ليس غريبا أن يتراجع قلق الشارع العام بخنيفرة حول ما ظل يوصف منذ سنوات ب «رداءة وملوحة الماء الشروب»، بعد ارتفاع القلق الأكثر توحشا إزاء شبح «ندرة الماء» الذي أخذ يزحف متأبطا ناقوس الخطر بصوت لا يقبل التعامل معه بالاستهتار والاستخفاف، سيما أمام علم الجميع بما يزخر به الإقليم من بحيرات ووديان وموارد مائية، تعتبر خزانا ذات قيمة كبيرة، إذا لم نقل أنها تعتبر صهريج المغرب الذي يمده بالماء كما بالكهرباء، حين نعرف أن أم الربيع وسبو يولّدان الطاقة الكهربائية لتشغيل المعامل والمصانع المنتشرة على أطراف مختلفة من البلاد، فيما وديان أخرى تمد مئات الآلاف من الهكتارات الفلاحية بالماء في سهول تادلة وملوية والغرب والشاوية ودكالة وسايس.
لقد حمل تداول صور متفرقة لبحيرة «أكلمام أزكزا»، الواقعة ضواحي خنيفرة، بعد اقتراب مياهها من الفناء، الساكنة إلى الوعي الحقيقي بتهديدات الجفاف وبقيمة الماء، علما أن هذا المنتجع العالمي قد عرف تأهيلا سياحيا خلال السنوات الأخيرة، ويبلغ علوه نحو 1474 مترا على سطح البحر، ويعد من المواقع المصنفة كإرث إنساني (ظهير بتاريخ 1943 / ج . ر، رقم 1757 في 28 غشت 1942)، وعلى مقربة منه لم تسلم عيون أم الربيع (علو 1556 مترا) هي الأخرى من لعنة الجفاف الرهيب، إلى جانب باقي منتجعات الإقليم، مثل أگلمام معمي (علو 1600 متر)، أگلمام سيدي علي (علو 2100 متر)، أگلمام أبخان (علو 1671 متر).
عيون أم الربيع تتألم
لم يكن متوقعا يوما ما أن تتراجع مياه عيون أم الربيع بخنيفرة، ويجف شلالها، بتلك الصورة المؤلمة والرهيبة، وأن مجرى نهر أم الربيع سيتقلص بشكل محزن، ولعله جف عن آخره على مستوى منطقة بني عمير وبني موسى، بإقليم الفقيه بن صالح، وجفت معه آمال سكان البوادي التي يخيم عليها شبح الجفاف هناك، وفق ما تناقلته منابر إعلامية محلية، حتى أن وزير التجهيز والماء لم يفته، خلال مُنَاقشة «تقرير مهمة استطلاعية حول نهر أم الربيع»، التأكيد أن الوضعية المائية في السدود الواقعة على هذا النهر «باتت مقلقة جدا»، حسب قوله، ومشيرا لسد المسيرة الذي عرفت وارداته المائية انخفاضا، منذ سنة 2018، ما بين 50 إلى 60 بالمائة.
وبخصوص ما بات متداولا بشكل مقلق حول وضعية استمرار «المكتب الشريف للفوسفاط» في استغلال مياه أم الربيع، كشف المسؤول الحكومي ذاته، أن هذا المكتب «سيضطر للتوقف عن استعمال مياه سد الحنصالي، الواقع على نهر أم الربيع، بين خنيفرة وبني ملال، لأجل تخصيص هذه المياه للشرب والسقي لفائدة الوسط القروي»، إذ يستفيد المكتب المذكور، وفق تقرير المهمة الاستطلاعية، من «أزيد من 40 مليون متر مكعب سنويا من مياه هذا السد الذي تراجعت وارداته المائية، ما بين 21 و64 بالمائة»، كما أن حقينته الإجمالية،التي كانت تتوفر على حوالي 682 مليون متر مكعب، لم يعد يتوفر سوى على أقل من 70 مليون متر مكعب.
الجبل والماء
من كان يعتقد أن السلطات الإقليمية بخنيفرة ستدعو لاجتماع طارئ، خلال الأيام القليلة الماضية، لتخبر بمجموعة من القرارات التي تقضي باتخاذ ما يمكن من التدابير الصارمة بغاية ترشيد استعمال المياه الصالحة للشرب، على خلفية شبح الأزمة التي باتت تهدد الموارد المائية جراء توالي سنوات الجفاف، حيث تم تسطير عدة تعليمات من بينها منع نشاط الحمامات ومحلات غسل السيارات، لثلاثة أيام من كل أسبوع، مع منع غسل الشوارع والساحات والأزقة وباقي الفضاءات العمومية بالماء الصالح للشرب والمياه الجوفية، من أجل حماية الموارد المائية، سواء لدى الاستهلاك الكبير أو الاستهلاك المنزلي، وتفادي كل الممارسات التي من شأنها تبذير هذه المادة الحيوية.
وقد سبق ل «الائتلاف المدني من أجل الجبل» الدخول على الخط بإثارة الانتباه إلى «الوضعية الكارثية التي تعيشها ساكنة عدد من المناطق الجبلية، وتهدد سبل استقرارها، وتعجل بهجرتها ونزوحها الجماعي إلى مناطق أخرى»، فيما شدد على مطالبته الحكومة المغربية والمؤسسة التشريعية، وكل السلطات المعنية، (كل حسب صلاحياته)، ب «ضرورة تحمل مسؤولياتها في تعزيز شروط استقرار وأمن المواطنين وتوفير حاجياتهم باعتماد حلول أنية ومستعجلة لهذه المعضلات»، مع «تشكيل خلية أزمة على المستوى المركزي تكون مهمتها اتخاذ كافة التدابير المناسبة والكفيلة بإنقاذ ساكنة هذه الجماعات الجبلية، والحفاظ على ما تبقى من مواردها»، وفق بيان جرى تعميمه.
وفي ذات السياق، ألح «الائتلاف المدني من أجل الجبل» على ضرورة «تشكيل لجن تقصي ولجن تفتيش للبحث في الملفات المتعلقة بتدبير موارد المياه ببعض الجماعات»، وكذا «تفعيل مراقبة استعمال المياه والموارد الأخرى وعقلنة استعمالها والاستفادة منها بشكل متساو وعادل»، مع «استيعاب استعجالية سن سياسة خاصة وقوانين لتدبير المخاطر والكوارث والإغاثة في المناطق الجبلية، سواء في الاستباق أو في المعالجة، وإيجاد حلول مناسبة لتوفير المياه اللازمة لكل الساكنة المتضررة»، فيما رأى الائتلاف بأن الساكنة تعاني وطأة العطش في ظل ندرة الماء الشروب واستحالة الولوج إلى نقط جلب المياه»، ناهيك عن «ضغط توفير المياه لماشيتهم ولزراعتهم المعاشية».
أسئلة الخصاص
وكان وزير التجهيز والماء، نزار بركة، قد أشرف، يوم الاثنين 13 مارس 2023، بخنيفرة، على افتتاح المعرض الجهوي للماء بجهة بني ملال خنيفرة، تحت شعار «الماء رافعة التضامن الترابي»، حيث ذكّر بأن هذا المعرض «بمثابة فضاء لتوعية وتحسيس مختلف مستعملي الماء بأهمية الموارد المائية وترسيخ عقلنة استعمال الماء»، مستحضرا «الأهمية التي يحظى بها الحوض المائي لأم الربيع لمساهمته في تلبية الحاجيات، وفي تزويد الدوائر السقوية الكبرى وإنتاج الطاقة الكهرومائية»، فيما أبرز أن تدبير الموارد المائية على مستوى هذا الحوض يواجه تحديات كبيرة مرتبطة بالتأقلم مع المخاطر القصوى كالجفاف.
وارتباطا بالموضوع، لم يكن مفاجئا أن يعود «ملف ندرة الماء بخنيفرة» لقبة البرلمان، عبر سؤال كتابي موجه من طرف رفاق نبيل بنعبدالله إلى وزير التجهيز والماء، يطالبه ب «الكشف عن الإجراءات التي ستتخذها الوزارة لمواجهة ندرة المياه في إقليم خنيفرة، في ظل موسم الجفاف الذي يعيشه المغرب»، و»تحديدا فيما يتعلق بالماء الشروب الموجه للساكنة، خاصة وأن ما تقوم به الجماعات الترابية في هذا الصدد غير كاف نظرا للوضع الاستثنائي لهذه السنة»، إذ أن «شح التساقطات المطرية أدى إلى خصاص كبير على مستوى السدود والبحيرات وتراجع منسوب الفرشات المائية وجفاف الآبار والوديان».
في مواجهة العطش
وتفاعلا مع مضامين الخطاب الملكي في افتتاح الدورة الأولى من الولاية التشريعية الحادية عشرة، حول «إشكالية تدبير الموارد المائية التي باتت تطرح نفسها بإلحاح، وكيف «أن المغرب يمر بمرحلة جفاف صعبة، هي الأكثر حدة منذ أكثر من ثلاثة عقود»، ومن ذلك «العمل على توفير الماء الصالح للشرب لساكنة العالم القروي»، لم يفت السلطات الإقليمية، في شخص عامل إقليم خنيفرة، الإشراف على «عملية تسليم شاحنات صهريجية، وصهاريج مائية لفائدة الجماعات الأكثر تضررا من الجفاف»، والتي تكلفت باقتنائها كل من وزارة الداخلية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والمجلس الجهوي لجهة بني ملال خنيفرة والغرفة الجهوية للفلاحة.
وإذا كان الرهان ينصب حول إنقاذ الإنسان من العطش، فقد تتجلى الصعوبة والمعاناة بالنسبة للحيوان والأرض، إذ تحمل النداءات الكثير من الألم والحسرة، وهي تحكي واقع المياه التي أخذت تجف، بعدما كانت تمد هذه الأرض أو تلك بالحياة، إثر شح التساقطات المطرية وما أدى إليه من تراجع كبير على مستوى السدود والبحيرات والفرشات المائية والجوفية، ومن جفاف الآبار والوديان، وبسببها لم يعد بإمكان الفلاحين ومربي الماشية بالإقليم العيش باستقرار، خصوصا من الذين لا يفقهون شيئا في الحياة غير مجال الفلاحة وتربية الماشية، مقابل انعدام فرص الشغل والرغبة في النزوح للمدن وما يرافق ذلك من آثار سلبية على حياة المنطقة ومستقبل الأطفال والثروة الحيوانية.
أزمة سابقة وتدابير مؤجلة
وكانت مدينة خنيفرة قد عاشت «تجربة الأزمة الخانقة في الماء الشروب»، في عز الخيرات المائية، قبل قيام سلطاتها بإجراءات جلب المياه من بعض العيون، بتحلية مياه أم الربيع، ومع توالي الجفاف لم يتم أخذ الأمر بالجدية اللازمة كما هو الشأن بالنسبة ل «اللقاءات المنعقدة بهدف مناقشة المناطق المتضررة من البرد والثلوج»، بل ورغم كل صيحات التحذير من شبح ندرة المياه، تم اختيار موقع التفرج على كبار الفلاحين وأصحاب المسابح، وكذا على مصاصي الوديان والمياه الجوفية، وفي حكاية واد شبوكة النموذج الأبرز عندما بلغ العمى ب «خلايا الضيعات» إلى نحو وضع مضخات قوية وحواجز سدية امتصت المياه وأشعلت الغضب.
وبقدر ما ترتفع انتقادات الشارع العام مثلا إزاء جفاف النافورات وإهمال المساحات الخضراء التي لم تعد تستفد من السقي المنظم، رغم عبور أم الربيع قلب المدينة، تبرر الجهات المذكورة موقفها بكونها على احترام المساهمة في عقلنة وترشيد استعمال الماء عقب التراجع غير المسبوق في الثروة المائية، وبينما رأى بعض المهتمين بالشأن العام أن ندرة الماء يجب اعتبارها إشكالية سببها سوء تدبير مسبق وليس تغيرات مناخية فقط، وبينما انطلق بعضهم الآخر من تداعيات الأزمة على «حق الإنسان في الماء»، اعتمد آخرون على الحق الشرعي انطلاقا من آية «وجعلنا من الماء كل شيء حي» وهنا يحدث نوع من الجدال المشترك.
حلول في مواجهة التحديات
وأمام اشتداد صيحات بعض مناطق الإقليم إزاء أزمة الماء، الذي انتقل من حالة الإجهاد إلى حالة الندرة، برز ما يدعو، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، للقيام بتعبئة شاملة لتقوية برامج التوعية والمشاريع، وفتح نقاش محلي – جهوي بين مختلف الجهات الفاعلة، حول مقاربات وآليات رفع التحديات المائية التي تواجهها البلاد، وعلى رأسها مفهوم التدبير المندمج للماء والاقتصاد الدائري والطرق المبتكرة، مع ضرورة «الرفع أكثر من برامج الاقتصاد في الماء إلى مستوى أولوية وطنية للتحكم في الطلب، والحفاظ على جودة المياه، من خلال اعتماد نموذج عمل جديدة للاقتصاد الدائري»، وهو ما سبق التشديد عليه في تظاهرة نظمت بمناسبة «أسبوع الماء».