حين التقى جان فرانسوا كليمان عبد الرحمن اليوسفي، كان يكتب أطروحته لنيل شهادة السلك الثالث، والتي سيدافع عنها في نيس عام 1974، وكان موضوعها «مقاومة المغرب للاختراق الأجنبي، 1904-1934»
لم يكن اليوسفي رجلا ذا بعد واحد، بل رجلا غزيرا كافح بلا رحمة عن بلاده، ضد المستعمر الفرنسي، وضد الظلم، وضد الحكم الفردي. بل ذهب أبعد من ذلك حين حمل السلاح، في الوقت الذي كان أزلام النظام الأوفقيري يقدمون لمن يدور في فلكهم ياقات الفرو الحمراء. لم يهادن وريث المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد حول ما آمن به، وحول المبادئ التي ظل عمرا يدافع عنها بـ «براغماتية الكبار» المتعففين عن المغانم الصغيرة والعابرة. في هذا الأفق يأتي كتاب «عبد الرحمن اليوسفي: عبور الصحراء» للكاتب جان فرانسوا كليمان الذي يطمح إلى إعادة رسم ملامح هذا السياسي الاتحادي والمقاوم الفذ والوطني الاستثنائي.
عندما استقال الراحل عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول الأسبق، من العمل الحزبي والسياسي، اقترح عليه الصحافي والباحث في علم النفس وعلم الاجتماع، جان فرانسوا كليمان، كتابة مذكراته، لكنه، كما يعترف الرجل، لم يتلق أي إجابة من الرجل.
وقال كليمان: «لقد ظهرت أخيرًا مذكرات تتحدث عن حياة اليوسفي، عندما كان الرجل يبلغ من العمر 94 عامًا، ولكن دون أي إيحاءات محددة. ولهذا سيتعين على المؤرخين الشروع في العمل».
في هذا الأفق الاستكشافي، يأتي، إذن، كتاب «عبد الرحمن اليوسفي: عبور الصحراء» الذي سيرى النور قريبا عن دار النشر «كراس المتوحد les infréquentables». والكتاب من تأليف جان فرانسوا كليمان الذي ولد عام 1942 ، ودرس العلوم والاقتصاد والأدب، ونال شهادة في علم النفس، وفي علم الاجتماع. كما خضع لتكوين في الفلسفة قبل القدوم للتدريس بكلية الآداب بالرباط عام 1966. وبعد عودته إلى فرنسا عام 1969 ، أصبح مدرسًا للفلسفة ، ولكن أيضًا للهندسة المعمارية، وعمل لسنوات عديدة في المعهد التجاري لنانسي.
وقد تعاون كليمان، كصحفي، بشكل منتظم، مع مجلة «لاماليف» Lamalif (الرباط) عام 1969. وفي وقت لاحق مع مجلة «الأساس» Al-Asas (سلا). بيد أنه كتب أيضًا في مجلتي «Esprit» و Merip» (واشنطن). كما تعاون مع «حدائق المغرب» Jardins du Maroc (مراكش)، و»أفاق مغاربية» Horizons maghrébins (تولوز).
الكتاب، حسب المؤلف، يعالج الجزء الثاني من حياة عبد الرحمن اليوسفي، أي ذلك الجزء الذي رافق التوترات الداخلية في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مع ما استتبع ذلك من إنشاء مراكز التمرد في وجدة وكلميمة وفي الأطلس الأوسط، وهي الفترة التي تردد خلالها جان فرانسوا كليمان على عبد الرحمن اليوسفي، والتي سبقت تأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
الكتاب رحلة مع اليوسفي أثناء «عبور الصحراء»، أو فترة المنفى بمدينة كان الفرنسية، والتي سيبقى مرتبطًا بها حتى بعد عودته إلى المغرب.
يقول كليمان: «تعرفت على عبد الرحمن اليوسفي أثناء ندوة حول «عبد الكريم الخطابي وجمهورية الريف»، والتي انعقدت بباريس في الفترة من 18 إلى 20 يناير 1973. التقيت به رفقة المهدي العلوي، وهو الأمر الذي أدى إلى انطلاق تبادل الأحاديث مع هذين الرجلين. كما كانت فرصة للقاء جنود فرنسيين أو إسبان قادوا الحرب ضد عبد الكريم، فضلا عن الباحث الأمريكي العظيم ديفيد مونتغمري هارت الذي ستقام معه علاقة دائمة لأنه كان يعارض فكرة «الجمهورية» حول نضال الريف مع التأكيد على التناقضات بين المفهوم القانوني لـ»الجمهورية» وما سماه قادة الريف بـ «ريببليك». وقد أسفرت الندوة عن كتاب مرجعي صادر عن ماسبيرو عام 1976. وهكذا بدأت أحاديثي الأولى مع عبد الرحمن اليوسفي، والتي استمرت بعد ذلك في كان، حيث استأجرت فيللا حتى ألتقي به حيث كان يعيش مع زوجته».
حين التقى جان فرانسوا كليمان عبد الرحمن اليوسفي، كان يكتب أطروحته لنيل شهادة السلك الثالث، والتي سيدافع عنها في نيس عام 1974، وكان موضوعها «مقاومة المغرب للاختراق الأجنبي، 1904- 1934». آنذاك، كان كليمان يجهل كل شيء عن ماضي اليوسفي البعيد، عن ولادته في طنجة عام 1924 في أوج حرب الريف، وعن اختفاء شقيقه عبد السلام، وعن مرحلة تكوينه عام 1936 في مراكش في فترة حكم الباشا الكلاوي، ثم مجيئه إلى ثانوية مولاي يوسف حيث جعله أستاذ الرياضيات المهدي بنبركة يؤدي يمين الولاء لحزب الاستقلال في عام 1943، واضعا يده على القرآن، وهو القسم الذي سيكرره مع الملك الحسن الثاني بعد أكثر من 50 عامًا.
ويخبرنا كليمان أنه لم يكن يعرف حتى لماذا كان الرجل (اليوسفي) في المنفى في كان.
وكتب كليمان أن ذلك تاريخ بدأ يظهر قبل فترة طويلة من عودة عبد الرحمن اليوسفي إلى المغرب في عام 1980، «عندما سعيت لفهم أسباب الانقلابين العسكريين، وخاصة للإحاطة بمحاولة إنشاء مراكز عصيان في الأطلس المتوسط، وفي جزء من المغرب قبل الصحراء. في ذلك الوقت، لم نكن على دراية بالعلاقات التي نسجها العسكري أمقران، الذي كان يدير قاعدة القنيطرة، مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي سيندمج في «الكتلة الوطنية» عام 1973، ومع عناصره السرية التي توزعت بين سوريا وليبيا والجزائر، وكذلك بين فرنسا وألمانيا، وكان العديد من هؤلاء أنصار للكفاح المسلح الذي سيبدأ في 3 مارس 1973 في مولاي بوعزة.
وقال كليمان إنه مباشرة بعد نهاية ندوة باريس حول حرب الريف، سيقود الفقيه البصري وريث المشروع الثوري للمهدي بنبركة والمنتقم لعملية الاغتيال التي كان المهدي ضحية لها، هذا التمرد. لكن بعد فشله أرسل الفقيه البصري رسالة عام 1974 إلى كل من عبد الرحمن اليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد، ولم يعرف عن تلك الرسالة شيء، إلا بعد وقت لاحق، حين نشرتها «لو جورنال».
وتابع كليمان: «بين هذين الخطين السياسيين، وعبر ما هو شفهي أكثر منه كتابي، وما هو سري أكثر مما هو مصرح به، بدأت تتطور أمامي ملامح الوجه الأول لعبد الرحمن اليوسفي، وغير المعروف تقريبًا اليوم، أو على الأقل المكبوت بقوة. وانا هنا أفكر في الفيلم الذي أنجزه حميد برادة، قبل عشرين عامًا، عن عبد الرحمن اليوسفي، والذي يتجاهل تمامًا هذا الجانب من شخصية هذا السياسي».
وأضاف كليمان أن عبد الرحمن اليوسفي، خلال ندوة باريس، قدم وصفا دقيقا للملكية المغربية، وأنه تحدث عن «أن الملكية لها وظيفة زائفة لممثل الله على الأرض»، وندد «بطقوس التنصيب باعتبارها محاكاة لمراسم البيعة». فعبد الرحمن اليوسفي كان على علم، وكذلك عبد الرحيم بوعبيد ، بمحاولة الانقلاب الثاني الذي كان يتم الإعداد له بالقنيطرة بعد فشل محاولة انقلاب الصخيرات. وبالفعل، فقد التقى الفقيه البصري ، بمساعدة شقيقه حسن وآيت قدور، مع الليوتنان كولونيل أمقران على الحدود الفرنسية الألمانية، كما أبلغ أطر الحزب بذلك. لكن هؤلاء، أخذوا مسافة من تلك المغامرة، التي كان من أهدافها أيضا القضاء على الجنرال أوفقير.
بعد ذلك بوقت قصير، يقول كليمان، ولأن «مستقبل البلاد أملى ذلك» بسبب قضية الصحراء التي بدأت علنا، وافق عبد الرحيم بوعبيد، الذي حول الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في عام 1975 ، على أن يصبح وزيرا للدولة عام 1977. وهذا ما فعله عبد الرحمن اليوسفي عام 1998 ، بعد عودته من منفاه الثاني، واضعا في الواجهة جانبًا آخر من شخصيته أكثر براغماتية وأكثر اختلافًا عن الثوري الذي كان عليه في السابق، وذلك عندما عقد اتفاقا شخصيا مع الملك الحسن الثاني». وفي هذا، كان أيضًا، كما أشار إلى ذلك محمد اليازغي في وقت لاحق، وريث المهدي بن بركة الذي بعد الانتخابات التشريعية في 17 مايو 1963 ومرة أخرى في عام 1965 قبل مبدأ مشاركة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الحكومة.
وقال كليمان إنه تعرف، في الواقع ، «بشكل تدريجي، عن هذين الجانبين من شخصية عبد الرحمن اليوسفي ، اللذين يشكلان وحدة في الأساس، وتعزى الاختلافات إلى التغيرات في السياقات الدولية (لأن روسيا كانت موجودة في مؤامرة الأطلس المتوسط عام 1973 تماما كما كانت الولايات المتحدة في مؤامرة غشت 1972) والوطنية كذلك. وتابع مؤلف الكتاب: «لقد تعرفنا، بالتزامن مع ذلك، وعلى نحو تدريجي، على جانبين من شخصية الملك الحسن الثاني». وأنه في كلتا الحالتين (عبد الرحمن اليوسفي والملك الحسن الثاني)، كانت «ممارسة تدريجية في فهم التعقيد».
وقالصاحب الكتاب إنه ليس بوسعنا أن نفهم تمامًا أهمية رجل الدولة الذي كانه عبد الرحمن اليوسفي إذا تجاهلنا، أو إذا محونا المناضل الثوري الذي تلقى تدريبه في طنجة أولاً وكان ذلك ضروريًا ، ثم في قلب النظام «القيادي» الذي ولد في نهاية القرن التاسع عشر، ثم في الرباط، وبعد ذلك التيه الذي قاده بعد عام 1944 إلى آسفي ثم إلى الجديدة، فإلى الدار البيضاء، ثم إلى باريس، وإلى كان ، قم مرة أخرى إلى الرباط مع بعض الرحلات، ذهابا وإيابا، بين هاتين المدينتين.
الكتاب يعد، حسب صاحبه، بالعديد من الحقائق الجديدة حول عبد الرحمن اليوسفي، وحول تاريخ المغرب المعاصر.