تروم هذه الدراسة مقاربة ديوان «هواجس قرصان» للشاعر المغربي محمد حمود (1) انطلاقا من ثنائية إستراتيجية حددناها في ثنائية القوة / والعجز، وهي الثنائية التي تمكننا من رصد مختلف التجليات الدلالية الكائنة والممكنة على امتداد قصائد الديوان، انطلاقا من عتبة العنوان الذي يؤشر في بعده التأويلي على دلالات العجز والقوة، فالقرصان في المخيال الشعبي يرمز إلى القوة والبأس، يخرق المواثيق القانونية والأخلاقية، ليعيش على السرقة والنهب، في مقابل هذه الصورة المرعبة للقرصان، نحده كائنا مرهف الإحساس والمشاعر، ضعيفا أمام أول فتاة قد يصادفها داخل أول حانة على اليابسة، سخيا إلى حد الإسراف يذرف الدموع بين أحضانها وهو يودعها على رصيف الميناء، يعود بعدها إلى عالم البحر والمغامرات؛ حاملا آثار عشقه موشومة على ذراعيه وصدره.
في ضوء ما سيق، يمكن اعتبار صورة القرصان استعارة كلية للتعبير عن صور الذات المتأرجحة بين لحظتين متعارضتين:
1 ـ لحظة العجز والضعف واليأس أمام سطوة الزمن، إنها لحظة الاستلاب الذي تستشعره الذات أمام فكرة المحو الذي تفرضه قوة الطبيعة. وتترتب عليه أحاسيس الخوف الوجودي
2 ـ لحظة القوة والأمل والانتصار على سطوة الزمن عبر تنسيبه وجعله زمنا نفسيا وشكلا للإحساس الداخلي والامتداد الروحي الذي لا تشمله وضعية معينة ولا يتجلى في حالة ثابتة (2). لقد تحول الزمن إلى مرآة تعكس جوهر الذات وأحلامها ولواعجها وأحاسيسها الجوانية، لتكسير أطواق الخوف والقلق ومواجهة رُهاب المحو والغياب، في أفق البحث عن الحرية والانطلاق.
تبعا لذلك، يمكننا القول إن ثنائية القوة / والعجز تعبر عن إشكال انطولوجي، وهو الإشكال الذي تعيشه ذات الشاعر في سياق البحث عن ماهيتها الوجودية وما يعترضها من هواجس القلق والإحساس بالغربة في علاقتها بذاتها من جهة، وعلاقتها بالآخر من جهة ثانية، لهذا سعى الشاعر انطلاقا من مقدمة الديوان ومرورا بأولى القصائد إلى توجيه أفق انتظار المتلقي نحو المؤشرات المفاتيح لتفكيك شفرات باقي النصوص الشعرية.
الجدير بالذكر، إن عنوان القصيدة الأولى « بيان الكتابة»، مستمد من التقليد الأدبي الذي انتهجته العديد من المصنفات العربية والذي يؤسس، في اعتقادنا الشخصي، تعاقدا ضمنيا مع المتلقي حول حدود الممارسة الإبداعية داخل الديوان، وترسيم إحداثيات الاحتمالات الدلالية والتأويلية للقصائد يقول الشاعر:
لأنني بكل تواضع
مواطن طيب
تشهد شهادة سلوكي على ذلك
ولم يسبق لي أن أضرمت نارا
في الأضواء الحمراء لمدينتي
قررت عدم التطاول
على عظيم قضايا الإنسان
وعدم منافسة السماء
في التفكير في مصائر الوجود والأكوان
والنظر إلى الوراء بغضب
وإلى المستقبل بحماس أقل
والاكتفاء بكتابة قصائد تشبهني
في بساطتي، وطفولتي، وحياتي.
(ص8 ـ ص9).
عموما، يمكن اعتبار ديوان «هواجس قرصان» بمثابة سيرة تخييلية تعكس سيرة إنسان ومسيرة مبدع يسعى إلى تلخيص ما عاشه من حيوات متعددة في حياة واحدة، وما اختزله من رؤى فلسفية تدفع بالشاعر إلى إعادة خلق كينونة جديدة والبحث عن ولادة هلامية تتجاوز الواقع وتقهر الزمن، ولادة تتم عبر الحب والذوبان في ثنايا العشق والمحبة بكل ما تحتمله من دلالات رمزية وصوفية، إذ يحتفل الشاعر بتيمة الحب انطلاقا من عتبة الإهداء الذي جاء على الشكل التالي: « إلى العصافير التي فتحت لي باب السماء» (ص3)، وتتناسل تنويعات تيمة الحب على امتداد قصائد الديوان، ونقرأ في استهلال قصيدة «أعشق الحب»:
هل أحببت يوما؟
رائع هو الحب أليس كذلك؟
(ص47)
هكذا يمكن اعتبار «الحب» بمختلف تجلياته، الوسيلة الناجعة للعبور من وضعيات العجز إلى وضعيات القوة التي تحقق للذات توازنها وتضمن انتصارها على سلطة الزمن.
لقد شكلت ثنائية القوة / والعجز إطارا للعديد من الثنائيات الفرعية، حيث نجد مثلا: ثنائية المرض/ والصحة، والتي استعار لها الشاعر توصيفا معلوماتيا هو Mise a jour(ص67)، هذا التوصيف الدال على إمكانات التجدد والاستمرارية، ويرمز بالتالي إلى انتصار إرادة القوة على معاني العجز والضعف.
يواصل الشاعر رحلة الاسترجاع التخييلي، باحثا عن الصور المتقابلة، أي البحث عن تلك اللحظات التي تأرجحت فيها الذات بين العجز وما يتولد عنه من أحاسيس اليأس، في مقابل لحظات القوة المولدة لمشاعر الأمل والرغبة في الحياة، إنها الثنائية التي تكشف عن الصراع المضمر بين الذات في مواجهة سلطة الزمن، ذلك الصراع الذي صورته قصيدة «هواجس قرصان عنيد»، قصيدة صورت محنة قرصان يعيش على إيقاع اليأس والتهميش والعجز أمام طاحونة الزمن، الزمن الذي لا يمكن قهره إلا بقوة الأمل والدفع بالحياة في الاتجاه الإيجابي عبر فتح مسارات وخلق عوالم مغايرة تمكنه من الصمود وتحدي الزمن وترويضه، يقول الشاعر:
وأنا وإن كنت كسرت الصواري
والقيت ما غنمته في البحر
وأحرقت مركبي وسقطتُ
فليس كل سقوط نهايهْ
قد علّمتني حكمة الهند أنَّ
سقوط المطر أجمل بدايهْ
يكفي أن أضمّد جراحي
بنبيذ «القرش الأزرق»
وأنقل معاركي إلى اليابسة
أصيخ السمع لأحلام الصّخر
وهواجس تلال الرمل
وانصب الكمائن
على طريق قوافل الملح
وازرع الألغام في كل حقل
فأنا لم أمت بالقدر الكافي
سأغني ليلا على حافة العمر
لأطرد النحس
وأهيئ أفراحي
(ص59)
تبعا لذلك، يمكن القول إن صورة القرصان، داخل هذه القصيدة أو غيرها من القصائد، أضحت صورة استعارية جامعة لجدلية الإنسان والزمن، جدلية ممتدة داخل العديد من عناوين القصائد وهي:
ـ لا شيء يمضي كل شيء يعود (ص24).
ـ مـتــى شـــاب الــمــكـــان؟ (ص26).
ـ مــن الــتــاريخ إلـى الــحــب (ص54).
ـ الـــقـــــرصـــــان الــهـــرم (ص60).
ـ الــــمــــــــزارع الــــقــديم (ص62).
ـ حـــــــارس الـحــقل العريق (ص87).
وكلها قصائد عبّرت عن قلق الذات وحيرتها بين لحظتين مختلفتين، تتجه الأولى نحو الماضي والأخرى صوب المستقبل، باحثة عن زمن لا نهائي يُمكِّنها من ولادة جديدة تتجاوز المفهوم البيولوجي للولادة، لأنها ولادة تكون من رحم الحب والمحبة ومن رحم الحلم والخيال العبر ـ زمني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ محمد حمود، هواجس قرصان، إديسيون بلوس، مكتبة السلام الجديدة، الطبعة الأولى، 2016.
2 ـ كاترين كليمان، التحليل النفسي، تعريب محمد سبيلا وحسن أحجيج، سلسلة ضفاف، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2000، ص 65.