ثلاثية السجال حول مفهوم الوجود في مسرحية «المركبة»

إن المسرحية الموسومة ب»المركبة»، كانت من بين العروض المتميزة التي تطرح قضايا وجودية من خلال ثلاث شخصيات محورية، جمعت بين ثنائيات ارتكزت على تناقضات عديدة، ومن بينها مسألة الخير والشر، ضمن حوار ثلاثي هو الآخر، استند إلى وازع ديني مرتبط بفكرة ميتافيزيقية، أعاد فيها الكاتب أدبيا والمخرج فنيا صياغة بداية الكون، من منظور حداثي، كانت فيه التكنولوجيا مهيمنة بشكل واضح.
من بين التناقضات التي تتوفر عليها هذه المسرحية من الناحية السردية، هي تلك الرغبة الملحة في العودة إلى الأرض واستحالتها، بين رجل اسمه «عيش» وامرأة اسمها «عيشة» من خلال نقاش حاد توسطه طرف ثالث في صفة شيطان ملقب ب «الحنش» حيث كان يحرض الرجل على إقناع شريكته بالعودة إلى الأرض بعدما وجدا نفسيهما بأن مركبتهما حطت بكوكب آخر، فكانت مناسبة للحنش لممارسة عليهما شتى أنواع الاضطهاد لارتكاب الخطيئة، كانعكاس لقصة بداية الكون عندما خلق الله الجنة، بطريقة معكوسة، تحمل فيها الرجل تلك الغواية التي كانت المرأة هي المتهمة بارتكابها وتواطئها مع الشيطان الذي غرر بها.
إننا هنا لا نريد التمادي في سرد هذه الرواية التي ألفها الكاتب المسرحي عبد المجيد سعد الله بحبكة المتمرس، كنص يفوق كل التكهنات التي تصب في الخيال العلمي من زاوية فلسفية، استطاع من خلالها أن يجعل من الماضي مرآة للحاضر، كتراتبية جعلت من المسافة الزمنية موضوعا للنقاش في هذه المسرحية، بقدر ما نريد أن نقف على ملامح تشخيصها من الناحية الفنية التي يمكن أن تعيدنا إلى جوهر خلاصة النص برؤية إبداعية استطاع المخرج صلاح الجبالي أن يترجمها إلى لوحات فنية مشهدية تتجاوز حدود المشاهدة الكلاسيكية العادية.
فالصراع القائم في كل مشاهد هذه المسرحية، هو صراع أبدي بين الرجل والمرأة، وبين الخير والشر، بأسلوب حالم، أداته اكتساح (التكنولوجيا) والتحكم في حياتنا اليومية وانتصارها على كل ما كان سائدا، لتتصرف بدون قيود في سلوكاتنا وقدراتنا وقدرنا كذلك، ونظرا لقوة حضورها في طبيعة عيشنا، فقد استطاعت هذه التكنولوجيا بأن تتغلب على مكر أشد الماكرين وهو «الشيطان» الذي لعب دوره بإتقان الممثل «هشام شوكي» والذي لقبه الكاتب في مسرحيته باسم «الحنش»، فتصبح أي (التكنولوجيا)، هي المؤثر المباشر والفاعل والمتحكم في سلوكاتنا وغواياتنا ولذَّاتنا…، متفوقة بذلك على مكر الشيطان نفسه.
إن المثير في هذه المسرحية هو الجانب الملحمي فيها، وبما أن تعريف الملحمة في معجم المعاني الجامع هي «عمل قصصي يشاد فيه بذكر الأبطال والملوك وآلهة الوثنيين ويقوم على الخوارق والأساطير»، فإن القراءات اللفظية في مسرحية «المركبة» تتضمن إحالات شعرية اختلطت بما هو سردي، لتصبح في بعض مقاطعها حِكَمٌ من وحي الخيال الملحمي الذي اعتمد التكنولوجيا بمثابة الخوارق التي تجاوزت الخيال وأصبحت حقيقة لا مفر منها. وهذا ما حاول المخرج صلاح الجبالي التدقيق فيه والوقوف عليه من الناحية التقنية، خاصة عندما استعمل عناصر حقيقية من التكنولوجيا الحديثة في عرضه، فأصبح المشاهد أمام لوحات من مسرحية سينمائية (ciné theatre) ، بأبعادها الأربعة «الطول، العرض، العمق والحركة»، مما جعل المخرج يدشن علاقته من زاوية أخرى بالصناعة المسرحية على غرار ما يجري بالمجال السينمائي، وهذا ما أعطى لهذا العرض خصوصية إبداعية والارتقاء بالنص من الخيال إلى إمكانية تحقيق الحلم.
عادة ما نتحدث كثيرا في كتاباتنا النقدية عن المسرح أو أي جنس فني آخر من وجهة نظرية، ونهمل جانبا أساسيا في خطابنا التحليلي، وهو الجانب التطبيقي المرتبط بما هو تقني وفني، كعنصرين غالبا ما كنت أعتبرهما المدخل أو البوابة لاكتشاف ما يختزنه النص في دواليبه من مفاجآت وخبايا تمثل الصدمة أو الاندهاش، فكانت هذه المسرحية إجابة ذكية عن هذه الأسئلة من منطلق فني محض، حيث الاستشهاد بكل العناصر المؤثثة للركح من إنارة وتصميم الملابس التي أشرفت عليها مليكة خمليشي، ثم الصوت والفيديو الذي أداره الفنان رشيد العماري، والديكور والأكسسوار وتنفيذهما من إبداع محمد دايمي ومحسن قي، وإدارة الخشبة وتنفيذ الإنتاج ليونس كودري وفائزة حنافي، بالإضافة طبعا إلى الممثلين نسيمة عنان، محمد لوزيني وهشام شوكي، الذين أبدعوا باحترافية في تطويع النص والأداء معا، بالإضافة إلى المخرج صلاح الجبالي المحرك الخفي لكل هذه العناصر، والذي سافر بنا زمنيا في أرخبيلات عوالم خيالية اعتمدت على بناء محكم وجمالي لمركبة فضائية شبه حقيقية، مع أكسسوارات إلكترونية جعلت من هذه المسرحية انعكاسا لواقعين مختلفين، انتصارا لحقيقة ضائعة، تغلبت فيها التكنولوجيا على كل أشكال الحياة في الوقت الراهن، ليبرهن المخرج صلاح الجبالي في الأخير عن سجال مفتعل لأجل التركيز على مفهوم وأهمية الكون باعتباره مركبة لكل العابرين في الوجود.


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 14/03/2023