لم يكن فوز الكاتب المجري لازلو كراسنهووركاي بجائزة نوبل للأدب لعام 2025 حدثًا أدبيًا صرفا، بل لحظةً مشحونة بالرموز والدلالات السياسية والثقافية العميقة. فالأكاديمية السويدية، التي نادرًا ما تكون قراراتها بعيدة عن المناخ الأوروبي العام، منحت الجائزة هذا العام لكاتبٍ يتجسّد في أعماله، بوضوح لا نقاش فيه، هاجس الانهيار والبحث عن الخلاص داخل قارةٍ متوترة بين اليمين المتطرف والذاكرة الجماعية.
في ظاهر الأمر، تبدو الجائزة تكريما لأدب رؤيويّ متفرد؛ لكنها في العمق، هي بيان ثقافي ضدّ الشعبوية الصاعدة في شرق أوروبا، وخصوصًا في المجر التي يرأسها فيكتور أوربان، المعروف بخطابه القومي المحافظ وانتقاده المتكرر لما يسميه “الهيمنة الليبرالية الغربية.
لا يمكن فصل هذا التكريم عن السياق السياسي في العاصمة بودابست. فبينما يقدّم الرئيس المجر باعتبارها «الحارس الأخير للقيم المسيحية الأوروبية»، يأتي الكاتب كراسنهووركاي كوجهٍ نقيض تمامًا: كاتب كوني، يهودي الأصل، مسكون بالقلق الأخلاقي، وناقد صامت لدوغمائية الدولة القومية.
إن جل رواياته، التي تنبض بالخراب والجنون والعزلة، ليست بعيدة عن الواقع المجري اليوم؛ بل يمكن قراءتها كتأمل أدبي طويل في النتائج الثقافية للسلطوية الجديدة، وفي هشاشة الفرد وسط أنظمة تخلط بين الدين والهوية والسيطرة على الذاكرة.
لذلك، فإن تتويجه ليس فقط اعترافًا بعبقريته الأدبية، بل كذلك تصحيح رمزي لصورة المجر في أوروبا، وتذكير بأن الثقافة المجرية لا تقتصر على الخطاب السياسي الرسمي، بل تحتفظ بتيارٍ نقدي عميق يواصل المسار في تقليد كافكا ولوكاش وبيلا تار.
في لحظةٍ تاريخية تتصاعد فيها النزعات الانعزالية في أوروبا، يبدو اختيار كاتبٍ مثل كراسنهووركاي خطوة واعية من الأكاديمية السويدية لإعادة الاعتبار إلى أوروبا الوسطى كضمير فلسفي للقارة العجوز.
فمنذ سقوط جدار برلين ، ظلّت المنطقة تتأرجح بين الغرب الرأسمالي والشرق القومي، وبين إرث الحربين العالميتين وشبح الاتحاد السوفياتي.
إن روايات كراسنهووركاي مثل Satantango وWar and War تصوّر هذا التيه بدقةٍ وجودية، عبر شخصيات تتجوّل في خرابٍ أبدي، وتبحث عن معنى وسط الركام.
إن تكريم هذا الكاتب هذا العام هو أيضًا إقرارٌ بأن أوروبا لم تخرج بعد من صدمة القرن العشرين، وأن أدب الخراب لا يزال ضرورياً لمواجهة الانهيار المعاصر: انهيار المناخ، انهيار القيم، وانهيار الثقة بين الشعوب.
لقد وصف كراسنهووركاي أعماله بأنها “واقع تمّ فحصه حتى الجنون”، وهي عبارة تصلح لتوصيف علاقة الأدب بالسياسة في القارة الأوروبية اليوم. فبينما تحاول الحكومات تلميع الواقعٍ الهشّ، يكشف الأدب عن وجهه الآخر: جنون السوق، عبث التكنولوجيا، وهم الخلاص الوطني.
وبهذا المعنى، يصبح تتويجه انتصارًا لجمالية التشكيك في النظام العالمي الجديد، ضدّ الأطروحات الرسمية التي تسعى إلى ترويض الأدب وتحويله إلى ديكور ثقافي.
منذ فضيحة الأكاديمية عام 2018 وما تلاها من جدل حول المعايير الأخلاقية والسياسية للجائزة، تحاول نوبل أن تعيد بناء صورتها كمنبر للضمير الإنساني الكوني.
فقد اختارت في السنوات الأخيرة أصواتًا تعبر عن المقاومة والتفكير النقدي: من أولغا توكارتشوك البولندية (2018) إلى هان كانغ الكورية (2024). وها هي اليوم تذهب شرقًا من جديد، لتكرّم كاتبًا يرى في الأدب ملاذًا ضدّ انهيار المعنى.
ومما لاشك فيه أن تلك الاختيارات لا تعني الحياد، بل تعبّر عن رؤية أيديولوجية ضمنية مفادها أن : الأدب يجب أن يذكّر العالم بأن الإنسانية لا تُقاس بالتنمية الاقتصادية ولا بالشعارات السياسية فحسب، بل بالقدرة على مساءلة الذات.
قد يُقال إن الجائزة تبقى أدبية في جوهرها، لكن الأدب — كما يذكّرنا كراسنهووركاي — لا ينفصل عن الواقع السياسي إلا ظاهريًا.
ففي عالمٍ ينهار فيه المعنى وتضيع الحدود بين الحقيقة والزيف، يصبح الكاتب آخر من يملك سلطة إعادة بناء العالم بالكلمات.
ومن هنا، فإن نوبل هذا العام ليست مجرد مكافأة لكاتب مجري، بل هي بيان ثقافي عالمي مفاده أن أوروبا، رغم خوفها، ما زالت تؤمن بأن الأدب — لا السياسة — هو المرآة الأكثر صدقًا لعصرها.
جائزة نوبل للأدب بيان ضدّ الشعبوية الأوروبية

الكاتب : عبده حقي
بتاريخ : 14/10/2025