«ألَمٌ، قاطِعٌ، مُفَتّتٌ، يُحْيي ما لم يعُدْ عيْشُهُ ممكناً حتى في الذكرى»
شذرة من كتاب «كتابة الفاجعة» لموريس بلانشو. ترجمة: عزالدين الشنتوف
الإنسانُ لا يَسْكُنُ
في السّماء
تتّسعُ لغة هذا الكتاب باتساع جرح الكائن وتمزّقه بين جدارين: سِجْنَيْ: «عين البُرْجَة» و»غبيلة». كتابٌ يتكلم بجمال لغته من خلال خدوش الحائط التي باتت ترشح نوراً.. وندوب أخرى كثيرة متفرقة على كامل جسد المحبوس وروحه؛ ندوب تلوح منها ذكريات وحكايات؛إذ الحَبْسُ يتجاوز المواجهة مع السّجان، إلى المواجهة القاسية مع الذّات.الذات هنا، هي الموضوع.
لكن هل هذه الذّات محدودة بيّنة واضحة وطيّعة؟أَمْ هيَ (الذّاتٌ) بقدر ما تكونُ، تذوبُ وتفيضُ وتسيحُ في كل الأرجاء؟
يستلم المحبوسُ جسده مرتين؛ مرّة من عند الجلاد بعد وليمة التعذيب. ومرّة من عند السجّان، يفتح له باب الزنزانة ويقول له: أُخرُجْ..(يَطْلِقُ سراحه). وفي الخارج عليه أن يتكيّفَ ويتصالحَ مرة أخرى مع الحياة في ذاته.
من هذه المقابلة مع الأنا،تنبثق هذه الكتابة التي ترسمُ لنفسها أكثر من مسار، تنسجُ حكايات الألم والأمل على أكثر من منوال. فالنص هو مجموع نصوص لأكثر من مُقابلة ومواجهة وتحقيق ومرافعة.. ثم تداعيات ذلك كله.
وأنا أقرأ الكتاب، وكأني بالذّهبي مُلْقَى/مَرْمي على ظهره (يتألم) وعيناه تستكشفان (تُقَشِّرَانِ) الحيطان الخمسة للزّنزانة؛ مشهدٌ يُذكِّرُني بكتاب»عرق الضفدع» ل»أكيرا كوروساوا»؛ إذْ يُوضَعُ ضفدع في صندوقٍ صغيرٍ تُغَطَّى جُدرانه بالمرايا،وأينما الْتَفَتَ يرى صورته، يرتعبُ بشدّة، ويشرعُ في التَّعَرُّقِ. وبهذا العرق الدُّهني (الإجباري) يصنعون مرهما غاليا.. (أراهُ) من خَلَلِ المكتوب يكْشِطُ حيطانَ ذاكرته؛ يحكي عن مَشاهِدَ تروحُ وتجيئُ في الزّمن كالنّوْل؛ يسترجع حيوات فائتة لأجل دعم الفهم.. لذلك، فكتابته تتساءلُ عن كل شيء، تُعيد النّظر في كلّ شيء،ولا تنثني تعودُ إلى تأملِّ الوضع الجديد: الزّنزانة: هذه النقطة الفارغة-المليئة التي تُعَطّل الحركة في الجسم؛إذ الجسمُ بلا حركةٍ هو شيء منذور للصّدأ والتّلَفِ والتلاشي.. ولتفادي ذلك (أو التخفيف منه)، لا بد من وجود صيغة للتصالح مع الطبيعة؛ أيْ، أن المصالحة مع الجسد من جديد، والاحتماء به، سبيله الوحيد هو:الشِّعْرُ. (الشِّعْر وليس القصيدة).
بالشِّعْرِ نستطيع أنْ نَسْكُنَ في الذّات؛ إنّه إمكانٌ للإنصات والحوار والسُّكْنى..بالشِّعْر نَنْزِلُ السلَّمَ إلى الأرض حيث الإقامة؛ وبالشِّعْرِ يتحقّقُ الانفتاحُ على نداء الصّمت.
ولا نظُنّ أنّ الذّهبي مشروحي يغيبُ عن ذهنه سؤال الشِّعِر والشِّعْرِيّة قبل تحويل النداء إلى قول أو قصيدة، أو هو جاهلٌ بجملة القوالب الضابطة لهذه الصنعة القديمة (ديوان العرب)، وهو الأستاذ المسكون بهَمِّ المعرفة والفكر وأحوال السؤال الفلسفي..يقول:
«أمام هذا الباب الشاهق نقط كثيرة تحط برأسي. فكرة أو سبيلا أنفذ منه الى خارج القناع لأتكلم مع ذاتي بكل وضوح ووجهي وجها لوجه الحائط».
إن سؤال المصالحة مع الذات، يتطلب القبول بالوضع الجديد كخطة أولية لفهم ما جرى؛ أيْ، عليه تجاوز الصّدمة المُدَوّخَة وصداها الذي ما زالَ يتردّد في الرأس قائلاً:أَأُساقُ (كالمجرم) إلى هذه النقطةِ القصيّة المُوحِشة لمجرد أنّني أبْديتُ رأيي في الحياة،في بلادي، إذْ شارَكْتُ في المطالبة بأمور ممكنة، من قبيل: نريدُ تعليماً مجانياً يضمنُ تكافؤ الفُرص لكلّ المغاربة و…تَرَدُّدُ الصدى على هذا النّحو، قد يقتل كمداً.
تصوروا معي هذا المشهد، ألَّفْتُهُ من خلل قراءتي للنص: المحبوسُ بدأ يسترجع وعيه،يَنْظُرُ بانْشِدَاهٍ إلى نفسه، متروكٌ إلى مصيرٍ مجهول.. ينظُرُ إلى جسده الجريحِ المرمي على بلاطٍ باردٍ (الضَّصْ) بالكادِ يستفيقُ من غيبوبته بعد حصّة تعذيبٍ وحشية،ويُتَمْتِمُ: ما هذا المصير الذي يبدأ وينتهي أمام حائط!؟تأملوا معي هذه الشذرة:
«عين البُرْجَة» أسلاكي تنصهر والطّنينُ هو كل ما تبقى في الجسم بعدما غادرت حشود الذباب ساحة الجرح».
وجهاً لوجهٍ مع الذّات، ووجهاً مع الحائط؛هكذا، أمام هذه الوضعية، بدأت سردية السجن والتّحرير في الانكتاب؛ أسئلةٌ تتناسلُ من رَحِمِ المعاناة: ماذا سأفعلُ بي وهذا الحائط صامت وبارد؟ يا أنا من أنتَ في هذا الصّمت الذي يُخَتِّرُ الوقت في جسدي؟ يا أنا،أتسمعني؟
لنتأمل شظية أخرى تُعبّر بحساسية مفرطة عن انتشاء الألم من جرّاء ثقل اللّحظات وتصلُّب الزمن في الزنزانة؛ يقول فيها:
«وأنتِ تشرقين في دمي يهرب الموت بعيدا لكنه دوما ينتظر على رأس السطر عودتي إليكِ لأحتمي بكِ منه وبه منكِ قبل الذهاب بعيدا في رحلة لامنتهية المصير».
يا أنا من أنتَ أمام هذا الحائط؟ كلّ الأسئلة المطروقة وغير المطروقة تتقدّمُ نحو المحبوس في صمت وبلغة تحاول بأسنانها تمزيق رداء الموت المؤجّل إلى حين.
أين يمكن للإنسانِ أن يهربَ من ظلّه؟أين؟
هنا، في هذه النقطة التي لا تعرفها الشمس؛ في هذا الكهف المغلق على الحلم، أمام هذا الحائط تبدأ اليد في تدوين سيرة الألم والأمل. يقول:»كهذه اللغة التي تكتبني لا شيء يُحَدُّ باللاشيء والجُمَل تصاميم لخياطة الفراغ الذي تهابه الأفئدة المولعة بالمعنى والكلمات شفرات لتشريح الغوامض وفلح المعنى كحبات الزيتون. والعين أنامل لا تعرف الوتر الذي تعزف عليه إذا تشابهت الأزرار. والديدان التي ستتكفل بتنظيف عظامي من وهم الحياة سوف تكون آخر عهدي باللمسات الممتعة».
الجسدُ يتكيّفُ، يستعيدُ عافيته، يتلمّس نفسه، يقترب من طبيعته، يراجع أعضاءه وأفعاله، يكتب على الحائط:الحب والحياة ليسا في مكانٍ آخر. الحياةُ جسدي وكذلك الحب. بجسدي أوجدُ، بالحب أكونُ.
ويتقدّمُ العالَمُ من حوْلِ المحبوسِ وفيه، كاشفاً له عن سريرته، إذ يكتشف (بعد معاناة) أن الأذن ليست وحدها قناة السّمع الوحيدة، بل الجسد كلّه أُذُن. وها جسده بات جُرْحاً مفتوحاً على لسانِ الأشياء؛ وها العالم يبوح له بأسرار صمته وهو مُمَدَّدٌ على بلاط الزنزانة البارد.
وها في هذه الشذرة يتحدى المحبوس مصيره، ويشكرُ القدر (المُتَجَبّر) على لعنته التي لولاها لما تباهى بجرحه؛ إذ يرى أن لا بد للحياة من جرح لتكون. يقول:»أشكرُ اللّعنة التي قذفت بي إلى هذه الهاوية (…) لأتباهى بسُمْكِ الجلد المدبوغ على ساقيّ من شدّة الحرّ ولو كان جرحاً يضحك بدمه ويلوح بألمه لما طالَ الطريق».
هذا الكتاب (الكتب) يحكي عن داخل وخارج السجن، بلغة قريبة من الأرض، عريانة، تتصاخب وتتراشق مع الأطفال بالماء في غدير.. لغةٌ تَنْبُشُ في الميّت عن الحيّ. لغةٌ تهرب حافية من لوْحِ الفقيه. لغةٌ تغلي فوق قُدُورٍ عديدة، وعندما تفيضُ تَنْزِلُ مع القِدْرِ إلى الكانون تخنقُ الجَمْرَ وتُثيرُ النَّقْعَ. لغةٌ تتبعُ الهذيان إلى اليقظةِ أو الْخَبَلِ.
هكذا، كتابةٌ تشتغل على اللغة لا كوسيلة للتّواصل، ولكن كمادة للتّفكير، مادة لصياغة الوجود.. تتمرّدُ على إيقاعِ السّطْرِ وعلامات الترقيم، تمشي في كل الاتجاهات،تحاولُ (أحْياناً) أن تقرأَ تآليف النّجوم. كتابةٌ (بدوية) ملتصقة بالأرض والفصول، كتابة (فلاَّحة) تسقي الحياة باليدين والرجلين معاً.
الإنسانية تمشي
على الأرض
(نقولُ في عربيتنا الدّارجة: «يَرْعَى طْوَالُو» بمعنى، أنّ لكلّ شيء سقفا أو حدّا، و»يرعى طْوالو»، مثَلٌ شعبي، يرمي أيضاً إلى: القَدَر، الحُكْم، التّهديد…)
يكتبُ مشروحي كما يمشي ويسمع ويرى.. كلّ شي بالنسبة إليه هو علامةٌ تُشيرُ إلى.. تُبَلِّغُ عن.. تُوصِلُ إلى فَهْمٍ ما.. حتى العلامة الفارغة -إن صحّ هذا التّعبير- حتماً تُحيلُ على تاريخ جماعة (من البشر)تآلفت لحَاجَةٍ ما، كما الحاجة الّتي جعلت من الفزّاعةِ فزّاعةً، ومن الكهف مَعْقِلاً أو معبداً، ومن الصّومعة شرفة للنّداء للصّلاة..فالصوتُ علامة، الحركة علامة، اللون علامة، الرائحة علامة… والأشياء المعروفة هي أيضاً مجهولة بالتعريف. وإلاّ ما معنى حجر خارج اللغة؛ خارج شرط النظرة؟
كتابةٌ غضبانة؛
تصوّروا معي امرأة غضبانة؛ من شدّة الظّلم أدارت ظهرها لأعراف الذّكور والإناث معاً؛ أعرافٌ تحالفت ضدّها، وبعد أن صرختْ فيهم وهاجَت وماجَت، جمعتْ نفسها وصفقتِ البابَ خلفها وخرجت إلى: لا أين..لا تلوي إلاّ على حُرقة الظّلم، تَلْعَنُ تارة، وتارة تُحاجِجُ هذا،وتصرخ في وجه ذاك،وكأنها ما زالت في مَراحِ تلْكَ الدّارِ المتآمرةِ.. وعلى حين غرّة، بحركةٍ لا إرادية (كالمجنونة)،تلوح بذراعها كسَيْفٍ إلى أعناق الاتجاهات المتواطئة الخنوعة الكاذبة دونَ أن تتوقّفَ عن المشْيِ الغَضْبانِ..كلماتها تارة مسموعة، تارة مهموسة، وفي الغالب تخرجُ زَفَرات حارّة..تصوروا كتابة على شاكلة هذه المرأة؛
كتابةٌ لا تَعْقِلُ الطّريق؛
لا تشعرُ أنها تتذمّر إذْ جُرعة الموت الّتي سَقَوْها أظهرتْ لها، أنَّها، هيَ مُبتدأُ ومُنتهى كلّ طريق. تتعثّرُ إذْ تنظرُ من عينين دامعتين، تعرفُ بجسدها أنّها تقفُ على قِمَّةِ معرفةٍ،على شفيرِ هاويةٍ،تنظُرُ إلى داخِلِ جُرحها، ولا قرارَ لجُرْحِها..ونداءٌ صامتٌ يصلُ إليها من القاعِ المُنفلتِ، يُنهي إليها بأنّ:لا شيءَ يستحقّ الارتماء في هذا العماء..الظُّلْمُ الكبيرُ الذي رفعَ الرّوحَ إلى شُرفةِ الفورة (الثّورة) لا يلبثُ يتردّدُ أمامَ رَحِمٍ خلاّقة (هيولى) لا تَعِدُ بِـ.. لا تَحْفِزُ على.. لا تَتَوَعَّدُ بِـ…فالغضبُ الشّديد/ الظّلمُ الكبير،لا يفهمُ كيف أنّ التّفكيرَ طفَقَ من جديد يُرَاجعُ ويَتَرَاجعُ أمامَ هذا العَدْلِ المستحيل.
كتابةٌ تنتصرُ للأُمّ؛
لم تستطعْ أن تتخلّصَ من فضول الطفل الذي مازال يُسْنِدُ صدْرَهُ على رُكْبَة أمه بينما هي تجلسُ القرفصاء أمام الكانون.. طفلٌ يتلحَّفُ بعاطفتها المفرطة في الحنان وفي القسوة..كتابةٌ تلْبَسُ عاطفةً تتعطَّرُ بالأرضِ-الأمِّ؛ من خوْفِ(الدّجاجة) على قَرَاقَتِها تصيرُ نسراً، تِنّيناً، وهي تتقدّمُ حافية إلاّ من موتها الّذي تشهره فداء لفَلَذات كبدها.. كتابةٌ تنتصرُ إلى:»حادّة مارس»، هكذا يُنادي مشروحي أمه.
الأُمُّ-الأرضُ هي أحد مراتع الطفل الخصيبة،ومنبتُ المُخيّلة التي تتشكّل فيها كلّ ميتافيزيقا..كتابةٌ مكلومةٌ، جسُورة، يابسةٌ تتشقَّقُ،تحاولُ البَوْحَ، تحكي بارتيابٍ..كتابَةٌ تَلْهَجُ بكلام مرموز، تقولُ للموجودِ الّذي انْوَجَدَ بها وتَنَكَّرَ للدَّمِ والْحَليبِ والْوَحَم: شوَيْتَ كبدي،ولو عرفتُ أنّ الشَّرَّ سيخرجُ من بطني لخنقته بين فخذي. لكن الشّر الصغير يا ربي، ككُلِّ فَرْخٍ ريَّانٍ بريء، يفْتِنُ القلبَ الجسورَ ويُكبّلهُ بأسلاك العجز.
الصَّوْتُ الطّفلُ يشُدُّهُ إلى اليقظة وإلى السَّهَرِ؛
أخائِفٌ من الموتِ، أنْتَ؟ نعم ولا؛ إذْ هناكَ أكثر من موتٍ.
يخافُ من الموتِ الّذي يلبسُ وَجْهاً غدَّاراً. ولا أحدَ يعرفُ الوَجْهَ الغدّارَ! فالموتُ الغدَّارُ قد يخرجُ من بَطْنٍ رَحيمةٍ، تألّمَتْ لأجلهِ وسهرت تسعة أشهر خوفا من أن تنام وتخنقه.
لكن،ونحنُ نتقدّمُ في القراءةِ، نجِدُ أنّها لا تُعانقُ غير لهفتها وعجزها؛إذ من خلال مُصاحبتنا الطويلة لهذه النصوص الثلاثة: «حكمة الهارب من ظله»، «أرضٌ تلحسها ألسنةُ الرّيح» و»في مرايا وجهكِ لا أراني»، تَلَمّسْنَا أنها تُنْشِدُ اللاّمعنى ضالّة نحو قناعات جديدة، عابرة..فالذهبي لا يعتقدُ أن هناكَ معنى مُرْتقباً، ولا في الموتِ مَعْبَرا لحياةٍ أخرى (عادلة) ومستحقّة؛ كلُّ ما نَحْلُمُ بهِ على الأرْضِ يبقى في الأرض.
يَعْتَبِرُ مشروحي أن الكتابة هي حركة الفكر، لذلك،فهو لا يتوقّف عن التّقليب في ظلال الحاجاتِ الّتي أسَّسَت لقوانين تحوّلت بفعل الزمن/ النّسيان إلى مُستحكماتٍ؛ يبحثُ في خلفياتها (ذاكرة العقل-الطفل) عن هذه الغيرة المفرطة في الخوف على الحياة من التوحش (التوحّش هو التّفكير في تَحْييدِ الغير فقط)؛إذ برغم يقينه من أنَّ كلَّ أصيلٍ هو مُتوحشٌ بالطّبيعة، يرى أن تثقيف الحياة لا بُدَّ لها من كتابة متوحشة (الشرّ الضّروري لكلّ ثقافة جديدة)، كتابة لها أظافر وأنياب وحواس متوثبة تتلوَنُ بتغيُّر الظلّ والضوء.
كتابَةٌ تُحاوِرُ الطِّفْلَ الّذي ما زالَ هُناكَ، يسمعُ قصص الجنّ والسّحر وجنّهم والملائكة والجنة وسِيدْنَا قْدَرْ ومَامَّا غُوْلَةْ، والأعراس التي على قِلّتها وقتذاكَ كانت جميلة وحافلة بالأفراح والأحلام والذكريات، وحكايات أهل الوادي القريب من الشّمس ومن الله؛ إذ هناكَ تشكّلت النظرة الأولى للرّجُلِ الّذي حلم ذاتَ يومٍ بعدالةٍ اجتماعية وبتعليم يفتح العين على ما وراء الأسماء والقِصص المُؤسِّسَة لمغامرات العقل الأولى في هذه البلادِ و…اعْتُقِلَ!
كتابةٌ تحاولُ أن تقطعَ الرَّبْقةَ وتفلت من دائرة أساطير تربط الحلم إلى جِذْعِ شجرةِ سَدْرٍ مليئة بالتمائم (والشّراويط)؛ كتابةٌ تُحاوِلُ أنْ تُقْنِعَ الأمّ بأنها قادرة على تجاوُزِ عتبةِ البَيْتِ والخوض في دائرة الصراع حول (تأليف/صناعة) الأسماء.. كتابة تطلق في البَيْدَرِ حوافرَ العقل تهرسُ المُغْلَقات والمُطْلَقات..وكلّما أحَسَّ الذّهبي بانْحِباسِ الوُجودِ يصيح بالكتابة وفيها: هذا المقدّسُ قبرٌ سحيقٌ.
يعيدُ بناء المنسج؛
يُعرّي(يُؤنسن) الحشمة/الفضيحة التي تَتَلَفّعُ بإزارٍ باهتِ اللّون وتشقُّ لها مساربَ في الطّين وراءَ الجدران الخلفية للشَّوارع الفسيحة والسَّاحات الخضراء؛ مُتخفيّة بظلال تُعَمِّرُها الضفادع والهواء العطن، خائفة من نُباح الكلابِ الضّالة؛ تبكي وهي تمشي نحو الخَلاءِ، (إلى المعتقد)، لعَلَّ الشكوى تجِدُ سبيلها إلى اللّه؛ تمسحُ بأناملها على حجارة المزار المهدوم، تتبرَّكُ بالتّراب، لعلّ ثُقْباً خفيّاً ينفتحُ على سماء الله السّابعةِ.
على سبيل الختم؛
أمامَ كتابة بهذا التّشابُكِ والخَبَلِ،لا يمكنكَ أن تكتفي بالنظر لترى اللوحة.. لتراها فعلاً،عليكَ أن تُحَوِّلَها إلى أفهام؛إذ كتابة مشروحي تستبطن نية القصيدة،ونية الرواية، والنصّ المدبب، الذي يحرثُ الوجود، ولا يعتبر الكائن البشري مجرد حادثة وجود. قال لي ذات نقاش: من يُزَمْجِرُ في الكبار أنْ زَمْجِرُوا في الصّغارِ: هناكَ الحرامُ والحلالُ والمُقَدّسُ!؟
لا يطمئن للفقيه/الأب/ الإله الصغير في جلبابه الأبيض وهو ينتحي زاوية قصية في البيت أو حتى في الخلاء: بيت الله الواسع؛ إذ يراه ما يزال يهربُ إلى الصمت مُتبرّماً من أسئلة الطفل المُحْرجة؛فالنعومة تجرح الكذب وتفضح كبرياءه الزّائف.
وعندَ كلّ غروب يُغمغم الطفل حزيناً:
لماذا يأتي الوجودُ مع الشّمس ويغيبُ معها! لماذا هذا اللّيل الذي لا يُوَفّر الحُلولَ يتقدّم بأسئلةٍ- أجْوبةٍ تلبسُ الخوفَ والوعيد بشتّى أنواعِ العذاب!
من أين يأتي هذا الذي لا يأتي إلاّ مُتقدّماً على كلّ شيء، يسبقُ إلى الغيابِ مُعْلِناً النّقصانَ حضوراً منشوداً!
من أين يأتي هذا الذي في المَحْوِ يولدُ وفي الصمتِ يكونُ!
صمتٌ (ذهبي) يأتي من خارج اللغة؛ عقلٌ تستحضره اللغة في انكسارها المتوالي أمام هشاشة الكائن: مشروحي، وهو يخيط بالكتابة جسده المتشظي.
فَ «حكمة الهارب من ظله»، «أرضٌ تلحسها ألسنةُ الرّيح»، «في مرايا وجهكِ لا أراني»،نصوصٌ تفيضُ بالعلامات، بالمقولات، بالأمثال والصور، ليست لها ضوابط أو تصنيفات مُحدّدة، خيولٌ سائبة تعدو في أرض التخييل؛ تضع القارئ في خضم تجربة وجودية تزدحم بالأصوات، يتصادى فيها الفلسفي بالمحكي الشعبي بالشعري بالأسطوري بالسياسي بالتقليد الديني… نصوصٌ يتجاوزُ فيها التّخييل مُحاكاة العالم إلى بناء عوالم مفترضة. لا نكتب(القصة)لذاتها، بل لنغرس فيها المعنى، وشكل الكتابة مرتبط بالمعنى الذي نريد زرعه،ولكل زرع حوض.
* ذ التربية التشكيلية