بعد نشر القاص محمد الودغيري لمجموعة من النصوص في منابر متعددة، قرر جمعها في كتاب بعنوان « قطرات الندى» ذي كثافة شعرية قوية، تتطلب من القارئ كفاية تفكيكية وتأويلية خاصة. صدرت المجموعة عن مطبعة بلال في 165 صفحة ضمت مجموعة كبيرة من القصص القصيرة جدا، بعضها تكرر بعناوين مختلفة، وبعضها بالعنوان نفسه. اختار لها في المجمل عناوين من كلمة واحدة. وتناول في هذه القصص القصيرة جدا أغراضا أدبية مختلفة يمكن أن تتنزل ضمن ثنائيات ضدية، الخير والشرد، والمعروف والجحود، والموت والحاية، تشير إلى الواقع و تختزله.
وإذا كانت القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا حديثا يمتاز بقصر الحجم ، والإيحاء المكثف، والانتقاء الدقيق، ووحدة المقطع، علاوة على النزعة القصصية الموجزة، والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح ، والاقتضاب، والتجريب، واستعمال النفس الجملي القصير الموسوم بالحركية، والتوتر المضطرب، وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ماهو بياني ومجازي، وذلك ضمن بلاغة الإيحاء والانزياح والخرق الجمالي» نص للدكتور جميل حمداوي؛ فإن القاص كان على إدراك كبير بذلك، الأمر الذي دفعه إلى جعل نصوصه تنضبط، في الغالب، لهذه الخاصيات، فجاءت مضغوطة في مساحة ضيقة بفعل التكثيف.
العنوان
يقول حميد ركاطة، في حديثه عن العتبات، ومنها عتبة العنوان:
وتكمن أهميته في كون قراءة المتن تصير مشروطة بقراءة عناوين المجموعة، فكما أننا لا نلج فناء الدار قبل المرور بعتباتها فكذلك لا يمكننا الدخول في عالم المتن قبل المرور بعتباته، لأنها تقوم بين ما تقوم به، بدور الوشاية والبوح. ومن شأن هذه الوظيفة أن تساعد في ضمان قراءة سليمة للكتاب. وفي غيابها تعتري قراءة المتن بعض التشويشات»
لقد كان القاص دقيقا في اختيار عناوينه، بجعلها عتبات مغرية، وقد جاءت بأشكال مختلفة، وما ذاك إلا لوعيه أنها ممر نحو النص لما يربط بينهما من وسائج وثيقة، كمرآة له، كما أنها عتبات غير سكونية بقدر ما هي علامة متحركة تفرض النص كمعنى آت» حميد ركاطة: القصة القصيرة جدا بالمغرب دراسة في العتبات النصية.
جاء العنوان الأب مفعما بالأمل، فملفظاه يحملنا البشرى، كما أن الغلاف بلونه الأزرق يفيد ذلك.
أماعناوين النصوص فجاءت متنوعة، بين تلك التي تحمل أسماء شخصيات شعبية موسومة بالدهاء والذكاء، حديدان، وجحا، وإبليس، وتلك الموسومة بالعجب وحب الذات، كنرجس، في حين، جاءت أخرى عبارة عن أصوات، ك ززززز ص87. أما الباقي فكان بين المعرب والعربي الأصيل، مع نصوص قليلة جاءت بالدارجة ك»اشكيكو» ص151.
وكما نوع في العنونة نراه قد نوع في الختمة/القفلة، فجاءت مرة تعجبية، وأخرى تناصية 117، و35، وثالثة بالدارجة 23، ورابعة مشتتة الأحرف 30، تعتمد على البعد البصري لتحقيق معنى السقوط؛ وهي بذلك تحدث الضربة المفاجئة.
بين نص البداية ونص النهاية وشيجة تكمن في السارد، فهو واحد في النصين، وظف ضمير المتكلم في الأول، وضمير الجمع الغائب في الثاني، لكنه يعود إليه. هكذا، نراه في الأول يعاني من كوابيس سافرت معه الليل كله، ولم يتمكن من التخلص من واحد منها، أما الثاني، فنراه يستقي موضوعه من تجربته الخاصة، فقد عاش المرض، وصاغه نصا قصصيا، حتى يكاد يقربه من السيرة الذاتية، نصا يبرز المعاناة مع المرض ، وتعامله معها، صحبة آخرين، بروح تفاؤل عالية، إذ الابتسام انتصار.
القصة القصيرة فن جمالي راق للغاية بحيث يجد فيها الكاتب حرية مطلقة في أساليبه المراوغة لفكر القارئ وبشكل وجيز في فك عقدة الحدث بالنهاية. إنها لقطة في لحظة وموقف.
ففي نص «انزياح» ص134، نرى أن السارد والمتلقي وكأنهما أمام رقعة شطرنج، يسعى كل واحد إلى ربح الجولة. فالسارد يوحي للمتلقي أن النص يتحدث عن امرأة ستثير غيرة الزوجة، لكن حين بلغ القارئ الختمة/القفلة، يدرك أنه كان ضحية مراوغة سردية طريفة، مما يدفعه إلى إعادة القراءة من جديد. لكن النص مهدد، نتيجة ذلك، بالخبو، إذ حقق هدفه، وانتهت وظيفته.
والقارئ للكثير من نصوص العمل سيكتشف أن القاص يعيد هيكلة بنيات القول في بنية متفردة ، بلغة متشظية ، لا تتضح معالمها إلا بعد لأيٍ وجهد شديدين على المتلقي ، لكنهما و في آخر المطاف يمنحانه متعة وفائدة … وتكمن المتتعة في بناء تأويلات ماتعة حمّالة لأوجه عديدة ، لا ترتكن إلى وصاية المؤلف ، بل ترتكن إلى هرمينوطيقا النص كأبعاد مفتوحة على الولادات النصية العجيبة.
لا يختلف اثنان في أنّ «الفعل» هو مركز الحركة في الجملة و في كل خطاب يتوخى الحكي و السرد، لذلك فمن البدهي أن يكون البناء الفعلي هو الأنسب لمقصد الحكي المسرود لغويا؛ بينما الجملة الإسمية بالمقابل، تؤدي إلى تبطيء السرد و تعطليه بما تتيحه من مساحات الوصف و التعليق و التأمل و غيرها من العمليات البنائية الأخرى في العمل الأدبي.
ويذهب جميل حمداوي إلى حدّ الإقرار بأنّ تتابع الجمل الفعلية و تعاقبها و استرسالها و انسيابها ( هو الذي يُعطي للقصة القصيرة جدا رونقها الإبداعي الشاعري، و متعتها الجمالية الفنية، و فائدتها الرمزية. – القصيرة جدا و المشروع النظري الجديد- ص 282 / 283).
وأحسن مثال على هذا نص «ثأر» ص109، حيث نجد سلسل الأفعال التالية: نط، تدحرج، استقر، التفت، صعدت، ذرقت، التقط، ويمم. تابع يدل على الحركة وتغير في الفواعل والنتيجة.
يمتح القاص مادته السردية من مكتنز القيم الإنسانية برؤية مختلفة تكاد تكون صادمة ولا تسير وفق تيار الوعي الجمعي القابع في ذاكرتنا والرابض في تمثلاتنا الجاهزة والمسكوكة لبنيات هذه القيم . وهو ينجز هذا المنجز القوي في عمق فلسفي بعيد عن التعقيد ، يضفي على قصصه القصيرة جدا ملمسا بجاذبية نوعية ، طارحة للمظاهر في ذكاء وكاشفة لما وراء هذه المظاهر من عوالم محتملة ، عبر خلق شبكة من بنيات التواصل مع القارئ ودعوته الى مساءلة التابوهات أولاً ، و ثانياً لبناء عقد مشترك استعدادا لخرق هذه التابوهات. أبو شامة حنيف.
التناص:
التناص هو مجموع العلاقات القائمة بين نص أدبي ونصوص أخرى.
عند (جوليا كريستيفا): هو أحد مميزات النص الأساسية، والتي تحيل على نصوص أخرى سابقة عنها، أو معاصرة لها.
والتناص هو تضمين نص في نص آخر وهو في أبسط تعريف له تفاعل خلاق بين النص المستحضِر والنص المستحضَر، فالنص ليس إلا توالداً لنصوص سبقته.
معنى هذا، أن الإنتاج الأدبي يعتمد استعادة إبداعات سابقة، وهذه الاستعادة تكون خفية حيناً، وجلية حيناً آخر، بل إن كثيراً من هذه الإبداعات تكون تنويعاً على ما سبقها، لأن الارتداد إلى السابق بالقراءة، يقود حتماً إلى نوع من التماس أو التداخل الذي يعتمد التوافق تارة، والتضاد تارة أخرى .
من الملاحظ أن الأديب يعتمد في (تناصه) على مصادر متعددة، منها الديني، والتاريخي، والأدبي،
وما ذلك، بحسب الناقد العراقي جاسم خلف إلياس إلا لكونه: (تقنية ، يستخدمها القاص لأنها تتيح له حرية في الحركة أو القول لا يتاحان له تماماً خارج التناص .. فالإشارات اللغوية من ترتيب الكلمات أو الاقتباسات أو التلميحات الثقافية بأنواعها المختلفة، كلها علامات تحفز التخييل على استنطاق الموجودات النصية لتأسيس فضاء دلالي بين دال مكثف، ومدلول واسع وشمولي. شعرية القصة القصيرة جداً ص166 ــ جاسم خلف إلياس .
والقارئ للعمل سيلاحظ ميل النص إلى تشغيل هذه التقنية في العديد من نصوصه، مرة كتطعيم لأسلوبه، ومرة كمحاورة لها.
نعثر في نص «أريج» ص19، على آية قرأنية ترتب بما فعل السامري لصناعة العجل: أخذ قبضة من أثر العالم، وكانت الغاية إظهار فساد الرجل.
وفي نص «قياس» ص123، نجد الآية القرآنية التالية {كان قاب قوسين أو أدنى».
فالنصان يحيلان إلى تناص قرآني، والغاية جمالية من جهة، وتقوية المعنى المراد من جهة ثانية. تلوينات أسلوبية ذات بعد فني، يغازل مخزون القارئ، ويدفعه إلى عقد مقارنة بينها وبين مراد القصة.
أما في نص «رياح السموم» ص156، فنراه يستدعي قصة شن وطبقة، ويقيم معها حوارا ، يسير بخلاف القصة المستوحاة، ولا يكتفي بذلك، إذ يستثمر قصة طروادة لتعميق معاني النص. وهو بذلك، يحقق التناص المضاعف.
وفي نص «نركسوس» ص136، يتم استثمار قصة قابيل وهابيل، واستمرار القتال بينهما رغم رغبتهما في إقامة صلح دائم بينهما، في حين نجد نص «تكتيك» ص121 يستدعي قصة زرقاء اليمامة.
وفي قصة «حنكة» ص106، نجد استدعاء قصة القائد المهزوم الذي تعلم الدرس من النملة، فعاد إلى أرض المعركة بنفس جديد، فحقق النصر. لكن شخصية النص تعلمت كيف تقتحم الأبواب المغلقة التي سدت في وجهها.
نلاحظ مما سبق، اعتماد القاص على تقنية التناص، مما وسّع من آفاق النص ودلالته، وكثّف القاص من خلاله البعد الدلالي للغة، مما جعل النص ثرياً ومُمتعاً في الوقت نفسه.
لقد تميزت قصص هذه المجموعة بنزوحها الجامح نحو خلق تناصات عديدة كانت مقصودة إلى درجة أضحى التناص معبرا نحو التشكيل الجديد لقصة منحوتة من صخر الحكي والحكايات.
هناك باقة قصصية اشتملت على مسرحة النص القصصي، بل حوّلت النص القصصي القصير جدا إلى ومضة قصصية ممسرحة، من مثل النصين التاليين: «موازين» ص52، و»براءة» ص132.
الميتاسرد:
يقصد بالميتاسرد ذلك المحكي القصصي الذي يستبطن ذاته؛ حيث يتحول إلى مرآة فنية وجمالية تنعكس فيها ذات المبدع شعوريا ولاشعوريا. بمعنى آخر الميتاسرد هو فضح للعبة السردية، وكشف لخباياها الدفينة ، واستجلاء لمضمراتها المتوارية، وسرد حقيقي لسيرة الكتابة والإبداع، كما يتبين ذلك جليا في الكثير من النصوص حتى ليكاد يكون أهم خصيصة تميز الإضمامة، ونكتفي بضرب بعض الأمثلة على سبيل التمثيل لا الحصر، منها: «إلهام» ص14، و»هروب» ص155، و»نوبة» ص120، و»تداع» ص 47، و»سمفونية» ص111.
تتضمن هذه النصوص المقتضبة والوجيزة تركيبا ميتاسرديا قائما على فضح اللعبة السردية بكل مقوماتها وخصائصها، بالتوقف عند شعرية الكتابة في القصة القصيرة جدا بغية اختبار مواطن ضعفها وجودتها.
إنها كتابة تمارس عريها أمام المتلقي وهي تنكتب، وهي تمارس فعل الكتابة، تبرز خصائصها دون مواربة، فالمعجم الغالب على تلك النصوص وغيرها، هو معجم القص الوجيز. فنجد السارد طبعا، إضافة إلى المعجم التالي: الققجة، والقفلة، والكلمات، والمعنى، والقارئ، والنص، والحروف، والمتن، والتناص، والتكثيف، والعتبة.
والملاحظ أن بعض هذه النصوص جاءت لفضح الاسهال، والسرقات، كما في نص «إلهام». والنتيجة لمثل هذا الفعل هو السقوط المدوي، نص «تداع».
ملاحظات:
يطرح السؤال: هل كل النصوص الواردة في المجموعة تندرج ضمن القصة القصيرة جدا؟ وهل جميعها تحوز اهمام القارئ بما تمتلكه من عمق، وتحرضه على التأويل، وتدفعه إلى المشاركة في الكتابة؟
أستحضر، هنا، جملة من النصوص، منها نص «أموات» ص76، فنتيجة قشرته المجازية السميكة، يجد القارئ صعوبة فك رموزه، لكنه، وبعد جهد جهيد، لا يعثر على الإثابة التي تناسب ما بذله من جهد، إذ يحصل على نص عادي بعد إزالة سمكه المجازي: رجل ركب القطار، فوجد ممره مزدحما بالناس، كما المقصورات، وحين عثر على مكان له بين الجالسين، وجدهم منشغلين بهواتفهم، مما أشعره بالضيق، فحمل هاتفه يطلب مراكش التي يقصدها.
فأين العمق والإدهاش؟
أما نص «قناعة» فعنوانه يكفي دليلا على أنه ليس نصا من القص الوجيز حتى وإن أتى قصيرا؛ فهو يتحدث عن مجموعة من المرضى لحظة تناولهم الأدوية بوجوه باسمة راضية بالقدر، فلا صراع ولا مفارقة رغم تجميع مفردات الرمس والابتسام في طية واحدة، فهي غير قادرة على حمل المفارقة العميقة.
وفي نص «إصلاح» ص116، لا نعثر على ما يضيف لخبرة القارئ جديدا؛ فما تم ذكره متداول بين الناس معروف، فالمحفظة صارت مفضحة نتيجة عوامل كثيرة.
غايتنا من هذه الوقفة لا التنقيص بل الإشارة إلى أن القص الوجيز قد ينفلت منا أحيانا، فلا تصيب سهام النصوص قلبه.