«تنظيف الفراغ» في «لا أحد ينتظرني» للقاص عبد النبي دشين

لا يمكن النظر في قصص «لا أحد ينتظرني» للقاص عبد النبي دشين دون الاصطدام بمهيمنة «تنظيف الفراغ» التي تدل على توجه «مونوغرافي» واضح في الكتابة القصصية. وهذا التوجه لا يمكن تلافيه أو التغاضي عنه. فكل القصص (26 نصا) ليست أماكن للمتعة، كما أن السارد (المتعدد حكائيا، والمتماثل منظورا وصيغة) ليس متفرجا ساذجا يكتفي بتقديم صورا زمنية ببعد سردي واحد. بل إن الحكايات نفسها [المادة الحكائية] تقدم لنا نفسها ليس فقط بوصفها صورا مقروءة، بل أيضا (وأكثر) بوصفها صورا مرئية، مما يفرض توجها آخر في القراءة والتأويل، مادام «اللاشعور» المتحكم فيها هو الفراغ، فكيف نكتب أو نصور الفراغ؟
تقول تيري ولياميز «أكتب لأواجه أشباحي». أما سُرَّاد «لا أحد ينتظرني» فيواجهون أشكالا متنوعة من الفراغ بما يمكن أن نسميه «الاستيهامات» التي تأتي من الذاكرة. وهنا يحضر التذكر كفعل مُبَنًيِن، في العمق، لكل القصص.  الفراغ موجود مسبقا، وما يجعله ملحوظا هو التنظيف. يقول سيلين: «في الواقع، أنا لا أُبدع شيئاً، بل أنظف «تمثالاً مطموراً في الطين (…) عندما يصبح كل شيء نظيفاً، مرتباً، واضحاً، يكون الكتاب قد اكتمل». وهذا ما يفعله القاص عبد النبي دشين في هذه المجموعة: «تنظيف الفراغ».
في قصة «لا أحد ينتظرني» لا ملاذ للسارد إلا الفراغ، ولا عزاء إلا الاستغراق الشامل في الوجوه التي مضت، والأرواح التي ما زالت تسكن الصور والكتب والأيام. وفي قصة «انتظار»، هناك رهان واضح على «لعبة الأبواب» [في الزاوية المعتمة من المقهى الصغير، جلس يتأمل الباب. لا يعرف تماما من ينتظر، لكنه شعر أن شخصا ما سيأتي..] (ص: 13). أما في قصة «العودة الأخيرة» فإن السارد يقتطع حيزا في الفراغ ليجلس على كرسي الذاكرة. [وكيف أنسى؟ كنتَ خجولا وأحمق قليلا، لكني رأيت فيك قلبا طيبا أكبر من الدنيا. ومنذ تلك اللحظة، كنت عالمي] (ص: 17). وفي قصة «رصيف انتظار»، لا شيء سوى الفراغ [لم تكن المحطة مهجورة أبدا، حتى لو كانوا مجرد وهم] (ص: 22).. الفراغ هو العنصر الباني لكل القصص (الكرسي، أنيماليا القصة، ثلاثية، الجريدة، الصوت، المرأة والصورة، حارس الظلال، ضياع،  ذاكر مغلقة خلف الستائر، رائحة الغياب، سيلفي، شارعـ شريط، ظل الظل، تقاطع، عصيان، ليلة الفقد، ماذا لو كنت هذا الموظف، مرآتان في الغرفة، موت زقاق، هسيس الفراغ، البحر كان يعرفني)، والذاكرة هي التمثال الذي لن يتحقق وجوده إلا إذا تحقق فعل التنظيف، أي تحقق اقتفاء الانفعالات والمشاعر بالتذكر، وتمكينه من ارتداء الجُمل والحكايات والقصص. إن الذاكرة، هنا، هي [الشكل العضلي للفراغ]، أي الزمن الخاضع للتوهم، ما دام اللغة [لغة السرد] ليست إلا وسيلة عرضية لحل مشكلات الزمن الذي يُبنى على نحو لاشعوري، وفقًا لإغراء تجريب الوجود بطرق مختلفة، وأحيانا بمرجعيات «لاشعورية» مختلفة.
إن الزمن يوجد، دائما، في لاشعور القصة. هو الفعل والأثر الذي يسميه إدغار ألن بو «حبكة الكل في الكل». كل الاشتغالات على الزمن ممكنة. الزمن التجريبي والتحيينات الممكنة: الاسترجاعات والتخيلات وبناء التوقعات، ومن هن أمكننا القول إن «تنظيف الفراغ» في مجموعة «لا أحد ينتظرني» يقوم على مجموعة من الروابط التي تصل «السارد» بالمحكي.
رابط الذاكرة: 
لحم الغياب
الذاكرة هي لحم الغياب، لأن كل الصور ممكنة من خلالها، حتى التي ترتبط بالتحول الكبير الذي يعتري الذات في علاقتها بالماضي (بأشيائه وكلماته وشخوصه وصوره)، ذلك أن الغياب دائما يبدع حيلا للالتفاف على لغزية الزمن، حتى يبقي على حيز الحضور أبدع، لعل أشهرها الذاكرة بكل مجازاتها: (الأنسنة، التشيئ، التطييف)، وهو ما نلاحظه مثلا في قصة: «موت زقاق». ومع ذلك، فالقاص عبد النبي دشين لا يسقط في الرمزية، أو في أي من الأبنية المجازية في الأمثولة والأليغوريا، رغم أن بعض القصص قد توحي بذلك. كما أن الذاكرة التي نحن بصددها  ذاكرة مُضلِّلة، لا تُعيد الحقيقة بل أثرها المتآكل.
إن استحضار الجسد الغائب عبر الذاكرة يصبح في هذه المجموعة فعلاً مركبًا، يجمع بين الحسي والوجداني. فالذاكرة لا تُعيد إلينا الجسد كصورة بصرية فحسب، بل تُعيده كحضور فيزيولوجي كامل.
رابط المرآة: 
الأثر العكوس
يقول جاك دريدا يقول: «لا يوجد أصل، فقط هناك أثر». والأثر في قصص المجموعة لا يحاكي الواقع، بل يبدعه، حتى إننا نتساءل هل هناك أصل واقعي للمحكي، ما نجد في المقطع القصصي الثالث من قصة «ظل الظل»: الظل الذي فقد ظله: [وقف أمام مرآة مظلمة، يحاول أن يجد صورة له، لكنه لم يجد شيئا. كان الظل قد اختفى تماما، وأعلن أن لا مكان له في عالم يعتمد على الآخرين لإثبات ذاته] (ص: 88).
ونقرأ في قصة: «مرآتان في الغرفة»: [همست هند وهي تنظر إلى المرآة الأولى: «ماذا لو غادرت حياتي ورسمت لنفسك مسارا مغايرا؟»] (ص: 107).
المرآة تُفكّك علاقتنا بالواقع. لم تعد تُظهر بل تُخفي. لم تعد متكلمة أو صامتة أو مشوهة أو مبالغة أو محقرة أو مضخمة [كروتيسك]. إنها ليست مجرد سطح عاكس. نقرأ في قصة «المرأة والصورة»: [حين رفعت يدها لتلامس الزجاج، أدركت أن الصورة لم تعد مجرد انعكاس] (ص: 48).  إنها كيان مستقل يطرح أسئلة كبرى عن: الحقيقة والوهَم/ الذاكرة والنسيان/ الهوية والتشظي. وهنا يمكن أن ننتهي إلى انهيار العلاقة بين الذات والهوية، تأسيسا على نظريات بودريار حول (التمثيل والمحاكاة) أو على ما انتهى إليه ميشيل فوكو حول «الجسد المُنضبط». ذلك أن الشخصية في القصة تعاني من فقدان العلاقة مع الذات، مع ماضٍ غير قابل للاسترجاع.
رابط الرائحة: 
في قصة «رائحة الغياب»، نقرأ [أول مرة شمت رائحة الغياب كانت عندما رحلت أمها. لم تفهم وقتها، لكنها تذكرت لاحقا كيف أن الغرفة قبل الفراق كانت مشبعة بشيء غريب، شيء يشبه الرطوبة الممزوجة بالحزن، رائحة تشبه انتهاء الأشياء دون صوت] (ص: 67).
يشبه «تصوير الروائح» تنظيف الفراغ الذي قلنا سابقا إنه «لاشعور المجموعة»، ذلك أن الرائحة هي التي تمثل، في المحكي الاسترجاعي، نوعا من الحماية ضد دافع الموت الذي يميز الرغبة، ويقودها قسرا نحو صنع التقابلات المبنية على الضد والاقتضاء والتناقض، ذلك أن كل نصوص المجموعة تقيم بنيتها على ثنائيات واضحة.
هذا الأمر ينطبق على أغلب قصص المجموعة التي يتجذر فيها الشعور بالوحدة والتخلي والاغتراب، مقابل تعبيرات الحضور والوجود والامتلاء بتشغيل «محكي الرائحة» التي تملأ الغياب بالذاكرة.
بهذا المعنى، تصبح الرائحة في الفنّ، كما في الحياة، ليست فقط إحساسًا، بل وسيلة استدعاء، تفعيلًا لحضورٍ غائب، أو لاستعادة جسدٍ لم يعد في المكان، لكنه لم يغادر الذاكرة بعد. فكما تلتصق الرائحة بالملابس، تلتصق الأجساد الغائبة بالذاكرة، وتنبعث مجددًا كلما لامسها أثر، أو توق، أو شذى عابر.
رابط الجماليات: 
 تركيب الحدوس الشعرية
لكي تحفر القصص طريقها إلى جماليتها الخاصة، اختار القاص عبد النبي دشين أن يلوذ بـ «الزمن الخرافي»، بعجيبه وغريبه وأخلاقيته وثنائياته؛ لتأبيد إدراج الحكاية في جماليات الأشياء الصغرى (صورة، مرآة، كرسي، باب، نافذة، ظل، غرفة، حائط، زقاق، شارع، جريدة.. إلخ)، وذلك ضد التاريخ الكبير الكلي (مثلما نقف على ذلك، مثلا، في قصة «ثلاثية» التي تستعيد من خلالها أحداث 16 ماي). والسؤال المهم الذي تطرحه علينا هذه المجموعة: ما هو الجزء المهم في السرد القصصي هل هي حبكة الأحداث ووحدة الأثر أو كليته، أم حدوس الشعر بكل بلاغته اليومية ورمزيته وإيقاعاته؟
صحيح أن ألبرتو مورافيا يقول إن حبكات القصص أشبه بحدوس شعرية، لكن الزمن الحدسي فعل قطع، بينما يدخل إيقاع القصة في نطاق الوعي الفني للكاتب الذي يبني قصصه على مجموعة من الاستراتيجيات الحكائية، غير أن قصص «لا أحد ينتظرني» تقوم على مبدأ «ابدأ من حيث شئت وانته حين يجب الانتهاء». نحن أمام نظام لغوي سردي آخر محكوم، أولا، بالقصصية، وخاضع لنسق دلالي منتج للمعنى، ومؤطر بنمذجة تحاصر السرد في تركيبة أجناسية متعاقد حولها: القصة القصيرة.
رابط السينما: 
تشغيل الظلال
إذا كان بالإمكان في السينما- وهذا هو العشق الآخر للقاص عبد النبي دشين- الاهتداء إلى «تنظيف الفراغ» عن طريق الاستعانة بالترميز البصري، والإضاءة والألوان، والمؤثرات الخاصة وردود أفعال الشخصيات وتعبيراتها الجسدية، وأيضا على الحوار والصوت والموسيقى.. إلخ، فإن دشين في هذه المجموعة يلوذ بالمتخيل السينمائي، ليس فقط في قصة «شريط» التي تحضر فيها السينما بشكل واضح، بل في قصص أخرى مثل «حارس الظلال» [أفلام الرعب] و»رصيف الانتظار» [أفلام الويسترن] و»البحر كان يعرفني» [أفلام المغامرات/ أفلام البحر]. بل في أغلب القصص.
إن دشين يلجأ إلى السينما ليس بوصفها مرجعًا ثقافيًا فحسب، بل بوصفها أداة داخلية لتقطيع المشهد القصصي وتوزيع الضوء والظل على شخصياته، وأيضا لأن السينما تسير على الزمن السريع، ما دامت السرعة عنصرا من عناصرها، وهذا ما نلمسه في العديد من قصص «لا أحد ينتظرني» التي بنيت كمشاهد سينمائية [قصص: شريط، الجريدة، ثلاثية، حارس الظلال.. إلخ]؛ حيث يدخل القارئ لا إلى عقل الشخصية فحسب، بل إلى حركتها داخل إطار بصري يبدو مأخوذًا من مشهد طويل في فيلم.
في بعض أفلام أندريه تاركوفسكي أو تيرينس ماليك، تُستخدم على نحو لافت الصور الحسية (الضوء، الماء، رائحة الأرض بعد المطر) لاستدعاء جسد أمّ، أو أب، أو محبوب راحل. كما نلاحظ أن الغائب لا يُستعاد بوصفه كائنًا مستقلًا، بل بوصفه تجربة وجودية تُستدعى من خلال تفاصيل دقيقة، تُخاطب الذاكرة الجسدية قبل أن تخاطب الوعي. وهذا ما  نلاحظه على قصص عبد النبي دشين، ذلك أن الغياب لا يكون في هذه التمثيلات (الصور، المرايا، الروائح، الجدران، الكراسي) نهاية للحضور، بل شكلاً آخر من استمراريته.
رابط الأدب:
 المكتبة الكبرى كمرآة 
تُصبح القراءة هنا فعلاً موازياً للكتابة، حيث يُستثمر الأثر الثقافي لتوسيع أفق العزلة إلى ما هو أكثر من ظرف اجتماعي أو نفسي؛ إلى بُعد وجودي يرى الغياب بوصفه شرطًا للمعرفة، والموت بوصفه علامة على المعنى. وفي مجموعة «لا أحد ينتظرني» هناك قصة بعنوان «عصيان» تحيلنا على نحو ضمني إلى آلية التقاطع مع نصوص أخرى [التناص]، وخاصة مع «مانيكان» شارل بوكوفسكي/ عبد الفتاح كيليطو/ ألان روب غرييه. ففي كثير من النصوص القصصية، تحاكي المانيكان الجسد البشري، مما يمنحه موقعًا رمزيًا معقدًا يتراوح بين التمثيل الصوري للغياب، والوجود المجوف الذي يضمر سؤالًا عن الإنسان والمعنى.
عبد النبي دشين يوظف المانيكان لا بوصفها غرضًا، بل بوصفها مرآة للذات المعزولة. المانيكان هنا ليست مجرد دمية، بل تجسيد رمزي لعالم بلا حرارة بشرية، حيث تتجاور الأجساد المفرغة من الروح مع الأحياء المنهكين من الوجود. بهذا، تتحول الدمية إلى استعارة عن الجسد الاجتماعي الذي يتقن التمثيل، لكنه فقد جوهره.
يجتمع عبد النبي دشين، بوكوفسكي، وكيليطو وغرييه حول صورة المانيكان، كلٌّ بطريقته، ليكشفوا هشاشة الإنسان في وجه الغياب، سواء كان غيابًا حسيًا أو رمزيًا. فالمانيكان جسد موجود بلا وجود، وهو تجسيد للعزلة المطلقة: أن تكون حاضرًا بشكلك، غائبًا بروحك.

الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 06/06/2025