جامعة المبدعين المغاربة تحتفي بالمنجز الشعري للشاعر مراد القادري

شاعر يخرج لسانه للموت ويكتب بأصابعه العشرة

 

احتفت جامعة المبدعين المغاربة يوم السبت الماضي 29 أكتوبر 2022، بالتجربة الشعرية المتعددة الروافد والمشرعة على أفق الحداثة الشعرية: تجربة الشاعر ورئيس بيت الشعر في المغرب مراد القادري، الذي راهن من خلال منجزه الشعري الزجلي، رفقة عدد من شعراء الزجل، على خلق قصيدة زجلية حديثة غير مثقلة بالمعجم الرعوي أو بالحمولة الايديولوجية التي وسمتها منذ السبعينات، قصيدة تحضر فيها أسئلة الكتابة وأسئلة الوجود وغير منجرة الى ما هو شفوي وإنشائي.
اللقاء الذي أداره باقتدار الشاعر والمترجم نور الدين ضرار، عرف تقديم ثلاث ورقات نقدية قاربت المنجز الشعري لمراد القادري، متوقفة عند سماته وأفقه الذي لا ينتصر إلا للشعر بدهشته وقدرته على تخصيب الحلم.

 

عبر إصداراته الخمسة «حروف الكف» 1995، «غزيل البنات» 2005، «طير الله « 2007، و»طرامواي»، حتى آخر أعماله «ومخبّي تحت لساني ريحة الموت»2021 ، يواصل القادري الارتقاء بقصيدته وتجذيرها في عالم الكتابة بعيدا عن الحمولة الشفوية، لينخرط في مشروع الحداثة الذي انخرطت فيه القصيدة المغربية بشكل عام، بعيدا عن الخطابة والمنبرية، بلغة عامية تختلف عن لغة التخاطب والتواصل اليومي في الشارع والحياة، لغة عاميةً منذورة لتقديم رؤية الشاعر للذات وللعالم .
في ورقته المعنونة بـ» البعد الكتابي ومبدأ التوازي في قصيدة مراد القادري»، أشار الناقد والشاعر عمر العسري إلى أن الشاعر مراد القادري ينتمي «إلى توجه جديد ظهر منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حمل معه موقفا فكريا وتشكيليا جماليا للقصيدة الزجلية المعاصرة. ويحسب له تميز شعره بالحس الصوفي واستخدام إحالات ورموز من الثقافة العربية والعالمة. وقد اتسم هذا التوجه بذهنية تجريدية، وأخرى تجسيمية يتجاذبان دونما صراع بينهما».
يرتبط البعد الكتابي في تجربة الشاعر مراد القادري بمفهوم الحداثة، فقصيدته تقوم على تراكم نصي ومعرفي، مشدود الى أفق الحداثة سواء في اختيار وتنويع الأسناد المعرفية والاهتمام بقضايا الراهن أو اشتغاله على اللغة والواقع، أو من خلال التراكمات المعرفية التي تذاب في «لقصيدة».
ولإصراره على فتح آفاق أرحب أمام القصيدة الزجلية والانتقال بها إلى شعرية كثيفة تمتلك تقنيات الكتابة الشعرية والشرط الجمالي، اختار مراد القادري إدماج التفكير في الشعر بالشعر، أي في صلب عملية الكتابة الشعرية وداخل مشغله الشعري، إيمانا منه بالقصيدة كأفق واختيار، مؤكدا ومرسخا بذلك التحولات التي وسمت المنجز الشعري الزجلي الحديث.
إن أهم ملامح القصيدة الزجلية القادرية،كما يرى العسري، مراد عديدة ومتنوعة، «تدخل في كينونة الكتابة وتسترعي الانتباه وإعادة القراءة، ولن تتكشف إلا بنزوع الرؤى نحو تحديد بعضها وإبراز هيمنتها على مساحة النص». كما أن سمة التشابه التي يعد التوازي أبلغ صيغها تحتل مرتبة هامة في بناء هذه القصيدة، وفي خلق دينامية صوتية مهمة إلى جانب الوزن والأداء». وخلص العسري الى أن مشروع القادري الشعري لا يمكن استقراؤه مرحليا، لأنه مشروع لا يزال يمتد وينفتح على أسئلة كتابية رحبة.
من جهتها، اختارت الأكاديمية والباحثة العالية ماء العينين وهي تسافر إلى عوالم مراد القادري الشعرية ومفازاته أن تستقل «تراموي» الرباط في مداخلة بعنوان «ثلاثية لبلاد في محطات تراموي مراد القادري»، متوقفة عند محطات ثلاث، كل واحدة منها وشم على كف «غزيل البنات» أو ريشة من جناح «طير الله».
ترى ماء العينين أن كل عناوين دواوين القادري تشي بشاعرية وعذوبة وروح صوفية لا تخطئها الذائقة، إلا أن عنوان ديوانه ما قبل الأخير « تراموي» عنوان يستحضر المكان ( الرباط أو البيضاء) وكذا الرحلة داخل المدينة كفضاء خاص وعلامة على زمننا الحاضر، يجمع بين الحركة الدائمة والثبات على مسار واحد ذهابا وإيابا، شاهدا خلال هذه الحركة على التغييرات التي تطال الأمكنة والناس.
وخلال هذه المشاهد التي ينقلها الشاعر من نافذة التراموي، استوقفت ثلاث محطات الناقدة وأجملتها في:
*محطة لبلاد : يظهر من خلالها تجذر الشاعر في تربة المكان والانتماء الذي قد يضيق ليكون حيا أو مدينة أو مقهى أو معهدا ثقافيا، وقد يتسع ليصبح وطنا يحضن الذات وهي محطة توثق، بالتياع، لأمس المدينة النقية الطاهرة وحاضرها الذي بدت فيه أكثر تشوها وقسوة وزيفا، وفي خضم هذه المتناقضات تنبثق المدينة الرمز التي تجسد بصفاتها معنى شاملا يومئ إلى معنى الحياة ذاتها.
*محطة الذات: ويتم خلالها طرح سؤال ذات المبدعة، وهي ذات متشظية تتنازعها ضمائر الحضور والغياب، ذات تحضر في الديوان وتتميز بقوة رغبتها في التحرر الى درجة الصراخ.
وتكشف العالية ماء العينين بجانب هذه الذات عن ذات أخرى مطلة من الغياب، وهي الأكثر التصاقا بجوارح الروح، يسترجع فيها الشاعر معجما غاب عن ضمير المتكلم.
*محطة الشعر: يمكن القول هنا إنها الوعاء الذي يحتضن المحطات السابقة، وتتشكل من ثلاث قصائد ( الشعر، يعجبني، لقصيدة) جعلت الشعر موضوعا لها، أي أنها تنشغل بالشعري وأسئلته. وهي قصائد تكشف عن وجهين أولهما شعر يعصف ويجتاح كيان الشاعر بدون استئذان ولا مواعيد، يكتب، يمحو، يصحح، ووجه ثان تأتي فيه القصيدة على مهل، تقف على الهاوية والحواف، تنغرس في طينها وفي سحيق المهاوي، حيث الهاوية منبع الضوء البعيد الذي يضيء طريق السالكين الى دروب النجاة.
الشاعر والباحث الجمالي عز الدين بوركة لفت في مقاربته لتجربة القادري الشعرية الى أن المحتفى به «يشيد نصوصه مثل مهندس معاصر، غير عابئ بالنمطية الهندسية التي تهتم بالكل أكثر من الجزء، وبالنمطية المترفة المسرفة التي لا تكاد تحتمل موتيفاتها»؛ مشيرا إلى أن «همّ الشاعر الدهشة بأقل طاقة ممكنة وأقل كلمات منزوعة من اللغة ومزروعة على امتداد بياض أرض الصفحة». فالقادري يحرص في كل دواوينه على تحويل الكلمات إلى غابات تأويل كثيفة يلزم القارئ معها خريطة لتضاريسها الوعرة المخبأة بعناية بين الأسطر والمعاني، هو الذي « يكتب ما يشبه كتابة مينيماليزية، لكن بعشرة أصابع، بيدين: الأولى تدون والثانية تحفر. لأن كتابة الشعر هي حفر في الأعماق والسطح، وحُرقة تسكن الجسد ككل».
إن الكتابة بالعامية لا تعني تدوين اليومي المبتذل والمتداول، إنها عند مراد القادري «حُرقة متولدة عن نداء مزدوج داخلي وخارجي، يجعل من الشاعر فوتوغرافيا، ما أن تلقف عيناه مشهدا حتى تبحث يداه على زناد الكاميرا لاقتناص اللحظة/اللقطة الهاربة. غير أن الشاعر نحات الكلمات والنصوص، أيضا، يأسر اللحظة/الصورة الشعرية ويُخضعها لآليات الحفر والنقش في الزمن». وهو في لحظات الأسر هاته لا يضيء المحيط، بل الأعماق.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 01/11/2022