كتاب توماس بيكيتي، «الرأسمال والإيديولوجية»، (لدار النشر «دي سوي» طبعة سنة 2019)، مليء بالدروس للنخب الفكرية والسياسية بالمغرب. مؤلف يضفي طراوة فكرية خصبة، في سياق ميزه «الجليد الإيديولوجي»، كما يفضل تسميته (ت.بيكيتي 2019).
بالنسبة لبلد مثل المغرب، يلقي هذا العمل الضوء على المسارات الإيديولوجية للمجتمعات البشرية المعاصرة، مما يساعد على تخفيف آثار «التيه الإيديولوجي» لدى الأجيال المعاصرة، الناجم عن شراسة انتقال ديموغرافي غير متحكم فيه.. (انظر ي.كورباج وا.طودو في موعد الحضارات، دار لوسوي 2007).
في هذا العمل، هناك عشرة استنتاجات تستحق أن تبرز، لأنها تتيح فهما أفضل لواقع تهيمن فيه الفوارق الاجتماعية والمجالية، من أجل تكييف أساليب العمل لصالح التقدم البشري، وهو تجميع لأفكار غاية في الأهمية، في لحظة تاريخية فارقة، تتميز بمساءلات متعددة الأوجه سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية.
1 – الدرس الأول: يبرز العلاقة التاريخية بين النظم السياسية ونظم المِلْكية في جميع أنواع المجتمعات البشرية، إذ أن بيكيتي يبين في كتابه فعلا أن: “ قضيتي النظام السياسي ونظام حق المِلْكية، شديدتا الترابط، وذلك في المجتمعات الأولى ومجتمعات الاستعباد القديمة، وصولا للمجتمعات ما بعد الاستعمارية والما فوق – رأسمالية العصرية، مرورا، بطبيعة الحال، بمجتمعات الملاكين والشيوعية والاشتراكية الديمقراطية، التي تطورت كرد فعل لأزمات عدم المساواة والهُوياتية، الناجمة عن المجتمعات التملكية. ولهذا أقترح تحليل التحولات التاريخية، باستخدام مفهوم “النظام غير المتكافئ”، (régime inégalitaire) الذي يشمل مفهوم النظام السياسي ونظام المِلْكية (أو النظام التربوي والضريبي)، ويسمح بإدراك تماسكه على نحو أفضل”.
2 – ينص الدرس الثاني، وهو ابتكاري في استشرافه، على أن الفوارق الاجتماعية والمجالية، التي طالما تم وصفها على أنها مجرد واقع اقتصادي واجتماعي وتكنولوجي، هي أولا وقبل كل شيء، ذات طبيعة إيديولوجية وسياسية. يشدد المؤلف، في هذا الصدد، على أن: “عدم المساواة ليست اقتصادية أو تكنولوجية، بل هي إيديولوجية وسياسية”، ولعله، ولا شك، الاستنتاج الأكثر بداهة، للبحث التاريخي المعروض في الكتاب.
وبعبارة أخرى، «فإن السوق والمنافسة، والربح والأجور، ورأس المال والديون، والعمال المؤهلين وغير المؤهلين، المحليين والأجانب، والملاذات الضريبية والقدرة التنافسية، لا وجود لها في حد ذاتها، بل هي بناءات اجتماعية وتاريخية، مرتبطة كليا بالنظام القانوني الجبائي والتعليمي والسياسي الذي نختار».
إن هذه المقاربة الجديدة، في تحليل طبيعة التفاوتات الاجتماعية والمجالية، تساعد على تسليط المزيد من الضوء على النقاش الدائر حول تجديد النموذج التنموي في المغرب، لأنه يوفر للاقتصاديين، على وجه الخصوص، شبكة قراءة جديدة تربط أوجه عدم المساواة بالنظام القانوني والمؤسسي الذي يغذيها. إن الطبيعة العقارية والمضارباتية للرأسمالية المغربية، وهيمنة اقتصاد الريع واختلال الخدمة العامة، كلها ذات أصل مؤسساتي وقانوني، يسائل طبيعة السياسات العمومية، والتنظيم المؤسساتي للدولة المغربية.
3 – يذكرنا الدرس الثالث بأن لكل مجتمع بشري طريقته التي يفضلها في تبرير الفوارق.
وبالنسبة للمؤلف بيكيتي، يتجلى التعبير عن عدم المساواة، في المجتمعات الحديثة، على سبيل المثال، في تبرير “التملكي والمقاولاتي والمبني على الاستحقاق”، والذي يرى أن “عدم المساواة في شكلها الحديث عادلة، لأنها نابعة من مسلسل اختياري حر، يملك فيه كل واحد تلقائيا نفس فرص الوصول إلى السوق والمِلكية، ويتمتع فه كل واحد من تراكمات الثروة لدى الأغنياء، وهم، في ذات الوقت، الأكثر مثابرة ومغامرة واستحقاقا. هذا الأمر يجعلنا على طرفي نقيض من الميز في المجتمعات القديمة، القائمة على تفاوتات قانونية جامدة وتعسفية واستبدادية، في كثير من الأحيان.”(نفس المرجع).
4 – يبرز الدرس الرابع بديهية تاريخية كثيرا ما يتم التغافل عنها، والتي تفيد بأن الصراع من أجل المساواة والتعليم – من خلال اعتماد الاقتراع العام، والتعليم المجاني-الإلزامي، والتأمين الصحي الشامل، الضريبة المتدرجة- هذا الصراع هو الذي سمح بالتقدم والتنمية، وليس تقديس المِلكية والاستقرار وعدم المساواة.
يخلص بيكيتي، في هذا الصدد، إلى أن «القطائع والعمليات السياسية، في مجملها «والتي» مكنت من تقليص وتحويل فوارق الماضي، وشكلت نجاحات باهرة، وهي الأصل وراء مؤسساتنا الأكثر قيمة، تلك بالذات التي سمحت بأن تتحول فكرة التقدم إلى حقائق ملموسة (بالاقتراع العام، والتعليم المجاني-الإلزامي، والتأمين الصحي الشامل، الضريبة المتدرجة)».
5 – يوجه الدرس الخامس سلسلة من الانتقادات إلى المقاربة الحتمية للتاريخ، وذلك بهدف إعادة الاعتبار «للاستقلال الحقيقي»، للمجال الإيديولوجي والسياسي، في تفسيره للمسارات التاريخية للمجتمعات البشرية المتعددة.
يشرح المؤلف مقاربته «المتمحورة حول الإيديولوجيات والمؤسسات وتنوع المسارات الممكنة «، بتمييزها عن «بعض من المذاهب التي تصنف أحيانا ب«الماركسية»، والتي ترى حالة القوى الاقتصادية وعلاقات الإنتاج تحدد بشكل يكاد يكون ميكانيكيا، « للبنية الفوقية » والإيديولوجية للمجتمع».
على العكس مما سبق، يصر الكاتب على وجود «استقلالية الذات للمجال الإيديولوجي السياسي»، من خلال البرهنة على أن: “ في نفس الوضع من النمو الاقتصادي وقوى الإنتاج، (إذا كان لهذه الكلمات معنى وهو أمر غير مؤكد)، هناك دائما تعدد للأنظمة السياسية والإيديولوجية والتمييزية”. ويضرب مثلا لذلك عبر« نظرية الانتقال الميكانيكي من «الإقطاع» إلى «الرأسمالية»، بعد الثورة الصناعية، والتي لا تسمح لنا بفهم تعقد وتنوع المسارات التاريخية والسياسية-الإيديولوجية في العديد من دول العالم ومناطقه، وخاصة بين المناطق المستعمَرة، والمناطق المستعمِرة، وكذا داخل كل مجموعة أيضا، ولا تسمح لنا، على وجه الخصوص، باستنباط الدروس المفيدة للمراحل الموالية». (نفس المرجع).
6 – الدرس السادس في هذا التحليل التاريخي هو إبراز وجود “عدة طرق لتنظيم علاقات المِلكية في القرن الحادي والعشرين، وقد يشكل البعض منها تجاوزا للرأسمالية أكثر واقعية بكثير من منهاج العمل بتدميرها دون القلق بشأن العواقب”.
يحلل بيكيتي في هذا النطاق، عددا من المسارات التاريخية والتشعبات المختلفة غير المكتملة في الماضي، لتسليط الضوء على أخطاء «المحافظة النخبوية» و«الانتظارية الثورية لليلة النصر»، التي تسببت «في القرن العشرين، في خسائر بشرية وسياسية كبيرة، ما زلنا إلى حد الآن ندفع ثمنها».
و«كون نظام «ما بعد الشيوعية»،- (في صيغته الروسية كما في صيغته الصينية، وإلى حد معين، في صيغته الأوروبية- الشرقية، بالرغم مما ميز كل مسار من المسارات الثلاثة عن الآخر)، كونه أصبح، في بداية القرن الحادي والعشرين، أفضل حليف «للرأسمالية المتغولة»، وهو نتيجة مباشرة للكوارث الشيوعية الستالينية والماوية، وللتنكر لأي طموح قائم على المساواة»(نفس المرجع).
تشهد هذه التعاليم التاريخية، على الحاجة إلى التفكير في الأساليب الجديدة للعمل، التي بإمكانها أن تفضي إلى تغيير النظم غير المنصفة مع مراعاة دروس التاريخ، ولا سيما التكلفة البشرية الباهظة للقطائع العنيفة بدون آفاق واضحة للتغيير.
7 – يتعلق الدرس السابع بالمسؤولية الأيديولوجية للحركات الاشتراكية الديمقراطية/ الاجتماعية، في فترة ما بعد الحرب في جميع أنحاء العالم، التي فشلت في تعميق وتجديد أيديولوجيتها وبرنامجها، واقتصرت على شجب العولمة الليبرالية التي أسهمت جزئيا في تعزيزها.
«لقد أدى الإيمان بمركزية الدولة(التأميم)، كحل واحد ووحيد لتحويل النظام غير العادل» بالحركات الديمقراطية-الاجتماعية إلى إهمال قضايا “التعليم العادل والضرائب العادلة”، فضلا عن مسألة تقاسم السلطة وتوزيع حقوق التصويت داخل المقاولات.
علاوة على ذلك، لعبت الحركات الاشتراكية الديمقراطية/الاجتماعية دورا هاما في تطوير حرية تنقل السلع ورؤوس الأموال، كمثال (دور الاشتراكيين الفرنسيين في اعتماد الاتحاد الأوروبي لقاعدة الوحدة الضريبية في 1986، ومعاهدة ماستريخت في 1992). غير أن المشكلة، تحديدا، تكمن في كون حرية حركة السلع ورؤوس الأموال، التي اعتمدت على نطاق عالمي واسع في الثمانينيات بتأثير أمريكي وأوروبي مزدوج، قد صيغت بمعزل عن أي هدف ضريبي واجتماعي، كما لو أن العولمة يمكن أن تفي لوحدها بالغرض، بدون أي إيرادات ضريبية واستثمارات تعليمية، وقواعد اجتماعية وبيئية.
8 – الدرس الثامن له صلة بالتساؤل حول المستوى السياسي المجالي الملائم لتغيير النظم غير العادلة.
فبالنسبة لتوماس بيكيتي، إن أحد الأسباب في فشل الاشتراكية الديمقراطية/-الاجتماعية في العالم، يكمن في “بناء الدولة الجبائية والاجتماعية، في إطار ضيق للدولة القومية، بالرغم من نجاحاتها التي لا يمكن إنكارها، لم تسع حقا إلى تطوير أشكال سياسية فدرالية وفوق ـ وطنية جديدة”.(نفس المرجع)، فعلى الرغم من التفكير الغزير والمثمر في سنوات الأربعينيات (انظر كتابات “حنة أريندت” حول “أصول الشمولية”، و“باربرا ووتن” حول “الاشتراكية والفيدرالية”، والقادة الآخرين للحركة البريطانية ممثلة في الاتحاد الفيدرالي، (بشأن الحلول الفوق ـوطنية والفدرالية للتفاوتات العالمية، فإن الديمقراطية-الاجتماعية، في فترة ما بعد الحرب، لم تتمكن قط من تكريس التنظيمين الاجتماعي والجبائي على المستوى ما بعد ـ الوطني (post- national).
الأسوأ من ذلك، أن هذا العجز ليس حكرا على أوروبا، بل يشمل كل القارات. ويذكر المؤلف هنا، بالمحاولات المجهضة لإقامة اتحاد في أمريكا اللاتينية، ثم في إفريقيا والشرق الأوسط، حيث يقول » لقد حاول قادة غرب إفريقيا، ما بين سنوات 1945-1961، تجاوز الصعوبات لتثبيت موطئ قدم لها، وتطوير النموذج الاجتماعي، القابل للتطبيق للدول القومية الصغيرة، داخل الرأسمالية العالمية، كما حاولوا تطوير “قوات اتحادية أصلية”، لاسيما مع “اتحاد مالي” الذي يضم كلا من “السنغال”، و”داهومي” و“فولتا العليا” و “مالي الحالية” « .
ينطبق نفس المسعى، على “الجمهورية العربية المتحدة”، التي لم تدم طويلا سوى بين 1958-1961، من قبل كل من مصر وسوريا و (اليمن لفترة وجيزة)، مدركة أن هناك حاجة إلى مجموعة بشرية كبيرة، لتنظيم القوى الاقتصادية الرأسمالية.
في عام 1938، رأت حركة “الحزب الاشتراكي البريطاني”، المنطلقة من المملكة المتحدة، نموا سريعا لفروعها في البلاد، وأمنت ب ”أن الشكل الاتحادي هو الحل الأمثل لتجنب الحرب، وكانت المشاريع تدعو إلى اتحاد فدرالي ديموقراطي ما بين المركز الميتروبول والمستعمرات البريطانية واتحاد انجلوـ أمريكي ووحدة بين الديمقراطيات الأوروبية لمواجهة النازية…”.
9 – يكشف الدرس التاسع التلازم القوي بين تقدم الولايات المتحدة في الإنتاجية والنمو على بقية العالم، وبين تطور نظامها التعليمي.
يؤكد المؤلف، أنه: «يبدو، على مسافة من الزمن، أن الثورة الصناعية الثانية، التي امتدت تدريجيا ما بين 1880و1990، مع ما صاحبها من كيمياء وصلب وكهرباء وسيارات وأدوات منزلية، كانت تتطلب شروطا أدق في التكوين».(نفس المرجع).
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة قد عممت بشكل شبه كلي التعليم الثانوي، وكانت النسبة وقتها ما ين 20 و30 ٪ في المملكة المتحدة وفرنسا، في حين تداركت اليابان بسرعة، حيث بلغ المعدل 60 في المئة في الخمسينيات، وتجاوز 80 في المئة في أواخر الستينيات، وبداية السبعينيات.
يرجع الأساس في هذا التطور، وفقا لـ «بيكيتي»، إلى التمايز في المسارات التعليمية لدى الدول الكبرى، ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت فرنسا والمملكة المتحدة متأكدتين جدا من تقدمهما وقوتهما في التقدم التعليمي، لكي تنشغلا حق الانشغال بالتحدي التربوي.
في سنة 1870، كان الانفاق العام على التعليم (كل المستويات ) يمثل أكثر من 0.7 في المئة، من الدخل القومي الأمريكي، مقابل أقل من 0.4 في المئة لفرنسا، وأقل من 0.2 في المئة للمملكة المتحدة. وفي سنة 1910، بلغت هذه النسبة 1.4 في المئة لأمريكا، و1 في المئة لفرنسا، و0.7 في المئة لبريطانيا» (نفس المرجع)…
10 – يكشف الدرس العاشر والأخير، بالمعطيات والحقائق الملموسة التي تبرز أن تصاعد الفوارق الاجتماعية، انطلاقا من الثمانينيات، صار أكثر ارتباطا بالسياسات التعليمية تزامنا مع دخول عصر «التعليم العالي» الشامل، الذي ولّد تقسيما تربويا تراتبيا حادا.
إن إحدى إضافات عمل توماس بيكيتي هو إظهار، بناء على بحث تاريخي جد موثق، العلاقة الموجودة بين السياسات العمومية التعليمية، وتطور أوجه الفوارق الاجتماعية والمجالية في العالم. في هذا السياق، وانطلاقا من الثمانينيات وتحت تأثير الثورة المحافظة (ريغان وتاتشر…)، كانت المسارات التعليمية لدى الدول العظمى، الموشومة بدخول عصر التعليم العالي الشامل، الحاملة لتراتبية تربوية تمييزية حادة، هي التي ساهمت، بجزء كبير، في تفاقم الفوارق الاجتماعية.
ومنذ ذلك الحين، في الولايات المتحدة، وإلى حدود الثمانينيات، «كان متوسط دخل أغنى 1 في المئة من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر بـ 25 مرة من دخل 50 في المئة من الأكثر فقرا (حوالي 400 ألف دولار لأغنى 1 في المئة، مقارنة بـ 15 ألف دولار سنويا لكل فرد بالغ لأفقر 50 في المئة)، أما في سنة 2015، فقد صار متوسط دخل أغنى 1 في المئة، أعلى بأكثر من 80 مرة، من دخل أفقر 50 في المئة (حوالي 1.3 مليون دولار للأول، مقارنة بـ 15 ألف دولار للثاني).
هذه هي بعض الدروس من كتاب بيكيتي، التي يمكنها أن تغذي النقاش في المغرب حول الاختيارات الاستراتيجية التي يجب اعتمادها لفهم وتغيير «النظام غير العادل»، الذي يرهن، إلى حدود الساعة، التقدم الاجتماعي.