يقدم فيلم Ray Donovan: the movie (2022) خاتمة نفسية لمسلسلٍ بالعنوان نفسه، شخَّص العلاقة المتوترة بين “ميكي” المجرم الأمريكي من أصل إيرلندي، وأبنائه الذين حاولوا الانفلات من سطوته المادية، والرمزية، والنفسية.
يمكن الاعتماد في فهم هذه المحاولات على مجموعة من مفاهيم مدرسة التحليل النفسي كما أبدعها ‘سيجموند فرويد’، على رأسها مفهوم “اللاشعور الفَردي”، المشكَّل من مجموع العقد والصدمات الطفولية المكبوتة مبكرا، والمتمظهرة ضمن سياق أسري غير سليم. لا شعور يعلن عن وجوده من خلال أنواع من العُصابات، للشفاء منها يجب فهم هذه المكبوتات الطفولية السابقة.
فبعد عشرين سنة من كُمون عُصاب الأبناء، ومحاولات الابن الأوسط “راي” بناء أسرة سليمة اقتصاديا واجتماعيا وعاطفيا، عاد هذه العصاب للظهور بشكل أكثر إيلاما، معلنا استحكام غريزة تدمير الذات ‘ثاناتوس’ القاتلة بـ’راي’، ومظهرا أن هذه المحاولات شكلت في الحقيقة تقمصا، وتكرارا لا شعوريا متساميا من هذا البطل لكل أهواء أبيه وأخطائه.
يفسر هذا الفيلم أيضا أصول تناقض عاطفة ‘راي’ تجاه والده، مرجعا الأمر إلى “عقدة أوديب” التي دفعته بالمرة إلى خوف الأب المهمل للأم المحتضرة، وإلى الإعجاب برجولته المغامرة، ليتحول هذا الأب إلى “أنا أعلى” أضمره “راي” في نفسه. وحتى يلائم بين العاطفتين، شرع في النوم جوار أمه، وكأنه بدأ يعد نفسه لتعويضها، والاستئثار كلية بحب أبيه. لكن الأخير أهمله مرتين، الأولى حين أرسله إلى قسٍّ تحرش به عوض تعليمه، والثانية لما قذف به مبكرا في حياة الإجرام التي يراها الطريقة الوحيدة للاستفادة من ابنه، ولجعله يكتسب الرجولة الإيرلندية الصلبة، ثم في الأخير خصاه رمزيا بمشاركته جنسيا صديقته المفضلة!
وحتى يخرج من هذه الدوامة النفسية، اعترف “راي” لنفسه بذنبه الذي كبته وتآكله عشرين سنة، وهو أنه من لفق لوالده تهمة القتل حتى يأخذ مكانته في الأسرة، ويصحح مسارها! ثم بعد ذلك نجده -هو الصلب القوي- يتقهقر نفسيا ليسترجع ذكرياته في سن الخامسة، حين كان أبوه يغني له ويرقص، ثم يعلمه السباحة.
من جهته، وأمام خيبات الأسرة، سقط الأخ الأكبر المعاق في “ذُهان” فصله عن الواقع، وجعله يعد “عشاء أخيرا” يجمعه في خياله بكافة أفراد أسرته وهم صغار، يترأس مائدتهم “الأب/الإله/الطوطم” المقتول من أبنائه. وأضحى الأخ الأصغر “مخصيا” رمزيا وحقيقة، لا أمل له في حياة جنسية سوية مع زوجة متسلطة مهملة، تماهت في مخيلته بأبيه الصلب، وعوضته عن أمه الضعيفة. أما الأخ غير الشقيق ففر هاربا من هذه الأسرة العصابية. من جانبها، اعتمدت ابنة “راي” آلية التبرير النفسي لقتل جدها، لأنه حرمها حبها، وهدم أسرتها، مما سيسقطها حتما داخل دائرة مفرغة من العصاب، والإحساس بعقدة الذنب التي أهلكت والدها من قبل، وأهدرت طاقاته.
وفي مقاربتنا لفيلم Umma (2022)، سنعتمد على علم النفس التحليلي لـ’كارل يونغ’ المؤمن بتسلل “اللاشعور الجمعي” (الخافية الجمعية) لأسلافنا البدائيين إلى حياتنا، مجتازا عصورا من التطور حتى استقر في قشرتنا الدماغية الحديثة. مع تشكله من “نماذج بدئية”، تحدد بدورها طرق فهمنا للحياة. وتتمظهر في حالات واعية ترتبط بسياقات الذعر، والليل، والفترات الانتقالية من حياتنا كالولادة، والموت، والمراهقة. وقد تتجسد ضمن الأحلام، والأوهام، والاضطرابات العقلية في شكل رموز خفية أو مشوهة، لفهمها يجب مراعاة فروق الجنس، والعمر، والتعليم، والمشاعر الخاصة للبشر. فهمٌ إن تم بطريقة جيدة، يحول هذا اللاشعور إلى طاقة نفسية خلاقة، تجعلنا منسجمين مع شخصيتنا، ومجتمعنا، وكوننا حاضرا وماضيا.
تنقلب حياة أم عزباء كورية الأصل، أمريكية المولد رأسا على عقب بتلقيها متعلقات رمزية من أمها الهالكة، تضم قناعا “شامانيا” طقوسيا، ورداء تقليديا، ورماد جثتها. فتعمد ابنتها إلى طمرها، رافضة دفنها حسب الطقوس الدينية الكورية الممجدة للأسلاف. غير أن هذه المتعلقات حركت في الأم العزباء شعورا غير مفهوم، حين بدأت ترى الحياة من منظور أمها وأسلافها. من ثم، رفضت لابنتها مغادرة المنزل للدراسة الجامعية، وسامتْها من العقاب ما كانت تفعلها أمها معها من قبل! لترى نفسها بعد ذلك وهي تتردَّى «حقيقة» في قبر/حضن أمها، مما جعلها تفهم أن أمها/الأرض، تطالب بالإرضاء، والتخصيب من جديد حتى تعود للحياة في شكل آخر.
في الحقيقة –وكما كان الأمر مع «راي» العصابي– لاحظنا أن الأم العزباء تقمصت طوال حياتها نمط تفكير أسلافها الجمعي دون وعي منها، إذ كانت تعتقد أنها تعيش حياة أمريكية متحررة وعقلانية، بعيدة عن خرافات قومها. نتبين هذا التقمص من خلال انعزالها في ضيعة بعيدا عن الناس، وعن التكنولوجيا، مهتمة بتربية النحل الذي قد يُعتبر بتكاثفه حول ملكته الأم رمزا لاحترام الأم والأسلاف المانحين للحياة. كما تمظهر اللاشعور الجمعي لهذه الأم الحداثية في حبها الامتلاكي لابنتها، مما يضعنا أمام نموذج «الأنيموس»، أو الروح الذكوري البدائي الذي يستوطن خفية كل امرأة، راغبا في الاستئثار بإناث القبيلة/الأسرة. إنه لاشعور جمعي ما كان ليظهر بهذا الوضوح العجائبي إلا لسببين هما: رؤية المتعلقات البدائية للهالكة التي ورثتها عن أسلافها، ثم دخول الأم العازبة في مرحلة انتقالية من حياتها، لما أرادت ابنتها الدراسة بعيدا عنها.
لقد جاء الحل توفيقيا، كما يريد ‘يونغ’ تماما، حين تصالحت الأم العزباء مع ‘روح’ الجدة عبر دفنها بطريقة لائقة «شامانية»، توافق طقوس ديانة عبادة الأسلاف البدائية المشهورة لدى شعوب الشرق الأقصى، فاختفت رؤاها غير المنطقية. أما ابنتها الشابة فوافقت بدورها على هذه الطقوس عساها تخرج للعالم، لكن لتعود إلى الأم/الأرض/الضيعة حاملا، لتخصب تربة الأسلاف بخلف يمجدون أرواح هؤلاء للأبد.
يبدو أن عاطفة تقديس الآباء واحترامهم محورية في الطبيعة الإنسانية، غير أن المجتمع الحديث بنموذجه الأمريكي الرأسمالي الاستهلاكي يشوهها، عبر تحويلها إلى قيمة تبادلية مادية، أنتجت ظاهرتين نفسيتين فريدتين هما: العصاب الفردي المزمن الذي لا فكاك منه، والنكوص إلى الروحانية البدائية اللاعقلية التي تعطي الشعور بالأمان. وفي الحالتين إهدار كبير للطاقات النفسية والاجتماعية التي كان من الممكن أن تفيد في تقدم المجتمعات نحو تماسك اجتماعي أكبر، وعقلانية أحسن.
تقديس الآباء في السينما الأمريكية: منظور نفسي
الكاتب : مصطفى لكزيري
بتاريخ : 22/10/2022