أحالني النص الجديد «ارحل « للشاعرة أسماء خيدر، وهو النص الصادر بعد توقيع ديوانها الأول بمعرض الكتاب الدولي بالرباط « للأغنيات ناياتها.. وهذه دهشتي « أحالني على ظاهرة السفر التي تهيمن على جل نصوصها المتماوجة بين دفتي الديوان، والمتأثرة بإيقاع حركي، يتناسب وطبيعة السفر، إلا أن هذه الحركية تصاعدت وتيرتها حين أصبح السفر رحيلا، وتداخل معه في جدلية تفاعلية تراوحت بين سفر واقعي يتميز بالمتعة، ورحيل متخيل يستدعي كل دواعي الحزن واللوعة. فالشاعرة وهي مسافرة باستمرار، فهي في وضعية المتحول، وأن السفر عندها ليس غاية لذاته، بل هو وسيلة لتحقيق غايات أسمى :
– أنتظر أحلاما جديدة
-لتسافر بي دون جواز سفر
– حتى لا تصدأ الروح…..(ص 53و54 من الديوان)
فالسفر هنا روحي وليس جسديا فقط، مادام الأفق هو الحلم، فلا يهم أن ينتهي السفر، بل المهم أن يتواصل ولو بلا نهاية، لأن الأحلام لا تنتهي، ما دام جديدها هو الغاية. كما أن السفر عند الشاعرة مفتوح على احتمالات العودة :
– بنصف قلب سافر
– كأنه عائد الى بدايته…..(ص 80 من الديوان)
فالسفر هنا فعل شعري، يدور في دورة مغلقة، ينطلق من نقطة البداية ويحتمل العودة إليها،وهذا تأكيد على ان للشاعرة مرتبطة بواقع لا تغادره، لأنها تحن باستمرار لنصف القلب الذي لم تسافر به، كما أن القصد من السفر عندها واضح في معالمه:
-لست أعمى
– حتى تدلني الى طريق كنت أعبده…..(ص 84 من الديوان) .
والغاية كانت راقية تروم التعالي:لأجاور القمر البعيد …(ص99 من الديوان).
والسؤال الجدلي الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: إذا كان السفر وهو حالة شعرية، يحلق بالشاعرة في أفق روحي ممتع، يتطلع الى مقاصد حسية تسعى الشاعرة الى تحقيقها، فهل الرحيل وهو حالة شعرية أيضا، يندرج في نفس الصورة الماتعة التي يبوح بها السفر…؟
وبعودتنا الى نص «ارحل» تطالعنا أول ما تطالعنا، تلك اللغة الصارمة وهي تعتمد صيغة الأمر المتكرر، لتفصح عن شعور حاد بالإلحاح على رحيل لا رجعة فيه، ولا أمل فيه لفتح باب العودة، فالشاعرة وهي ترحل، توصد الباب من خلفها بإحكام:
– لا تترك للريح منفذا…..
فالرحيل عند الشاعر قرار نهائي، مهدت له بالسفر الدائم، ومن هنا تتضح جدلية السؤال أيضا، ما دام الرحيل يثير نفس الأسئلة التي يطرحها السفر، وإن اختلفت صرامة اللغة بينهما. فالرحيل وهو يعلن عن قرار اللاعودة بحدة، فهو في الواقع يطرح أسئلة نوعية لا تقل اشتعالا عما يطرحه السفر، وإن ضمنيا.
فالحرائق في الرحيل أكثر إيلاما، ورغم ذلك تمضي الشاعرة فيه غير مبالية بالخسائر، ولا حتى ب( زوابع القلب). ومن هنا نسجل المفارقة الواضحة: فالسفر باعتباره متعة وغايات حسية، فهو سفر الى الحياة، أما الرحيل فهو رحيل عن الحياة، وأعتقد أن الشاعرة تفسر هذه المفارقة من خلال فرضيتين: فرضية الحس، وفرضية المعنى، فهي حسيا تصعد من وتيرة رفض كل ما هو حسي قد يؤثر على قرار اللاعودة:
-احمل بقاياك على ظهر النسيان…
– وامسح أثرك….
ومعنويا، تشدد العزم على كبح مشاعرها:
-حتى لا تتبعك عصافير الروح….
فهي تقص أجنحة الروح حتى تجتث كل امل في اللحاق، وليست هذه الاستعارة الوحيدة التي تقطع بها الشاعرة الشك باليقين، فهناك استعارة أخرى تنحو نحو نفس المعنى:
– وارسم خريطتك على ظهر اليد…
فرسم الوجهة على ظهر اليد يدل على الفعل والتنفيذ، وعلى أن الرحيل مسار واقعي لا محالة.
وأمام هذه الصورة القاتمة، واللغة الشعرية الصارمة والقاسية أيضا على نفسية الشاعرة « أسماء خيدر»، نلمس حالة من الحيرة التي تعصف بها لدرجة التوجس من مجرد تسلل النهار، خوفا من إشراقة روحية قد تخلط الأوراق:
– حتى لا تشهق الجوارح النائمة
– على صدر الأمس …
فالشاعرة تخاف من اصطدام المعنوي/ الجوارح، بالحسي/ ضوء النهار، فتشتعل الذاكرة، ويتبخر القرار أمام جبروت صور الأمس. وهنا ينتصب السؤال: هل هذه الرحلة وجودية ، تستهدف البحث عن حياة جديدة تقوم على أنقاض حياة كانت بالأمس؟
والواقع أن الوضع النفسي للشاعرة وهي تواجه حالة الرحيل بمنتهى القسوة الإرادية، فهي تعبر فعلا عن رغبة وجودية لا علاقة لها بظلال صور الماضي، بل وهي تختبر قدرتها على تخطي تجربة الرحيل بكل ما ينطوي عليه من عواقب وعقبات، فهي تنتقل من مستوى الوعي الى مستوى الوجود، حيث لا غربة ذاتية ولا يأس ولا ضحايا:
– ارحل عنك وعني وعن كل هذا اليأس
– والضحايا مدرجة في وحل الخطايا…..
فالوجود المنتظر كما تتصوره الشاعرة، هو أفق مثالي تستلهم فيه المدينة الفاضلة، ولهذا نجدها تستسلم لسلطة القرار الواعي، وهي سلطة أقوى من كل تأثير حسي أو وقع معنوي، فلا الزمان ولا المكان ولا الذاكرة حتى، عاد لها ذلك البريق الحالم الذي قد يثير حنينا بشكل ما، أو ينعش الذاكرة بصور كانت مثيرة في زمن ما. فقد أقبر اليأس كل مشاعر الوجدان النفسي، وأحبط كل تفكير في التراجع، بل حتى البكاء ما عاد مجديا:
– ولا تبك خلف جنائز القلوب
وقت الأفول…
فلا صدى للبكاء خلف الجنائز، وأي جنائز؟ إنها جنائز القلوب، و لا صدى للنور بعد الأفول.
بهذه اللغة الشعرية القاسية، تطرح الشاعرة تصورها عن رحيل لا يشبه السفر، وإن تقاطعت أسئلتهما أحيانا جدليا.
وفي الختام يظل هذا السؤال المحير ملحا في نظري: هل فعلا الرحيل خيار يصلح الخيارات القديمة؟ أم أنه خيار لترميم الذات وتجاوز أعطاب الماضي؟ وما موقف الروح، هل تظل رهينة الماضي مهما كان قاسيا؟
إنه صراع الذات والروح، داخل مشهد شعري وجداني، يجسد فيه الرحيل ذلك البطل التراجيدي الذي تتقاطع فيه مشاعر الوداع والحنين في مفارقة صارخة. فالرحيل مهما كانت دوافعه، يظل واقعا صعبا وموقفا شاقا يصعب التماهي معه، وهذا ما بدا جليا في هذه الومضة الشعرية:
– حين لبسنا البياض في سدفة ليل…
فهل هي صرخة روح، أم مجرد ومضة ذاكرة كافية للخلاص من سلطة قرار الرحيل الصعب، وهيمنة مشاعر اليأس….؟
سؤال أتركه للشاعرة «أسماء خيدر» لعلها تفتح عتباتها على احتمالات ممكنة.
جدلية السفر و الرحيل قراءة في ديوان «للأغنيات ناياتها.. وهذه دهشتي»

الكاتب : ذ. الطاهر جوال
بتاريخ : 14/07/2025