ثدي تائه

قررت الرجوع بسرعة الى البيت بعدما صادفتها قبل أن يتسرب نحوي شيء منها، مثلما تعود كرة المضرب إلى قاذفها نحو الحائط، الشمطاء بنت النجار تتلصص على المارة من شرفة المنزل كعادتها، تفرق بؤسها على الجميع وتنتظرني كي تطبع على عاتقي ختم النحس لأعاني كما يحدث دائما، كأنني أعاني من نقص فيه. «مقدوه فيه فيل زادوه فيلة»، تبادلني بشعة السلوك الكره وربما ضعف ما أكنه لها. لن أغامر بيوم آخر، لا طاقة لي بمحاربة طواحين البؤس والعوز، لا أعرف كي يخرج وحش الشر والبؤس من وجهها الجميل وجسدها المنحوت بعناية ربانية؟
لم أنتبه عندما خرجت إلى طرد بريدي أمام باب المنزل، طرد بريدي في زمن الانترنت 2.0؟ أمر غريب. من الهارب من الزمن الماضي المحتفظ بهذه العادة التي اندثرت؟ هل هو أحد الأطفال هواة جمع الطوابع البريدية في مجلة ماجد نجح في السفر عبر الزمن؟
فتحت الطرد البريدي بسرعة المشتاق الى الزمن الماضي، مغلق بعناية تدل على أن الشيء داخله ذو قيمة. صندوق من الثلج بلون فضي، داخله كيس بلاستيكي غارق في البرودة تحفه مكعبات الثلج من كل جانب، هل هو قاتل اقتلع رأس أحدهم ويريد تلفيق التهمة لمعدم مثلي؟ أم تكون ثروة جدي الجسدية التي تركها لأحفاده كي لا نقول لم يترك لنا شيئا؟ ربما يكون رأس «خنفوزة» الذي اقتلعه «مجينينة» جاء ليخبرني حقيقة ما وقع بعدما تضاربت القصص في ذهني بسبب بحثي على الانترنت، وكم حاجتنا الى الأنبياء في جرائم مثلها، البقر يذبح في كل بقاع الأرض وتهدر العدالة مع دمه.
ثدي نيء، دافئ البرودة، نظيف من الدم إلا من بعض الحبات الجامدات في مكان البتر، منتفخ كأنه اقتلع من فم رضيع، ومستدير بشكل هندسي إعجازي، حلمته واقفة مثل قائد عسكري يأمر الشاعر بأن يتقدم إلى الأمام، حجمه يستطيع ملأ يد متلهفة، ليس ضخما بإفراط ولا صغيرا بتفريط. تحيط بحلمته هالة بنية لا تبدو نشازا وسط اللوحة اللحمية الجميلة. تملكتني الرغبة في أخذ رشفة منه، لعلني أجد بعضا من الحب العالق بين ثقوبه، كيف يستطيع ثدي مبتور تحريك ثورة من المشاعر داخلي، هل تحولت الى هانيبال Hannibal؟ تحققت أحلام المراهقة بالحصول على ثدي دون فم ثرثار يفسد المتعة.
أخرجني السؤال الجبان من لذتي الخيالية، واستيقظ الوعي ليمنعني من الارتواء:
من المجنونة المشبعة بأفكار «فان كوخ» التي أزالت ثديها من اللوحة وأرسلتها إلى عاشق أثداء؟ من بينهن صدقت أنني على دين «الصدر الأعظم» وكلما نظرت إلى واحد أخرّ ساجدا؟ يجب أن أستعيد كل الذكريات وأبحث بينها حول أكثرهن جنونا وشجاعة على التضحية بعضوها من أجل زعزعة عقيدة مؤمن. نعم أنا مؤمن بالأثداء، لكنني رجل بكرامة لا أحب سياسة الاحسان، لست متسول حب كي أحصل على ثدي دعم بعد إرسال رسالة لهفة الى الرقم 1919. سأعيده الى صاحبته وأطلب منها بكل شموخ أن تقتلع الثاني لتكتمل الصدقة أو أنني أرفض الهدية، هكذا تكون كرامة الشعراء.
الأولى كانت هادئة، واضحة، صادقة، واقعية، تخبرني دائما أننا سنفترق، وأنها لن ترضى لنفسها بأن تستمر في علاقة مع شخص يحول كل شيء إلى مخلوقات ورقية. لم تقتنع يوما بما أكتبه وكانت تأمرني أن أطلق على قلمي «قلم من البول». وعندما أسألها عن سبب ارتباطنا تقول لي: أنت شر لابد منك، إدمان يجب أن يعالج المرء منه. هل عادت عن غيها وأقنعها نص من نصوصي الهزيلة بموهبتي، وقررت مصالحتي بثدي كعربون تضحية منها، بعدما ضحيت بالتطفل على الشعر، وامتطيت القصيدة كحمار من أجلها…
لا أعتقد…كان ثديها أصغر من الذي بين يدي، لم ألمسه يوما، لكني أجيد قراءة التفاصيل من خلف الحجاب، أفقه طريق الخيال جيدا فأحقق فيه كل شيء لم أستطعه في الواقع.
الثانية كانت مجنونة، تحبني وتحب جيشا من الرجال، تقول إنها تبحث عن تكوين نموذج مثالي من الرجال عبر التعدد، إلى جانب الانتقام من ثقافتها التي لا تبيح للنساء أكثر من ذكر واحد. هي رغبة تسكننا جميعا، بالرغم من أننا كائنات ناقصة نطمح إلى الكمال والمثالية، نحلم أن نكون مع نماذج بنيناها بخيالنا. ربما هو السبب الوحيد الذي جعلني أجد لها مبررا منطقيا لأستمر في علاقتي بها، الإنسان كائن مبرر بطبيعة الحال. في الأخير تزوجت ورحلت إلى مدينة أخرى، والغريب أن العريس لم يكن ضمن اللائحة المثالية. سمعت أنه مثالي الثراء، هكذا يضحي الانسان بأحلامه ومبادئه من أجل الطلعات الذهبية، وقد فعلها المتنبي قبل ذلك، ولن تكون حبيبتي أكبر منه ثقافة. ربما تكون عادت إلى أفكارها بعدما انتفخت بالأموال وذاقت حلاوة الغنى…أستبعد ذلك، من خرج من الفقر لن يعود، وهل يعود المعذب الى الجحيم بعدما نقل إلى الجنة؟
وضعت الثدي المثلج فوق سور يقسم الشقة نصفين، أخذت كأسا وملأت نصفه بالويسكي، أعدت ترميم سيجارة رديئة بالقليل من الحشيش لتبدو محترمة ومثيرة إلى جانب سم السرطان، أيقظت النار فيها وفي مخيلتي ربما أستطيع أن أهتدي إلى الصدر الذي ينقصه هذا الثدي البارد. تتبعت حركة الدخان يتراقص في الهواء يحاول أن ينعتق نحو التلاشي. ذكرني بالفيلسوفة التي أخبرتني بهذه الفكرة. لطالما كانت تحب أن تضع سيجارة في فمها وتلعب بالدخان وتطارده بعينها لتطلق جملا عميقة لا أفهم معناها إلا بعد مرور أيام من التبغ. تعلمت منها التفلسف لدرجة أننا افترقنا بسبب فكرة لم نستطع أن نجد بر الأمان بعدها. كان مطلوبا مني أن أضحي بكل شيء، أن أتحول إلى «هي».
لا يمكن أن يكون الثدي البارد لها، لقد أضاعت ثروتها اللحمية بالسجائر والتفكير، صدرها المسطح مثل النظرية المضحكة لطالما منعها من إعادة تمثيل الجريمة الكاملة رفقتي، جريمة الخروج من الجنة، كنت دائما أتجاوز فقرة قطف التفاح كي لا أجرحها.
يا له من مأزق خانق، هل يكون هذا الثدي سقط من قصة كتبتها ذات خيال، لكن البطل أعاد كل الأثداء إلى صدورها، ولم يترك لي الحقير حظي من الخيال. هل يكون تذكر خالقه الوحيد وأراد عبادته بهذا الطرد؟
بدأ الثلج يتصبب من الثدي على شكل ماء، لو بقي الثدي في صدر صاحبته لكان يتصبب حليبا بين شفاه رضيع، او يتصبب عرقا بين أسنان عاشق…لكن حظه التعيس وضعه فوق سور معدم يحاول فك لغز أصله. أعدته إلى صندوق الثلج كي لا يفقد طراوته ويتحول الى ثدي ميت لن يستطيع إثارة فكرة بعد ذلك.
لم أعد أتذكر عددهن، عدد الصدور والأثداء التي كورتها بيدي وأعدت ضبط حركتها، وعلمتها الأمومة قبل الولادة، لقد منحتهن رضيعا متمرسا في الرضاعة وشروطها. لم أعد أتذكر بسبب الويسكي شكل الأثداء التي شكلتها بعدما وجدتها تائهة دون شكل يليق بأنوثة صاحبتها. ربما تكون السماء استجابت لدعواتي، وحققت رغبتي في طرد القلق والاكتئاب بالضغط على أجمل عضو في جسد المرأة، سأتحول الى الزهاد والعباد لو كان الأمر كذلك، سأسبح مع كل ضغطة. السماء لم تعد تستجيب للدعاء، لقد اكتفت بالمطر فقط.
حملت الثدي وخرجت، هكذا اقترح الكأس الأخير في زجاجة الويسكي، أن أذهب الى وسط المدينة، وأحمل مكبر صوت ضخم يشبه الذي يستعمله الثوار في مظاهراتهم، وأعلن عن ثورتي أيضا على أحلامي، وأعيد الثدي التائه الى صاحبه. أنا عاشق للأثداء لكني لن أرضى لنفسي بأن أكون لصا يستولي على ملك غيره. سأصعد الى مكان مرتفع وأصرخ مثل «البراح»:
«لمن يكون هذا الثدي التائه»
لاتزال الشمطاء شامخة على الشرفة، تسمرت أمامها، تلاقت أعيننا بعد سنوات من التجاهل. مالت بأنوثة في وقفتها على غير العادة، ارتدت ملامحها قناعا من الرغبة واللهفة، فكت أزرار قميصها دون اهتمام بأمر الغرباء. فكانت الصدمة:
«الثدي التائه كان يسكن قبل بتره صدر الشمطاء الجميلة». ركزت جيدا في صدرها وتساءلت:
أين اختفى الثدي الآخر بعدما تحققت من وجود جرحين.


الكاتب : عبد الجليل ولد حموية

  

بتاريخ : 27/05/2022