يُقصد بثلاثية الأخوين طارو، التآليف الثلاثة التي خلفاها في مقامهما داخل المغرب، وهي على التوالي: «الرباط أو الأوقات المغربية « «مراكش أو سادة الأطلس « و»فاس أو أثرياء الإسلام «، وقد نشر الكتاب الأول سنة 1919، ويظهر من خلال الاطلاع عليه أنه لا يختلف في شيء عن مدارات الغرائبية الأوروبية. نشرك القارئ منذ البداية في ملاحظة جوهرية، أن الكتاب ينتمي إلى مصفوفات الدلائل السياحية التي كتبت عن مغرب الحماية، والإقرار هنا يفيد الإشارة إلى بُعد التخييل الذي كان يعيد تشكيل جداريات المغرب العتيق.
الرباط: الأوقات المغربية
يستهل الكتاب رحلته السياحية بوصف مدينة الرباط، ثم سلا أو شالة، ومن خلال هذه الرحلة يتم تصوير مشاهد المدينة الصاخبة بالاحتفالات. لكن وجب قبلا التنبه إلى خلفية التصوير. ينطلق التصوير من رؤية المقارنة أو المقابلة الممكنة بين الحضارتين المغربية والأوروبية. وحتى إذا ما أردنا أن نُوسع منظورنا للكتاب، فإن الكتاب يختص ضمن حلقات التأليف الفرنسي بميزة خاصة عن باقي مؤلفات الإستوغرافيا الغرائبية الفرنسية.
يعمد الكتاب إلى إشراك القارئ الفرنسي في لعبة تخيل الفضاءات والأمكنة مثلما يوضح المقطع الآتي من الكتاب: «…كان بصري يعود دائما إلى مصب النهر، إلى حيث ذلك المرتفع الذي ينضب فوق الرباط كتلة هائلة تصطبغ بثلاثة ألوان: الأبيض، الأخضر والأحمر، والتي تشكل وحدها مشهدا يأخذ بجماع الروح. مشهد ملتهب وفي لون اللبن، حار ورطب في نفس الآن، منظر من النوع الذي لا نأمل مشاهدته سوى في لوحات كبار الرسامين. وبفعل هذه الرؤية تشجب في الذاكرة تلك الذكريات، الرومانسية مع ذلك، المتصلة بتلك المتاجر المحصنة التي كانت البندقية في أيام عِزها قد زرعتها في أطراف بحر الأدرياتيك. لقد كان كل الأقوام المتخلفين الذين حلوا هنا لساعة أو لبضعة قرون، من قرطاجيين ورومان وعرب وبرتغال، قد بنوا شيئا ما على أديم هذه الصخرة… ».
بموازاة هذا المنظر، يلتقي القارئ مع مقاطع تُضفي نوعا من البؤس والشقاء على جمالية المنظر: «…لم يكن أي شيء في المكان يسلم من الظهور بمظهر البؤس الشرقي، بما في ذلك أعشاش اللقالق في شقوق الأطلال مثل الأطلال مثل أطباق هائلة من القذارات والتي كانت تضيف إلى شقائهم كطيور ذلك الشقاء الهائل على أديم الأسوار الملتهبة… «.
لم يكتف الأخوين طارو بحدود وصف المشاهد والّأشياء الطبيعية التي تكتنزها الغرائبية المغربية، بل كان يبحثان عن إضفاء روح عليهما، والتقرب من روح الأهالي في نقل أدق الجزئيات بأسلوب أدبي يغرق في غواية الرموز والدلالات المحتجبة وراء ظاهر الأشياء. لنتتبع مقطعا من غواية الرموز عند الأخوين طارو في حديثهما عن الفضاءات الجنائزية «لا أحد ممن يزور هذه البِقاع الجنائزية يمكن أن تفوته فكرة أن هذه الحشود من القبور المكدسة على هذا الساحل تمثل حماية سرية، وحاجزا يستحيل اختراقه، وضعه الأحياء والأموات ضد تلك الأفكار الأجنبية المناهضة للإسلام التي يحملها المحيط «.
بالإضافة إلى أسلوب التمثيل الرمزي الذي يُشكل هوية كتاب «الرباط أو الأوقات المغربية»، توسل الأخوان طارو بأسلوب الحكاية التاريخية بصدد حديثهما عن الخصام التاريخي بين سكان الرباط وسكان سلا؛ وهو أسلوب في أصله مستمد من ذكرى سيرفانتيس ودانييل دوفو. كما يلتقي القارئ عبر صفحات الكتاب مع مقاطع مميزة تنقل أجواء احتفالات العيد الصغير، وموسم سيدي موسى، ومشاهد من الاستقبالات السلطانية، بالإضافة إلى ترجمات للأغاني العربية والخرافات المحلية مثل قصص عشق السلطان الأكحل…قبل أن يُختتم الكتاب بتأملات عامة حول الإسلام وعلاقة الشرق والغرب، وتلك غاية التأليف ومقصده.
مراكش: سادة الأطلس
بعد أشهر قليلة من صدور كتاب «الرباط أو الأوقات المغربية» أصدر الأخوان طارو كتابهما الثاني بعنوان: «مراكش أو سادة الأطلس». والحال، أننا إزاء عنوان خادع، قد يخال القارئ أن الكتاب مُخصص لوصف عاصمة الجنوب، وتكثيف الضوء عن حياة قوادها وبساتينها، مياهها وعمرانها…لكنه يصاب بخيبة أمل حينما يُطالع الصفحات الأولى التي تقوده إلى رحلتهما من أزرو إلى ملوية إلى درجة يمكن اعتبار أن القسم الأول من الكتاب يشوش على وحدة الكتاب. وباستثناء الفصول الأربعة التي خصصها الأخوان طارو لمدينة مراكش ولشخصية القائد الكلاوي، فباقي الفصول الأخرى تجول بنا خارج أسوار مدينة مراكش.
في القسم المخصص لمدينة مراكش نجد وصفا للحياة بها، وتصويرا للقلاع المحصنة، والخيام الحربية. هنا يتغير الموقف الذي أظهره الأخوان طارو حول التدخل الفرنسي في المغرب. يعلنان منذ الصفحات الأولى للكتاب مساندتهما للتدخل العسكري الذي قام به العسكري مانجان. قد لا يتبدى أن نفهم بسهولة هذا الانقلاب المفاجئ: «وراء الجنرال ليوطي، الذي كان العَلم الفرنسي الصغير يرفرف في مقدمة سيارته، كانت حوالي عشر عربات تسير منذ ساعات « وفي مقطع آخر: «كان ذلك العَلم المرفرف في الهواء يتضمن هو كذلك دلالة سحرية وسط هذا المشهد المعاصر الذي ينتمي لأقدم العصور في العالم «.
يعتمد الأخوان طارو على تسجيل انطباعاتهما عن طريق تركيب المشاهدات والذكريات والقراءات والمعلومات الشفوية التي تم استقاؤها خلال رحلة الطريق. بذلك فهما يبرعان في تصوير الأشياء، لكنهما يتوقفان عند حدود الرؤية الخارجية الإيكزوتيكية. فعندما يعتليان برج قصر الباهية، يتوقفان عند حزام عريض من أشجار الزيتون والنخيل، والثلوج التي تجلل قمم الأطلس القريبة. وحتى عندما ينقلان مشهد جامع الفنا، يشبه ذلك «نظرة شخص أُمي إلى كتاب مفتوح «. فهناك مروض الأفاعي، وهناك الراوي، وهناك البهلوان، وهناك الراقصون والمشعوذون…
في الفصول الموالية من الكتاب يأتي نقل تفاصيل تاريخية عن المقبرة السعدية وملاحات اليهود في مراكش، ويُسوقان لفكرة أن هذه الملاَّحات اليهودية من أبشع ما يوجد في العالم. بعد ذلك يصحبان القارئ إلى وصف جبال الأطلس الكبير صحبة حملة القائد المدني الكلاوي، لكنهما يجعلان حياة الأطلس تجتمع كلها في شخصية الكلاوي دون الانتباه إلى تفاصيل أخرى. وفي السياق ذاته، يأتي عرض حادثة مقتل عبد المالك الكلاوي ابن المدني الكلاوي. داخل هذا الفضاء، أي الأطلس، لا يأخذ الوصف قيمته دون الانتباه إلى قلاع تلوات المحصنة، وهي وقتئذ قلاع محاطة بمناظر هائلة وغارقة في كآبة لا حد لها، قلاع مَهيبة يرأسها سيد إقطاعي. ومهما يكن من صحة هذه الملاحظات، فكتاب «»مراكش أو أسياد الأطلس» تأليف بيوغرافي عن أسرة كلاوة في الأطلس، ولا أدل على هذا الإقرار، تخصيص أزيد من عشرين صفحة لهذه الأسرة الجنوبية.
فاس: رفاهية المنزل
وبؤس الدكاكين
الكتاب الثالث ضمن هذه الثلاثية «فاس أو أثرياء الإسلام». تظهر فاس متوشحة بزي العتاقة والشيخوخة أكثر من مراكش الإقطاعية. عالم شديد الاختلاف يتحرك فيه كبار تجار العاصمة أو ما يسمى ب «أثرياء الاسلام». لقد شُرع في تأليف الكتاب سنة 1925، واطلع عليه القارئ الفرنسي سنة 1930. لا يتردد الأخوان طارو في التأكيد على صعوبة ولوج مجتمع أثرياء فاس بسبب محافظته التاريخية. عموما، تتبع الصفحات الأولى من الكتاب أصول وتاريخ مدينة فاس، وتنتقل بعد ذلك إلى وصف أحياء المدينة وأزقتها. وفي مواضع أخرى من الكتاب، يتعمق الأخوان طارو في وصف شخصية التاجر الفاسي الذي يُحب التباهي ويعشق استعراض ثروته أمام الناس. يظهر منزل الفاسي من الخارج عاديا، لكن بمجرد اجتياز عتبته حتى تظهر المظاهر الفاخرة لحضارة تُعطي الاعتبار لكل ما هو حسي في الحياة . ومن وصف المنازل ينتقل الأخوان طارو إلى وصف الدكاكين. وبقدر ما كانت منازل الفاسيين فاخرة بقدر ما كانت دكاكينهم بائسة: «حجرة متناهية الصغر يكتريها بسومة شهرية لا تتجاوز 30 فرنكا، ينفتح بابها على ساحة تعج بروائح الروث والغبار والتبن «. لا يقضي التاجر الفاسي وقتا طويلا في دكانه، يغادره لحظة الصلاة، أو مرافقة زوجاته، أو إلى بيته إلى البادية، أو لزيارة أصدقائه. الانسان الفاسي اجتماعي بطبعه، مضياف، لكنه ثرثار ونمام يحب أن يستطلع دوما أخبار جيرانه وفق ما ينقله الأخوان طارو.
يرافق الأخوان طارو القارئ في جولة في الأسواق التجارية بفاس، ويقربانه من المهن والحرف وتجمعات الصناع التقليديين. «تمثل القيسارية في فاس ما يمثله شارع السلام في باريس وفي مجموع فرنسا «. وسيرا على نفس الكتابين السابقين، هناك حيز مهم في الكتاب مخصص لحياة يهود فاس في علاقتهم بالبورجوازية الإسلامية من حيث الشَّرْكات. وفي جانب منه، يقتحم الكتاب حياة أهل فاس وخليلاتهن المومسات، ويسرد قصص بعض الفاسيين الذين بددوا ثرواتهم في حياة المجون والسهر مثل قصة فَضُّول الذي له قصيدة مشهورة متداولة بين الفاسيين. غير أن هذه الممارسات تظل شديدة التكتم داخل مجتمع فاس المحافظ. ذلك أن: «الفاسي يرغب في الظهور بمظهر المسلم الورع «. وهذه ملاحظة قد تنطبق على عموم المسلمين في بلاد الإسلام، حسب الأخوين طارو.
ما يجب تسجيله أن كتاب «فاس أو أثرياء الاسلام» تأليف يُعنى بالحياة الدينية لمغاربة الحماية. لهذا يمكن إدراجه ضمن مصنف «إثنولوجيا الإسلام» الذي كان قد استهله قبل ذلك الإثنولوجي ميشو بليير. يتوقف الأخوان طارو عند ما يسمى ب «الشعور الديني» الذي يجعل أهل فاس يواظبون على الذهاب إلى المسجد للصلاة خمس مرات في اليوم، ويعطون النموذج في التقوى وإيتاء الصدقات وتبجيل الشرفاء من حفدة النبي…يُغلف الأخوان طارو كل هذه المظاهر بغلاف خارجي، ويعتبران أن الالتزام بهذه التمارين الإيمانية لا يترجم في اعتقاد حقيقي، ما يجعل الشعور الديني غارقا في الشكلانية المفرطة. والحديث عن فاس لا يتم إلا بحضور معلمة القرويين. معلمة هوت إلى الحضيض، وصارت «قبرا للفكر» ومقبرة العِلم المغربي من دون أن يشعر أهل فاس بذلك، في هذا الصرح العلمي تهيمن تمارين الحفظ، ويتم اجترار التعليقات والشروحات. وعليه، ما يؤطر الحياة في فاس، هو خضوعها لـ «القاعدة» التي يجري احترامها من طرف الجميع، وهي عبارة عن اتفاق نوعي خاص بأهل فاس، وقد تظهر هذه القاعدة خاضعة لمنطق الثبات وغير قابلة للتطور.