الترجمة، في معجم الرائد لصاحبه جبران مسعود، هي ذكر سيرة الشخص وحياته، أو نقل الكلام من لغة إلى أخرى أو التفسير، والترجمة من الكتاب فاتحته. لكنها واردة في هذا التمرين بمعناها الثاني، وهو ذات المعنى المقصود في مادة «الترجمان» (بالضم والفتح) ضمن لسان العرب: «هو الذي يترجم الكلام أي ينقله من لغة إلى أخرى».
وتؤطر تمرين النقل هذا من العربية إلى الفرنسية، لشذرات مختارة من مؤلف «مقام الإشارة» للفنان التشكيلي والمبدع عبد الله بلعباس، مقولتان/ مفتاحان تعتبران جليتين لدرجة تجعلهما لا تحتاجان إلى مزيد من شرح حمولتهما/ رسالتهما: الأولى لكاتب ياسين: «اللغة الفرنسية غنيمة حرب»، والثانية لعبد الفتاح كيليطو: «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية».
تحضر المرجعية الصوفية بقوة في «مقام الإشارة» لعبد الله بلعباس، وحضورها يتدفق منذ عتبة العنوان. فالمقام مصطلح صوفي، معناه عند المتصوفة، حسب زكي مبارك في كتابه «التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق»: «مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات، والرياضات، والانقطاع إلى الله تباركت أسماؤه». والمقام مختلف على الحال الذي هو «نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم». وحسب الجرجاني، «فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تُحَصَّل ببذل المجهود.»
والإشارة مستقاة كذلك من نفس النبع الاصطلاحي والمرجعية، يقول الإمام القشيري إنها «ما لا يتأتى للمتكلم الإبانة عنه بالعبارة لكونه لطيفاً في معناه»، أما الشيخ الأكبر ابن عربي، فالإشارات وفقه «هي عبارات خفية، وهي مذهب الصوفية».
هذا الحضور الصوفي، علاوة على المنحى الفلسفي التأملي لشذرات بلعباس واغترافها من المعين التشكيلي، يجعل من تمرين نقلها من لغتها الأصل إلى لغة أخرى، تغيب عنها الحمولة الصوفية، مندرجا، ربما وإلى حد كبير، ضمن خانة «ما تتعذر ترجمته»، وفق توصيف الخطيبي. أوَ لم يواجه بعض المتكلمين علما صوفيا بالقول: «ما بالكم أيها المتصوفة، قد اشتققتم ألفاظا اغتربتم بها على السامعين وخرجتم عن اللسان المعتاد»؟ ومع ذلك، لا يخلو التمرين من إمتاع ومؤانسة، وتبقى الترجمة، رغم أنف الأحجبة والصعوبات، «عملية ممكنة»، كما يقول عبد السلام بنعبد العالي.
تظل الترجمة المعتمدة لمصطلح «المقام» في المعجم الصوفي هي: «Station» أو «Position»، مع ترجيح الكلمة الأولى رغم ما قد يعتريها من لبس بسبب إحالتها على مفهوم «الموقف». أو لم يترجم «كتاب المواقف» للنفري تحت عنوان «Le Livre des Stations». وقد يجعل عدم استحضار السياق الصوفي الناقل المتسرع إلى اللغة الفرنسية ينزلق إلى ترجمات أخرى تنتمي لحقول مختلفة تماما، منها على سبيل المثال لا الحصر: Dénominateur, Mode, Rang, Attitude, Contexte, Emplacement, Endroit, Lieu, Sanctuaire, Lieu saint…
أما الإشارة، فهي، في ذات السياق، «Indication»، «Signe» أو «Insinuation»، وليست ما تعنيه في سياقات مغايرة من قبيل: Signal, Désignation, Indication, Monstration, Symbole, Déixis, Indice, Mention, Pointage, Geste, Repère…
وانطلاقا من التوضيحات السالفة، أقترح من بين ممكنات الترجمة الستة المتاحة، وكل ترجمة مجرد مقترح ليس إلا، أن يصبح عنوان الكتاب بلغة موليير: «La Station de l’insinuation».
ودون الدخول في تفاصيل عملية انتقاء المفردات والصيغ الفرنسية التي حكمت مقترحي الترجمي لسبع شذرات من «مقام الإشارة»، في انتظار الإقدام على مغامرة نقل غيرها إلى لسان الأكاديمية الفرنسية، أحيل فقط على ما للرقم 7 من رمزية دينية في الإسلام وغيره من المعتقدات المقدسة وفي الثقافة العالمة والشعبية، ولدى المتصوفة كذلك.
نقرأ في الشذرة التي يفتتح بها الكاتب مؤلفه:
«في مكان ما
حلم يرقبني،
لكنه العمى
يحاصر الحنين.» (ص. 1)
« Quelque part
Un songe m’épie,
Mais c’est la cécité
Qui assiège la nostalgie. »
وفي شذرة الختم، يستعيد المكان غير المحدد هذا هويته، متجسدا في فضاء بعينه، هو «مرگد» المبدع:
«مازاغان
تراقص ليلا
ينحني للخديعة
ويبتسم لأغنية.» (ص. 121)
« Mazagan
Guinche avec une nuit
Accostant l’imposture
Et souriant à une complainte. »
«الباقي ورطة
حياة،
بين مدّ عين
وانتكاسة يد،
في صدى محارة.» (ص. 7)
« Le reliquat est impasse
D’une subsistance,
Entre le flot d’un œil
Et le reflux d’une main,
En l’écho d’un coquillage. »
«الأمل
ألا تيأس
منك.» (ص. 43)
« L’espérance
C’est ne pas perdre espérance
En toi. »
«أبعد
ما فيك
أنت،
ما أقصاك.» (ص. 69)
« Le plus éloigné
En toi
Est toi,
Comme tu es lointain. »
«أورق الليل
بما تبقّى
من عري القلب.» (ص. 85)
« La nuit a bourgeonné
De ce qui subsiste
De la nudité du cœur. »
«خذ صبحك
من عين ليلك
التي لا تنام.» (ص. 97)
« Conquiers ton aurore
De l’œil de ta nuit
Qui
لا أعرف إلى أي مدى لم تشب التمرين شائبة، لكنني أعلم علم اليقين أن ترجمة «مقام الإشارة» لعبد الله بلعباس لا يمكن إلا أن تكون ناقصة، لا تشمل كل مكونات شذرته. وذلك لسببين على الأقل:
أما العلة الأولى، فهي ترتبط بطبيعة الشذرة في حد ذاتها. ورد في مقدمة المؤلف الجماعي «L’écriture fragmentaire : Théories et pratiques» الذي أشرف عليه ريكار ريبولي: «ثمة شيء ما يضاف إلى الكتابة (الشذرية)، هو الصمت الذي يمثله البياض. بياض يفرض قوته الشعرية، يشير إلى بداية ونهاية تجربة، يحتل في كثير من الأحيان مكانة أهم من النص نفسه، ليصبح نصا بدوره لغير المقول الذي ينفلت من الشذرة. (…) الشذرة سبب ونتيجة، في أكثر الأحيان، للسكر الشعري، لشعر يقع أبعد من النظم ويبحث على إيقاع الجسد.»ولا حاجة إلى التذكير بعجز كل لغات العالم، الحية منها والميتة والتي في طريق الانقراض، عن ترجمة هذا البياض والصمت وإيقاع الجسد.
ويكمن السبب الثاني لمكامن النقص في الترجمة المقترحة أعلاه في كينونة الشذرة عند بلعباس، إذ هي ليست نصا لغويا مكتوبا فقط، بل تشمل كل واحدة منها، أيضا، مكونا بصريا مرسوما يرافق الكلمات ويكملها، يمد ظلاله عليها وإلى جوارها لينصهر في جوهر مقامها وإشاراتها، دون أن يكون انعكاسا مرآويا لها. ومن بين أبرز سمات هذا النص البصري إعماله لتقنية الـ «Paréidolie»، الباريدوليا أو إيهام الخيالات المرئية، بحيث يرى الناظر فيه جسدا ما هو في الحقيقة بجسد، أو وجها ليس بوجه، أو عضوا بدنيا ليس بعضو أو أحرفا ليست بحروف؛ إيهام مطرز بخطوط، ونقط، وكتل، وأشكال، وألوان متدرجة من اللون الأسود النقي وبياضات نسجها «التشكيلي في الكاتب» من الحبر الصيني وشراب البن المُغَلّى والماء.