرى طبيعة الرؤية الملكية للقارة الإفريقية، التي يجب أن تكون حاضنة للجميع، موحّدة ومتماسكة، قوية بتضامن كل دولها وبتآزرها وتكتلها لخدمة مواطنيها، وبالارتقاء بأوضاعها صحيا واقتصاديا واجتماعيا. لقد لامست الرسالة الملكية جانبا مهما هو مقدمة لبناء وتحقيق التنمية في أبعادها الشاملة، ألا وهو الجانب الصحي، إذ في غياب أمن صحي وفي ظل ضعف منظومات للرصد واليقظة والتشخيص والتكفل والعلاج، ستتسع هوّة دائرة التحديات وستتسبب في جملة من التداعيات، التي ستفرمل بالضرورة كل دوران لعجلة التنمية وستحدّ من مجهوداتها ليبقى وقعها نسبيا إن لم يكن ضعيفا وسيحول دون تحقيق الأهداف المسطّرة.
إن القارة الإفريقية الغنية بمواردها البشرية وبمصادرها الطبيعية، الفقيرة بتبعات هي نتاج لسياسات استعمارية عرفتها في مرحلة من مراحل حياتها، العليلة بأعطاب التحديات المناخية المختلفة، في حاجة إلى نهضة قوية، في «فترة يعرف فيها العالم تداخل الأزمات الأمنية والاقتصادية والبيئية، مع ما يترتب عنها من انعكاسات اجتماعية وإنسانية وصحية» كما جاء في مضمون الرسالة الملكية. وهنا تأتي دعوة جلالة الملك ذات البعد الاستباقي من أجل بناء نموذج صحي إفريقي متكامل، يمكّن القارة من «توحيد جهودها لمواجهة مختلف التحديات باعتماد سياسات استباقية ووقائية وتعبئة الإمكانات المتاحة لصيانة صحة وكرامة المواطن الإفريقي».
لقد استطاعت المملكة المغربية أن تكون قدوة بفضل سياستها في تدبير الجائحة الوبائية، ونموذجا جديرا بالاحتداء في سعيها لتحقيق السيادة الصحية، كما أنها تعتبر مصدرا ملهما للعديد من الدول وهي تقطع خطوات مهمة من أجل ضمان الحماية الاجتماعية وعلى رأسها تعميم التغطية الصحية، من أجل «تحسين ظروف عيش المواطنين، وصيانة كرامتهم، ودمقرطة ولوجهم للخدمات الصحية والاجتماعية، في إطار سياسة القرب، وتحقيق التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية والمجالية» كما ورد في الرسالة الملكية.
لقد عاشت القارة الإفريقية معضلات صحية متعددة، وخبرت جائحات وبائية مختلفة، ووجدت العديد من دولها نفسها أمام تحديات مناخية وبيئية وغذائية، مما كان له وقعه على مختلف مناحي الحياة اليومية، واليوم هي تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تعبئة جهودها وإمكانياتها، لكي تكون قادرة على مواجهة كل الأزمات، وعلى رأسها ذات الطابع الصحي، في إطار متضامن، من خلال سياسة شاملة تقوم على إشراك كل القطاعات وجميع المكونات، لا فقط القطاع الصحي، وضمنها القطاع الإعلامي، من أجل الرفع من التثقيف الصحي على مستوى التحسيس والتوعية، وتسليط الضوء على مختلف القضايا والتحديات الصحية، بكيفية تتجاوز الشكل وتضمن النفاذ إلى المضمون والعمق.

 

إمكانيات المغرب تخوله لكي يكون قاطرة للصحة في إفريقيا

 

ذ سعيد عفيف

لقد استطاع المغرب أن يقطع أشواطا صحية جد مهمة منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا، وتمكّن مرحلة تلو الأخرى من تطوير منظومته الصحية، بالرغم من تعدد التحديات واختلاف الإكراهات، التي تتوزع ما بين ما هو مالي وما هو بشري بالأساس، لكن ورغم ذلك فقد أسّس لسياسة صحية تنطلق من الإمكانيات المتوفرة لتوفير الحق في الصحة كما جاء في كل الدساتير لمختلف المواطنين.
عمل دؤوب، توقفت عجلته في فترات بحكم التقديرات السياسية المرتبطة بالظرفيات الانتخابية وبعض الحسابات الحزبية، لكنها تمكنت من توفير بنيات تحتية مهمة وإدراج برامج نوعية كان لها بالغ الأثر على الصحة العامة، كما هو الشأن بالنسبة للبرنامج الوطني للتلقيح والبرامج الصحية الأخرى المرتبطة بصحة الأم والطفل وتلك التي تخصّ التكفل بالأمراض المزمنة، إضافة إلى المجهود الجبار الذي تم القيام للحدّ من نسب انتشار السرطانات من خلال تشجيع ثقافة الفحص والكشف عنها والعلاج منها بشكل مبكر للرفع من نسب نجاح التدخلات العلاجية.
واقع صحي يطبعه التطور، خاصة مع العمل بالتغطية الصحية الإجبارية ودخول نظام المساعدة الطبية راميد حيز التنفيذ، بالرغم من الصعوبات المادية وارتفاع حجم الطلب أمام قلة الموارد البشرية، إذ شكّلت هذه المرحلة قفزة نوعية، تتعزز اليوم بخطوة أكثر أهمية والتي تتمثل في تعميم التغطية الصحية التي تعتبر أحد ركائز الورش الملكي للحماية الاجتماعية، لتشكل بلادنا بذلك نموذجا ملهما لدول أخرى، خاصة في إفريقيا للاستفادة من تجربتها في هذا الإطار، وتقاسم خبرتها في مجالات أخرى، كما هو الشأن بالنسبة للكيفية التي تم بها تدبير الجائحة الوبائية لفيروس كوفيد 19، والسعي نحو تحقيق السيادة الصحية وفقا لمنظور شمولي ومتكامل يجعل من الصحة أولوية أساسية.
إن الدعوة الملكية للتوفر على نموذج صحي إفريقي متكامل تأتي استمرارا للدعوات لتعزيز الشراكات جنوب جنوب والتي تتخذ أشكالا متعددة، ضمنها الشق الصحي، خاصة في ظل التحديات الصحية الكثيرة التي تعرفها القارة الإفريقية، والتي تتطلب تكتلا للجهود وتعبئة للإمكانيات والاستفادة من التجارب والخبرات، سواء لمزيد من الارتقاء بالصحة العامة وعلى رأسها صحة الأم والطفل، أو لمواجهة الأزمات الصحية والجائحات المرتبطة بتطور الفيروسات، أو لتعزيز الوقاية الصحية التي من شأنها أن تساهم في النهوض بصحة المجتمعات الإفريقية بشكل عام.
لقد قطع المغرب أشواطا جد مهمة من أجل تطوير منظومته الصحية، واليوم وفي إطار تحقيق الأمن الصحي يتم إحداث مجموعة من البنيات المهمة، كما هو الحال بالنسبة لوحدة بنسليمان لتصنيع اللقاحات، ولا ننسى في هذا الإطار الدور التاريخي والصحي لمعهد باستور المغرب والمركز المغربي لمحاربة التسممات واليقظة الدوائية إلى جانب المركز الوطني لمبحث وتحاقن الدم، كما أننا نتوفر على صناعة دوائية محلية جد محترمة، تتوفر فيها الجودة والكفاءة، والتي استطاعت في وقت سابق تحقيق نسبة 80 في المائة من الاكتفاء الدوائي فضلا عن تصدير نسبة مهمة من الأدوية نحو دول أخرى، كل هذه العوامل وأخرى، تخول للمغرب أن يكون قاطرة للصحة في إفريقيا، التي تعاني من نوع من اللاتكافؤ واللاعدالة الصحية مقارنة بما يعرفه العالم الغربي والدول المصنفة في خانة الدول المتقدمة، وهو الوضع الذي يجب أن يتغير خاصة وأن القارة الإفريقية هي قارة منتجة وساهمت في تحقيق الرفاه لتلك الدول وهي تستطيع بفضل بناتها وأبنائها أن تتميز، وهذا صلب الدعوة الملكية السديدة، التي نحن مستعدون جميعا لتلبيتها والعمل على تجسيد فلسفتها وترجمة روحها على أرض الواقع كمهنيين للصحة، سواء في القطاع العام أو الخاص.

*رئيس الجمعية المغربية للعلوم الطبية

 

تداعياتها ذات تأثيرات تطال البيئة والأشخاص

التغيرات المناخية التي تعيشها إفريقيا تتسبب في ارتفاع وتفشي العديد من الأمراض

ذ عبد العالي الطاهري*

تعتبر القارة الإفريقية الرقعة الجغرافية الأكثر تضررا من تبعات وآثار التغيرات المناخية على مستوى كوكب الأرض، ويجب التأكيد على أن أغلب الدول الإفريقية ما فتئت تذكر في كل مناسبة، خاصة في القمم المناخية بهذا الضرر وبتبعات التلوث الذي يعيش على إيقاعه كوكب الأرض، إضافة إلى أنها لا يمكن وبأي حال من الأحوال أن تتحمل لوحدها مسؤولية وتبعات ما ينتج عن التغيرات المناخية وآثارها، المتمثلة أساسا في موجات الجفاف والإجهاد الغذائي والمائي، خاصة في ظل عجز أغلب الحكومات على مستوى القارة الإفريقية عن تلبية حاجات شعوبها. كما تدعو هذه الدول في كل مناسبة على مستوى الاجتماعات والمنتديات والمؤتمرات الدولية والقارية إلى ضرورة اتخاذ إجراءات زجرية على المستوى العالمي والإقليمي والوطني وعلى مستوى كل دولة على حدة، تكون عاجلة وعملية من أجل تحقيق تطلعات شعوب وحكومات القارة الإفريقية لمواجهة تبعات وآثار التغيرات المناخية
وعلى مستوى الاتحاد الإفريقي كأكبر تجمع يضم الدول الإفريقية، فقد تمت الإشارة في العديد من المناسبات إلى أن الأولوية تكمن في مواجهة تداعيات التغيرات المناخية على دول القارة ضمن تحديات أخرى، مع الإشارة أن الحركة البينية في دول القارة الإفريقية لا تزال ضعيفة، وإلى أن ضعف القدرة الإنتاجية على مستوى الزارعة والطاقة وقطاعات أخرى داخل المنظومة الاقتصادية الإفريقية يساهم في عزل القارة وعدم استفادتها من عدد من البرامج الأممية والعالمية التي تتجه في مسار الحدّ من تبعات التغيرات المناخية ومن آثار الإجهاد المائي والأزمة المائية والغذائية والطاقية بالخصوص، التي باتت العنوان الأبرز لما يعيشه العالم خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. إلا أنه وعلى الرغم من تنديد الاتحاد الإفريقي كما أسلفنا في العديد من المناسبات بالسياسة الدولية التي لا تولي كبير اهتمام للقارة الإفريقية، التي تعتبر الأقل تلويثا لكوكب الأرض والأكثر تضررا منه ومن التبعات المناخية وتداعيات ونتائج الاحتباس الحراري، فإن القارة الإفريقية لا زالت لحد الساعة لم تستفد من برامج فعالة على المستوى العالمي ولا من الدعم المالي الذي لطالما تم الحديث عنه في أكثر من مناسبة، خاصة في القمم المناخية وضمنها قمة جلاسكو قبل قمة شرم الشيخ الأخيرة كوب 27 .
إن هذه التبعات المرتبطة بالتغيرات المناخية وبالإجهاد المائي والغذائي وبأزمات الطاقة بالقارة الإفريقية لها تبعات أخرى لا تقف عند حدود ما هو إيكولوجي وبيئي، بل تشمل كذلك وبدرجة أكبر ما هو صحي، لأن التغير المناخي بتبعاته الكبيرة والكارثية في بعض الأحيان وفي بعض المناطق من كوكب الأرض يكون من أكبر تجلياته السلبية الزيادة في معدلات العديد من الأمراض وتفشيها، وذلك بسبب عدم توفر أغلب الدول الإفريقية على بنية تحتية صحية قادرة على مواجهة هذا النوع من الأمراض، وهنا يمكن الوقوف عند الجائحة الوبائية الأخيرة لفيروس كورونا التي عرفها العالم والتي بيّنت كيف أن القارة الإفريقية تعيش هشاشة بنيوية وهيكلية على مستوى بنيتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية لمواجهة أي كارثة ذات بعد صحي أو إيكولوجي أو اقتصادي.

*خبير في التغيرات المناخية والحكامة الإيكولوجية

 

تحتاج إلى الاستثمار في بناء مجتمعات ذات بعد اجتماعي

الأمراض والنقائص السوسيواقتصادية تحدّ من فعالية الصحة في العديد من الدول الإفريقية

 

ذ سعيد المتوكل*

تتعدد وتتنوع التحديات الصحية التي تواجه القارة الإفريقية، التي تتصف فيها عدد من الدول بضعف منظوماتها الصحية التي تبقى بعيدة كل البعد عن تسهيل الولوج إلى العلاج، وإن كانت هناك فوارق كبيرة بين الدول.
إن دول إفريقيا تعرف نموا ديموغرافيا كبيرا يفوق مستويات النمو الضعيف أصلا في الكثير من الدول، مما يشكل هاجسا كبرا للدول ذات الدخل المحدود ويحد من فعالية المنظومات الصحية ذات الإمكانيات المتواضعة. وإلى جانب هذه المشاكل البنيوية هناك العديد من الأمراض المعدية التي لا تزال متفشية كالملاريا، السل، السيدا وفقدان المناعة الناتجة عنه، بالإضافة إلى الأمراض الناتجة عن سوء التغذية والمجاعة. كما أن ارتفاع متوسط العمر أدى كذلك إلى ظهور أمراض مزمنة مكلّفة تعجز الكثير من الدول على التكفل بها، فضلا عن أن هناك أمراضا متعلقة بالبيئة وبمحيط العيش كمرض إيبولا في وسط إفريقيا وغربها كما هو حاصل بالنسبة لمرضى فيروس القردة.
آفات متعددة نجد إلى جانبها كذلك الدور السلبي للمحددات السوسيو اقتصادية للصحة كضعف وسائل الاتصالات والشبكة الطرقية، والتجهيزات الضرورية للعيش كالماء الشروب والكهرباء وغياب المستشفيات والمراكز الصحة الأولية كالمستوصفات ومراكز التشخيص وندرة الأطر الطبية وشبه الطبية والأطقم الإدارية. ثم هناك معطى آخر أساسي يتمثل في ضعف التمويل المالي للمنظومات الصحية وغياب الحماية الاجتماعية الشاملة في الكثير الدول، علما بأنها الكفيلة بتسهيل الولوج إلى العلاج وضمان جودته.
إن جميع المؤشرات الصحية توجد في منطقة حمراء في الكثير من الدول، كارتفاع نسبة وفيات الحوامل عند الوضع، وارتفاع نسبة وفيات المواليد والرضع. كما تعرف إفريقيا أمراضا حديثة متعلقة بالمخدرات والتدخين إلى جانب الأمراض المتنقلة جنسيا التي تنتشر بنسبة كبيرة. كما أن هناك نقصا كبيرا في التكوين الطبي وشبه الطبي والبحث العلمي مع فوارق كبيرة على الصعيد القاري في الوقت الذي استطاعت فيه دول شمال إفريقيا والسنغال وجنوب إفريقيا ومصر بنسب كبيرة أن تتقدم في هذا الميدان، إلا أنه ومع كامل الأسف تبقى الإشكالات صعبة.
إن الحل لهذه المعضلات الصحية في إفريقيا يتطلب من الدول أن تستثمر في بناء مجتمعات ذات بعد اجتماعي يصبو إلى توفير إستراتيجيات ناجعة للنهوض بصحة المواطنين وتوفير اعتمادات مالية مناسبة والابتكار في تشجيع التضامن الاجتماعي، والاستثمار في التغطية الصحية الشاملة والحفاظ على كرامة المواطن، عبر خلق مناخ اجتماعي مستقر خال من الحروب الأهلية والاستقرار السياسي والعمل على تحسين المحددات السوسيو اقتصادية للصحة السالفة الذكر.
إن ضعف الموارد المالية و البنيات التحتية يتطلب كذالك التضامن الدولي والقاري الإفريقي وذلك في إطار تشاركي تقوم به منظمة الإتحاد الإفريقي التي تبقى مجهوداتها جد محتشمة في هذا الميدان وكذلك المنظمات الإقليمية الإفريقية. إن الدروس المستخلصة من تدبير جائحة الكوفيد-19 أظهرت أن أي وباء يظهر في أي جزء يمكن أن يصيب العالم كله في مقتل، لذا يجب على منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية أن تنخرطا بشكل فعال للنهوض بالمنظومات الصحية بإفريقيا ومساعدة الدول على تحسين وبناء منظومات صحية جديرة بالاسم في هذا الدول وإلا سيظل الخطر داهما وسنرى ظهور أمراضا قد اندثرت كالجدري ومرض الشلل والطاعون وهلمّ جرا.
إن بلادنا وما راكمته من تجارب ونجاحات يمكنها أن تساهم في إطار تضامني في المساعدة على التخفيف من النقائص في الميدان الطبي لمساعدة الدول الإفريقية على تطوير منظوماتها الصحية، والرفع من مستويات التكوين في الميدان الطبي وشبه الطبي والبيو تقني والإداري. إن المغرب ذو العمق الإفريقي قادر على أن يلعب دورا رياديا في هذا الميدان وما تنظيم المناظرة الإفريقية الأخيرة وجعلها تحت الرعاية السامية لخير دليل على ذلك.

*أستاذ بكلية الطب والصيدلة وباحث في مجال الصحة

 

بالنسبة لأوروبا وإفريقيا على حدّ سواء

المغرب يمكن أن يكون منصة للاستشفاء والبحث العلمي ولإنتاج الأدوية واللقاحات والمستلزمات الطبية

 

د. الطيب حمضي*

احتضنت مراكش قبل أيام مناظرة صحية ببعد إفريقي، عرفت مناقشة مجموعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك لكون الجميع يعيش اليوم في عالم معولم على مختلف الأصعدة والمستويات، بما فيها الجانب المرتبط بالمخاطر الصحية، لأن ظهور فيروس ما في دولة من الدول يمكن أن يتحول في بضعة أيام بسيطة إلى جائحة، خاصة في ظل عوامل متعددة تسهّل عملية التنقل والتفشي.
إن الخبراء في المجال الصحي يؤكدون على أنه منذ 40 سنة والعالم يعيش وباء كل ثلاث أو أربع سنوات، واليوم يتم الحديث عن الانتقال إلى مرحلة التعايش مع الجائحات مستقبلا، ورأينا كيف عانت القارة الإفريقية من أزمات صحية مختلفة كالسيدا وجنون البقر والإيبولا وجذري القردة، أخذا بعين الاعتبار أن انتقال المرض من رقعة جغرافية وانتشاره في أخرى قد لا يحدث بالضرورة، بالمقابل يمكن لبعض الأمراض أن تجد السبيل لذلك كما هو الحال بالنسبة للأنفلونزا الموسمية.
وتعرف إفريقيا العديد من المخاطر المرتبطة بما هو صحي والمتمثلة في أمراض الشيخوخة والأمراض المزمنة كداء السكري والضغط الدموي والسمنة وأمراض السرطانات، إضافة إلى الإدمان بأنواعه المختلفة، الواقعية والافتراضية، فضلا عن هجرة مواردها البشرية التي تغادر صوب دول الشمال، خاصة في المجال الصحي، وبالتالي فإن كل هذه الأمور تعتبر تحديات كبيرة تعرفها القارة.
خصاص يرتبط بكل تأكيد بمجموعة من الحاجيات، وهنا نقف عند دور المعرفة الطبية والعلمية التي تعتبر معرفة كونية متوفرة في العالم بأسره ولا إشكال في الوصول إليها، لكن هذا لا يمنع من طرح أسئلة من قبيل إن كانت المعرفة الطبية الخاصة باللقاحات والأدوية والأمراض كلها مناسبة لإفريقيا، وفي هذا الصدد يجب التوضيح بأن هناك بعض الدول في إفريقيا لا وجود للبحث العلمي بها فيما يخص بعض الأمراض، لأنها تعتبر سوقا ضعيفة من الناحية المالية ولا تتوفر على إمكانيات في هذا الصدد، كما هو الحال بالنسبة لمرض الملاريا الذي يقتل ملايين الناس منذ عقود وليس هناك لحد الساعة أي لقاح فعال ضده، بالرغم من لقاح أنتج مؤخرا الذي يبقى بارقة أمل لكنه ضعيف بعض الشيء.
هذا الوضع يؤكد على أن أمراض إفريقيا متروكة لنفسها، ويمكن الاستدلال كذلك في هذا الإطار بمرض السيدا الذي تعتبر أدويته مكلّفة وباهظة ولم تكن القارة قادرة على الوصول إليها، بالإضافة إلى أن مابين 150 و 160 دواء جديدا التي يتم ابتكارها عبر العالم نجد فقط 3 في المئة من الابتكارات الجديدة تهم أمراضا في إفريقيا، وهو ما يتطلب تطوير البحث العلمي الخاص بالقارة الإفريقية للوقوف على مشاكلها الصحية وخصائص الأمراض فيها وإيجاد حلول لها، وهو ما يمكن أن يتأتى بتوفير منصات علمية قارية وتكتل الجهود بين دول إفريقيا ككل لتحقيق التعاون جنوب جنوب من أجل القيام بهذه المهمة لأنه لا يمكن لدولة واحدة أن تقوم بذلك.
وإلى جانب ما سبق فإن هناك حاجة ماسة إلى تكوين أطباء وموارد بشرية صحية في إفريقيا لمواجهة هجرتها نحو دول الشمال، وضرورة تطوير إنتاج الأدوية لأنها تنتج فقط 5 في المئة من الحاجيات الدوائية و 1 في المئة من اللقاحات فقط التي تحتاجها بينما تستورد 95 في المئة والمستلزمات الطبية، وهنا يمكن للمغرب أن يكون مفيدا جدا بالنظر لتجربته وخبرته في التصنيع لأنه ينتج حوالي 70 في المئة من حاجياته الدوائية. خطوات يجب أن تكون مرفوقة بإحداث وتطوير مؤسسات الرصد والتتبع والإنذار لمعرفة تطور الأمراض في إفريقيا حتى تجد لها حلولا بشكل استباقي، سواء كانت أمراضا تعفنية فيروسية أو أخرى، لأنه في غياب مؤسسات مختصة لا يمكن التوفر على سياسات وقائية واستباقية.
إن جودة الصحة ترتبط بطبيعة السكن وبوضعية التقاعد وتوفر المياه ووجود دخل جيد والعيش في بيئة نقية وكل المحددات الأخرى التي تؤثر بنسبة 75 في المئة في صحة الإنسان، لأن المنظومة الصحية لا تؤثر إلا بنسبة 25 في المئة، لهذا لا بد من تصور شمولي عام للنهوض بالوضع الصحي في القارة ككل، وهنا يطرح سؤال التمويل، والمغرب مرة أخرى نجد أنه قد قطع أشواطا مهمة في هذا الباب، من خلال تعميم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية بشكل عام، وبالتالي يمكنه تقاسم تجربته إلى الكيفية التي دبّر بها الجائحة الوبائية، ونفس الأمر بالنسبة لموضوع الأبحاث السريرية بحكم توفره على منظومة قانونية وبنية تحتية وموارد بشرية مؤهلة، هذه التجربة التي يمكنه تقاسمها مع الدول الإفريقية وتطويرها وأن يقدم الإطار التشريعي في البحث العلمي وعرض نموذج وحدة بنسليمان التي تتيح إنتاج اللقاحات والأدوية الحيوية والقيام بالبحث العلمي الموجهة للمغرب ولإفريقيا، إذ أنه يمكن لبلادنا في السنتين المقبلتين أو أكثر إنتاج 60 في المئة من حاجيات إفريقيا من اللقاحات، علما بأن الأدوية البيولوجية ستكون هي مستقبل الطب والبحث العلمي، وبالتالي فالمغرب يمكن أن يكون منصة للاستشفاء وللبحث العلمي والإنتاج بالنسبة لأوروبا ولإفريقيا في مجال اللقاحات والأدوية والمستلزمات الطبية، وهو ما يفتح الباب من أجل الاستثمار في قطاع الصحة إفريقيا وسيمكّن من تحقيق ربح على كافة الأصعدة.

*باحث في السياسات والنظم الصحية


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 29/11/2022