كشفت مذكرة التوزيع الجهوي للاستثمار العمومي عن تفاوتات صارخة تعكس اختلالات عميقة في تدبير الموارد، وتعيد طرح سؤال العدالة المجالية من زاوية المال العام الذي يفترض أنه قاطرة لتقليص الفوارق لا لتكريسها. والجديد في هذه المفارقة أن الأرقام الواردة في الوثيقة تأتي في تناقض واضح مع التوجيهات الملكية التي شددت، في خطاب العرش مؤخرا، على أنه لا مكان اليوم ولا غدالمغرب يسير بسرعتين، وأن التنمية الاجتماعية والعدالة المجالية لا يمكن أن تتحققا في ظل استمرار مناطق، خصوصا في العالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية. ومع ذلك، تظهر المذكرة أن الفجوة ما زالت واسعة بين جهات تستحوذ على الجزء الأكبر من الاستثمار العمومي ومشاريعه الكبرى، وجهات أخرى تُدفع إلى الهامش ببنيات مهترئة وموارد متواضعة لا تصنع تنمية ولا تخلق فرصاً للاقتصاد المحلي.
وتقدم المذكرة مؤشرا مركزيا يكشف بوضوح حجم الاختلال، ويتعلق بالناتج الداخلي الخام للفرد. ففي جهة الرباط سلا القنيطرة يصل هذا المؤشر إلى 40.720درهما للفرد، وهو مستوى يعكس دينامية اقتصادية قوية ووجود بنيات إنتاجية متقدمة ومراكز استشفائية وجامعية ولوجستيكية كبرى. في المقابل، لا يتجاوز الناتج الداخلي الخام للفرد في جهة فاس مكناس 23.334 درهما، بفارق يتجاوز 17 ألف درهم مقارنة بالعاصمة. أما في جهة الشرق فلا يتعدى 25.650درهما. هذه الأرقام وحدها كافية لإظهار أن الاستثمار العمومي لم يتحول بعد إلى رافعة لإعادة توزيع الثروة، بل يستمر في تغذية نفس الخريطة القديمة: أقطاب اقتصادية ساحلية قوية، ومناطق داخلية مقيدة ببنيات ضعيفة وقابلية منخفضة لجذب الاستثمار الخاص.
وتبرز جهة طنجة تطوان الحسيمة كنموذج للجهة التي استفادت من استثمارات ضخمة، إذ تستقبل مشاريع بمليارات الدراهم، على رأسها توسعة ميناء طنجة المتوسط الذي تلامس اعتمادات تطويره 30مليار درهم. وقد انعكس هذا الاستثمار على المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يرتفع الناتج الداخلي الخام للفرد في الجهة ليبلغ حوالي 34.168 درهما، بينما تتطور شبكات النقل الطرقي والسككي والمناطق الصناعية، وتتوسع سلاسل صناعة السيارات والطيران والطاقة. هذا التحول جعل الجهة واحدة من أكبر محركات النمو الوطني، لكنه أيضا كشف الفارق الشاسع بينها وبين جهات أخرى لا تزال تبحث عن استثمارات قادرة على تغيير واقعها.
ففي جهة الشرق، التي تمتد على مساحة تتجاوز 88 ألف كيلومتر مربع، تظهر مؤشرات التنمية دون المستوى المطلوب رغم بعض المشاريع الكبرى. فالناتج الداخلي الخام للفرد لا يتجاوز 25.650 درهما، ونسبة البطالة تصل إلى 21.1 بالمئة، وهي من أعلى النسب على الصعيد الوطني. ورغم أن مشروع ميناء الناظور غرب المتوسط يفترض أن يكون نقطة تحول في اقتصاد الجهة، تكشف المذكرة عن تأخر واضح في الأشغال المرتبطة به، خاصة في الطرق والمحاور المؤدية، التي لم يتجاوز التقدم في بعضها 13 بالمئة. وهو تأخر يعني أن العائد الاقتصادي والاجتماعي للمشروع ما يزال مؤجلا، وأن الاستثمار العمومي في هذه الجهة يظل بلا أثر فوري على سوق الشغل.
أما جهة فاس مكناس، التي تضم أكثر من 4.4 ملايين نسمة، فتجد نفسها في منطقة وسطى لا تستفيد من قوة الجاذبية الساحلية ولا من ضخامة الاستثمارات الصناعية. ورغم أنها تحتل المرتبة الخامسة وطنيا من حيث المساهمة في الناتج الداخلي الخام، إلا أن الناتج الفردي فيها لا يتجاوز 23.334 درهما، وهو رقم يعكس فجوة كبيرة في ما يتعلق بقدرة الجهة على خلق الثروة. المشاريع المبرمجة، من سدود وتوسيع شبكات الري ومراكز استشفائية، لا تكفي وحدها لإحداث تحول هيكلي، لأنها مشاريع موزعة جغرافيا وبطيئة الأثر، ولا ترتبط بقطاعات إنتاجية قادرة على خلق فرص شغل واسعة.
وفي المقابل، تستفيد جهة الرباط سلا القنيطرة من تدفقات استثمارية ضخمة، تشمل المركز الاستشفائي الجامعي الجديد الذي يتجاوز غلافه المالي 7.450 ملايين درهم، إضافة إلى مشاريع في اللوجستيك والنقل ومراكز البحث العلمي والمتحف الوطني الجديد. هذه المشاريع تخلق بنية اقتصادية وعلمية واجتماعية متكاملة، تجعل الجهة الأكثر قدرة على استقطاب المقاولات والطلبة والأطر، وتعزز الناتج الداخلي الخام للفرد ليصل إلى 40.720 درهما، وهو أعلى مستوى وطنيا.
الأرقام الواردة في المذكرة تؤكد أن الاستثمار العمومي لم يتحول بعد إلى سياسة عمومية لإعادة التوازن الترابي. فبدل أن يكون وسيلة لإعطاء دفعة للجهات الهشة، ينتهي به الأمر في كثير من الأحيان إلى تقوية الجهات التي تمتلك أصلا بنية اقتصادية قوية، بينما تحصل الجهات المحتاجة على مشاريع متناثرة لا تصنع كتلة اقتصادية قادرة على تغيير المؤشرات الاجتماعية. وهذا ما يجعل الفوارق المجالية أكثر رسوخا.

