بمناسبة الدورة الثلاثين للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط (2025م)، صدر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط، وبلوحة غلاف ذات نَفَسٍ رمزي قرآني من توقيع الفنان لحسن البوخليفي، كتابٌ جديد للباحث والإعلامي والفنان الصوفي د. محمد التهامي الحراق، بعنوان: “ثَابتًا فِي حَيْرَتِي: في جدلية الوجد والنقد عند أهل العرفان»
يُعَدُّ هذا الإصدارُ الكتابَ الحادي عشر في سلسلة أعمال الحراق التأليفية، حيثُ يواصل الاشتغالَ على أفقه المخصوص، والقائم على استلهام الميراث العرفاني في النظر النقدي لِجَمٍّ من قضايا الفكر واللغة والدين والأدب والجمال في السياق المعاصر؛ وكذا محاولة جعل هذا الاستلهام منطَلَقا لتجاوز القراءات التي تستبعد أنوار الدين باسم أنوار الحداثة أو العكس، وكذا تجاوز تلك الرؤى التلفيقية التي تفرط في ممكنات النقد والإنقاذ المتبادَل بين قراءاتهما.
إن هذا الكتاب استئناف وتوسيعٌ للأفق الذي سار عليه المؤلِّف في الكتب السابقة؛ أفقِ الاستلهام النقدي للميراثِ العرفاني من أجلِ الإسهام في بعث “حيرة” العقل المسلم وحيويتِه في السؤال، من داخل “ثباته”على مُتَعالياته. من هنا عنوان الكتاب المستمَد، من قول العارف المغربي محمد الحراق (تـ1261هـ):
مَنْ رآني ثابتًا فِي حيْرَتِي ظَنَّنِي وَسْنَانْ
وعلى هدى هذا السعيِ، نَوَّع الكتابُ في دراساته، فصدرها أولا بمدخل فصّل فيه مدلول عنوانه، ووقف فيه عند أبعاد الثبات في الحيرة، وكيف أسس العقل العرفاني من خلالها لنقد العقل الثنائي الحدّي، وكيف يمكن الإفادة من ذلك في السياق الحديث؛لينتقلإلى بسط دراسات عميقة جمعت بين تلك التي تهتم بالميراث العرفاني من حيث “أسئلةُ المعرفة ورهانات الحاضر”، وتلك التي تهتم بهذا الميراث من حيث “أسئلةُ الجمالِ وإحراجاتُ المعنى”. هكذا نسافر، في الفصل الأول المخصص لـ” “أسئلة المعرفة ورهانات الحاضر”، وفي أوسَع دراساتِ الكتاب، مع القول ِالعرفاني للتعرف على خصوصية اللغةِ فيه، عبر إضاءةِ”توتّرها»، وإبرازِ العلاماتِ التي تركَها عليها شغفُ قولِ ما لا ينقالُ من أذواقِ أهلها، أو ما وَسَمَه المؤلّفُ، استلهامًا من القول العرفاني نفسه، بـ “تجربةِ القبضِ على الماء”؛ كما يستشكلُ الكتابُ في دراسةٍ مُسْتقلةٍ اعتبارَ التصوفِ”ثابتا من الثوابتِ الدينية المغربية»، ليقف عند عميقِالمعاني التي يتضمنها هذا الاختيار، ضمن أفقِ “الثباتِ في الحيرة”. ويعزِّز محمد التهامي الحراق ذلك بدراساتٍ تضيء هذا الأفقَ، شملت دراسةَ “حاجتِنا اليومإلى التصوف»باستحضارِ مثال الميراث العرفاني الوزاني، ودراسةً تخص معالمَ حضورِ”الرافدِ الأندلسي في الميراث الصوفي المغربي” وما يفتحه من ممكنات، قبلأن يقدم نموذجًاللانخراط عبر هذا الأفق في رهاناتِالحاضر، من خلال ورقةٍ تستلهم نقديا الميراث العرفاني في التعليقِ على “وثيقةِ الرباط» التي صدرت عن «المؤتمر الدولي: الإيمان في عالم متغير”، والمنظَّم من لدن “رابطة العالم الإسلامي” و”الرابطة المحمدية للعلماء” بمدينة الرباط بتاريخ 16/10/2024.
أما في الفصل الثاني، فقد تناول الكتاب “أسئلةَ الجمالِ وإحراجاتِ المعنى”، من خلال جملة دراسات؛ فحصَتِ الأولى «علاقة الموسيقى بالتصوف في معالمها الروحانية الجمالية المنسية»، ووقفتِ الثانية عند “الأفقِ الجمالي الروحي وإسهامهِ في ترسيخِ الثوابت الدينية المغربية”، ودرستِ الثالثة «السماع بوصفه مدخلا لروحانية إسلامية كونية»، وقدمت الرابعةُ قراءةً نقدية لنصِّ “عودة حي بن يقظان” لنبيل ابن عبد الجليل، وهو واحد من النصوص الأدبية المعاصرة المستلهِمة للرافدِ الأندلسي في الثقافة المغربية؛ لينتهيَ المؤلف من حيث بدأ، باستحضارِ نَفَسِ الحَيْرةِ، من خلالِ نصٍّ كَتَبَهُ بمِدَادٍ ومدَدٍ عرفانيين في الديار المقدسة، منحهُ عنوان: “حَاجٌّ فِي حَضْرَةِ حيْرة”.
ولمزيد بيان لمجال اشتغال الكتاب وعلامات الجِدَّةِ فيه، نقرأ في نص ظهر الغلاف: “إن وقوفَنا عندَ بعضِ تأملاتِ العارفين في مفهومِ الحيرة، ومحاولةَ استجلائنا لجدليةِ الوجد والنقد في العقلِ العرفاني على ضوءِ هذا المفهومِ، يَسْتقصِدُ التنبيهَ على التوسيعِ الذي طال هذا المفهومَ في السّيَّاق العرفاني من جهة؛ والتنبيهَ على أن هذهِ الحيرةَ، في مستواها المعرفي، تُفيدُ استيعابَ الأضْدَاد، والخروجَ من أسْرِ العَقْل الثنائِي الإمِّي مِن جهة ثانية. على أن استدعاءَ الثباتَ في الحيرة، في سياقنا الحديث، بقدرِ ما يفيدُ عدمَ الركونِ إلى نتائجَ نهائيةٍ تُجَمِّدُ العقلَ، وتكَلِّسُ الوجدان، وتختزلُ التاريخ؛ بقدر ما يفيدُ كذلك عدمَ الركونِ إلى عدميةٍ تبدِّدُ كلَّ معنى، أو نسبويَّةٍ تلغي كلَّ حقيقة، أو سُيُولَةٍ تعصفُ بكلِّ يقين. بهذا الاعتبارِ، يصيرُ الثباتُ في الحَيْرة، في سياقنا، بحثا عن ذاكَ الأفقِ الثالثِ الذي يُخْرجنا من حَدِّيّات الثباتِ أو التحول، التجميدِ أو التبديدِ، الماضِي أو المستقبل؛ ويُحرِّرُنا من إميّات آسِرة؛ إمَّا العقلُ وإما الإيمان، إما الدينُ وإما العِلْم، إما أنوارُ الإسلام وإما أنوارُ الحداثة، مما يجعلُ من استلهامِ الميراثِ العرفاني في هذا الكتابِ، أيْضا، إلحاَحًا في الذهابِ نحْوَ أفقِنا المنشود؛ أفُقِ “الأنوارِ التِي لا تتزاحم»».
« ثَابتًا فِي حَيْرَتِي» بمحمد التهامي الحراق .. استلهام الميراث العرفاني في النظر النقدي

بتاريخ : 23/04/2025