تكريم الدكتور عمر جبيهة بعد نصف قرن من النضال الإنساني والحقوقي في المغرب

في أجواء احتفالية حميمية، كُرَّم الدكتور «عمر جبيهة» الرمز المغربي البارز في ميدان حقوق الإنسان ومؤسس «الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا العنف وسوء المعاملة».
ويأتي هذا التكريم كتقديرٍ لجهوده الكبيرة والمتميزة على مدار 50 عاما في خدمة ضحايا التعذيب والمعتقلين السياسيين في المغرب، وهو ما يجعله نموذجا للتحلي بالصمود والنضال من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.
ويعتبر الدكتور «عمر جبيهة»، طبيبا حمل هموم الوطن والمواطنين على عاتقه منذ سنوات الرصاص في المغرب، حيث تنقل بين العمل الطبي والنضالي دون كلل أو ملل، وترك بصماتٍ لا تُنسى في شتى المجالات التي خاضها. ومن خلال تأسيسه للجمعية التي اشتهرت بتقديم الرعاية للمناضلين وأبناء الشعب المغربي قاطبة، أصبح الدكتور «رمزا» للملاذ الآمن للعديد من الأشخاص الذين لم يجدوا من يعينهم على مواجهة معاناتهم (كانت جسدية أو نفسية).
وعلى الرغم من أنه بدأ مسيرته المهنية في الطب العام، إلا أنه سرعان ما توجه إلى الطب الخاص عبر تأسيس عيادته الخاصة. هذه العيادة لم تكن مجرد مكان للعلاج الجسدي فحسب، بل أصبحت مستقرا للعديد من المرضى والمحتاجين، فضلا عن كونها مركزا لتقديم المساعدة الطبية والنفسية لضحايا التعذيب وأبنائهم. وهكذا، أصبح يُجسد «نموذجا للطبيب الذي يجمع بين المهنية الطبية والالتزام النضالي تجاه قضايا العدالة الاجتماعية».
لقد كانت رؤية الدكتور جبيهة شاملة، تتعدى حدود العمل الطبي إلى ميادين أوسع من أجل التأثير على المجتمع ككل. لم تكن الممارسات القمعية ولا التهديدات الأمنية قادرة على إيقافه عن مواصلة طريقه في الدفاع عن حقوق الإنسان في المغرب. إذ ورغم التحديات الكبيرة التي واجهها – سواء من خلال تعرضه للمراقبة المشددة أو من خلال التهديدات التي طالت حياته وحياة عائلته – لم يتراجع الدكتور «عمر جبيهة» عن أداء واجبه النضالي آخذا على عاتقه مسؤولية ضخمة عندما كان من مؤسسي فرع منظمة العفو الدولية في المغرب (تحديدا في الفترة التي لم يكن للفرع فيها وجود قانوني).
إلى جانب عمله الطبي والنضالي، ساهم الدكتور «عمر جبيهة» في تدريب الأجيال الجديدة من الأطباء والمختصين لـ «ضمان الاستمرارية في تقديم الرعاية والاهتمام بضحايا التعذيب في المغرب»، كما كان له دور كبير في العديد من المناظرات الوطنية والدولية الهادفة إلى «تعزيز حقوق الإنسان ومكافحة التعذيب وسوء المعاملة». قام الدكتور بتدريب وتوعية الأجيال الجديدة من الأطباء بشأن «كيفية التعامل النفسي والجسدي مع ضحايا التعذيب» مما ساهم في تحسين مستوى الرعاية التي يُقدمها الأطباء في المغرب. هذا الجانب أثبت أنه «أحد الركائز الأساسية التي اعتمد عليها الدكتور جبيهة لتحقيق استدامة تأثيره الإيجابي الطبي والإجتماعي والنضالي في المغرب».
على هذا المنوال، لا يمكن إنكار تأثير الدكتور «عمر جبيهة» في العديد من الأحداث الوطنية التي شهدتها المملكة المغربية. كان لـ»عمر جبيهة» الفضل في تقديم العلاج لضحايا الأحداث العنيفة والدامية خلال فترة الثمانينات – خاصةً خلال أحداث 1981 و1982 التي تعرض فيها العديد من المواطنين للإصابات والجروح – حيث ابتكر الدكتور جبيهة طرقًا مبتكرة لتحسين ظروف الرعاية الطبية لضحايا العنف، سواء كانوا من المناضلين السياسيين أو المواطنين العاديين الذين لم يتمكنوا من الحصول على الرعاية الطبية المناسبة في الأماكن الأخرى، حيث تمتاز هذه الخطوة بتجسيدها لالتزامه المستمر بمساعدة أولئك الذين يعانون من التهميش من جميع الطبقات الاجتماعية.
لم يغفل الدكتور «عمر جبيهة» عن مسيرته المجتمعية، إذ شارك بشكل فعال في «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» مُتحملاً خلالها مسؤوليات جدية، وساهم في العديد من التظاهرات والفعاليات على المستوى المحلي والوطني. أيضا، كان له الدور البارز في العمل على إنشاء الفرع المغربي لمنظمة العفو الدولية في فترة كانت تتسم بالعديد من الصعوبات والتحديات التي انعكست بدورها على الجمعية في بداياتها، غير أنه استطاع بخبرته تقدير المواقف وتحليلها بحكمة، الأمر الذي جعله ركيزة أساسية في التأسيس القانوني للفرع المغربي. بفضل هذه الجهود، أصبح الفرع المغربي لمنظمة العفو الدولية مؤسسة قائمة بذاتها تلعب دوراً محورياً في المنطقة.
ولذلك، وبفضل الجهود الجبارة التي بذلها الدكتور «عمر جبيهة» طوال مسيرته الطبية والنضالية، كان من الضروري تكريمه تقديرا لعمله الدؤوب والتضحيات التي قدمها من أجل حقوق الإنسان، وكون هذا التكريم لم يكن فقط للأعمال التي قام بها، بل أيضا لكونه نموذجا لشخصية بارزة سعت لخدمة ضحايا العنف والتعذيب تحولت بمرور الزمن الى نموذج حقوقي ونضالي مغربي يحتذى به.
إن تكريم الدكتور «عمر جبيهة» هو أكثر من مجرد حفل تكريم، إنه «اعتراف بجهود هذا الرجل العظيم الذي قضى نصف قرن من حياته مدافعا عن حقوق الإنسان ومكافحا ضد التعذيب وسوء المعاملة». لكل ما سبق، ينبغي على الجيل الجديد من الأطباء أن ينسخ خطاه ويسير على نهجه المتميز، كي نضمن ألا تذهب جهوده سدى، ولكي نضيئ دروب المستقبل التي تتطلب الشجاعة والتضحية والعمل بالقيم الإنسانية النبيلة، تماما كما فعل الدكتور «عمر جبيهة».


الكاتب : تـ : المقدمي المهدي

  

بتاريخ : 23/10/2024