عالم الاجتماع مصطفى محسن:لهذه الأسباب تم التضييق على الفلسفة والسوسيولوجيا
مصطفى محسن: عالم اجتماع، كاتب ومفكر عربي بارز من المغرب، خبير في قضايا التربية والثقافة والتنمية… في المغرب والوطن العربي بشكل عام…
تقلد، منذ تخرجه سنة 1972، عدة مهام تربوية وتكوينية وتدبيرية في حقل التربية والتعليم وتكوين الأطر…
اشتغل أستاذا باحثا «في سوسيولوجيا التربية والشغل والتنمية» بمركز التوجيه والتخطيط التربوي/الرباط، وأيضا أستاذا متعاونا مع بعض الكليات ومؤسسات تكوين الأطر التربوية العليا….
عضو مؤسس، أو مشارك في أنشطة عدة هيئات ومؤتمرات ومنظمات وطنية وإقليمية ودولية، حكومية وغير حكومية، مثل: الجمعية المغربية لعلم الاجتماع /المؤتمر التأسيسي للفضاء المغاربي/ المؤتمر القومي العربي…الخ.
له العديد من الدراسات والمقالات والحوارات والأبحاث والمؤلفات الفردية أو المشتركة. وهي أعمال ينطلق فيها كلها من هدف جعلها تأسيسية متميزة. وذلك حين يحاول إقامتها على ما يسميه بـ »منظور النقد المتعدد الأبعاد« بما هو مرجعية فكرية ومنهجية مؤطرة وموجهة لمشروع الباحث برمته، وبما هو أيضا نقد إبستمولوجي وسوسيولوجي وحضاري حواري وتكاملي منفتح للذات (النحن)، وللآخر (الغربي المغاير)، وللسياق الحضاري باعتباره لحظة تاريخية لتبادلهما وتفاعلهما على كافة الصعد والمستويات. غير أنه، إذ يؤكد على نوعية واستقلالية مشروعه الفكري هذا، فإنه يلح، في نفس الآن، على ضرورة النظر إليه في شرطيته السوسيوتاريخية الشمولية، أي على أنه جزء من كل، أي كأحد روافد حركة نقد عربي فكري وثقافي وحضاري معاصر أوسع وأكثر تمايزا في الأهداف والرهانات والخلفيات والرؤى والنماذج الإرشادية الموجهة… إلا أنها تسعى كلها إلى المساهمة الفاعلة المنتجة في التأسيس الجماعي لفكر عربي حداثي ديمقراطي حواري مؤصل، وإلى تشكيل وعي وثقافة جديدين، وإلى بناء إنسان جديد ومجتمع جدارة جديد…
في هذا الحوار تفاعل السوسيولوجي مصطفى محسن مع كل الأسئلة المطروحة-رغم ظروفه الصحية الصعبة- عن مساره في الفلسفة والتربية والسوسيولوجيا دراسة وتدريسا، وعن التضييق الذي طال شعبة السوسيولوجيا والفلسفة بعدها وتداعيات ذلك على مسار السوسيولوجيين المغاربة أنفسهم. وبوصفه مربيا وفاعلا مدنيا، تطرقنا معه إلى أدوار المجتمع المدني في إشاعة قيم المواطنة والسلوك المدني في الحياة المدرسية المغربية، وكيف يتصور بناء «مدرسة المستقبل» في تشكيل المواطن/الفرد. وإذا كانت هوية مصطفى محسن سوسيولوجية فإن له إنتاجا محترما في المسألتين التربوية والفلسفية. وما يؤطر خطابه، في كل هذا، هو مشروعه النقدي الحواري المنفتح المتعدد الأبعاد.
p لماذا اخترت علم الاجتماع مجالا للتخصص؟
nn اختياري لعلم الاجتماع مجالا للتخصص والاشتغال-إضافة إلى بعض الشروط والخلفيات الذاتية والموضوعية التي سبق الحديث عنها- فقد كان مستندا على اهتمامي بشمولية هذا العلم، وبطبيعته النقدية، التي لا يمكن تعريفه إلا من خلالها وبها، كما يرى الان تورين. كما أني، وأنا أعيش، بعنفوان وتطلعات الشباب، ما عرفته فترة الستينيات والسبعينيات من زخم فكري وسياسي واجتماعي مشحون سواء داخل الجامعة أو في المجتمع عامة، كان يحركني الطموح إلى أن أرتقي إلى مستوى الفاعل الثقافي العضوي الملتزم بقضايا الوطن والأمة والإنسان. ولعلي قد وجدت بعض ضالتي في هذا الاختيار التخصصي، ذلك أنه كان يبدو لي أن المدخل السوسيولوجي بمنحاه الشمولي وأدواته النقدية قمين بأن أتعرف عبره على العديد من ميكانيزمات اشتغال مجمل مكونات “النسق” المجتمعي العام. مما كنت أفترض قيه وأنتظر منه أن يمنحني من المعرفة والوعي ما قد يساعدني على ترشيد ممارستي التربية والثقافية والسياسية والاجتماعية. وذلك حتى ولو لم يكن لي انتماء عقائدي أو تحزب سياسي، اللهم إلا ما كان من دفاعي النقدي عن ” فكر وقيم الحداثة والديموقراطية والتقدم..”، وتمسكي في نفس الآن بما أراه من المقومات الأصيلة ل “هويتي” الثقافية والدينية والحضارية والإنسانية المتكاملة.
وإذا كان في كل اختيار شكل ما من المخاطرة، كما يرى كيركوغارد، فقد يكون في استئناسي بالمنظور التكاملي لمعارف العلوم الإنسانية بعض ما يعوض عما تسببه هذه المخاطرة من فقد أو تضحية ضرورية باختيارات أخرى، الأمر الذي أصبحت تمليه الآن جملة من الاعتبارات والقواعد النظرية والمنهجية في آن.
أما بالنسبة لهجرة بعض السوسيولوجيين إلى الأنثروبولوجيا فإني أراها أمرا طبيعيا نظرا لتقارب موضوع العلميين: دراسة الإنسان في المجتمع، مع اختلاف منهجي في أدوات المقاربة والتحليل والتفسير… ولعل الملاحظة الجديرة بالتذكير بها في هذا الشأن هي الهجرة من التاريخ والأدب والعلوم الإنسانية والاقتصادية…إلى السوسيولوجيا بالذات. وقد يكون في اعتبار هذا العلم بمثابة نقطة تلاقي وتقاطع علوم اجتماعية وإنسانية متعددة، وكذلك في رؤيته الشمولية والنقدية المنفتحة، بعض ما يفسر تنامي هذه الظاهرة.
كما أن بعض مقتضيات الإصلاح الجامعي الجديد قد ساهمت أيضا في تدعيم هذا المنحنى. فبناء الجسور أو فتح الممرات بين التخصصات الإنسانية في الكليات ذات الاستقطاب المفتوح خاصة قد أمسى من الممكن معه للطالب الباحث أن ينتقل في مسار تكوينه الأكاديمي مثلا من إجازة في الأدب إلى ماستر في التاريخ إلى دكتوراه في علم الاجتماع، متى ما سمحت له مواصفات “العرض الأكاديمي” بهذا الانتقال. إلا أنه إذا كان هذا الوضع المستجد قد أتاح لبعض الطلبة فرصا وحظوظا وإمكانات واسعة نسبيا للتوجيه وتلبية اختياراتهم الدراسية والتكوينية، فإنه في مقابل ذلك، قد وضع بعض “مخرجات” التعليم العالي أمام مشكلات تتعلق إما بعدم وضوح “الهوية التخصصية”، أو بعض مصاعب الاندماج المهني في سوق الشغل، أو حتى الالتحاق بالعمل في نفس الجامعات التي أنتجت هذه المخرجات.
ولا ريب في أن هذه القضايا الآنفة تحتاج كلها إلى دراسات متنوعة معمقة لفهم إيجابياتها وسلبياتها ومردوديتها التربوية والمعرفية والاجتماعية المركبة المتداخلة. بيد أن البحث العلمي في بلداننا العربية والنامية، وكما وردت الإشارة إلى ذلك في السؤال، ما يزال يعاني من عوائق واختلالات معطلة لنمائه وتطوره. سواء كان ذلك على مستوى الغايات والمرجعيات الموجهة، أو على مستوى رسم الخطط والبرامج والمشاريع، أو على صياغة سياسات المأسسة والتنظيم والعقلنة والحكامة والتدبير والتمويل…أو على مستوى استدماج خلاصات ونتائج البحوث العلمية المتنوعة في سيرورات صنع القرار، وفي عمليات ومسارات التنمية والتحديث والتنوير وبناء المجتمع الديموقراطي المتوازن السليم. ولعل في اختياري هذا الحقل العلمي السوسيولوجي مجالا للاهتمام والعمل-رغم وعيي بمجمل المصاعب السابقة للبحث العلمي، وبما يمارس على المعرفة السوسيولوجية، نظرا لعوامل شتى، من أشكال التهميش والتحفظ، والتحوط والاستبعاد…- ما يمكن عده نمطا من النضال الثقافي والعلمي والتربوي المستديم، الهادف إلى إعادة الاعتبار لهذه المعرفة ولقيمتها ومكانتها وأدوارها الإيجابية المنتجة في كل السيرورات والمسارات التنموية المذكورة. وقد خصصت لمقاربة هذه الإشكالية أحد أعمالي الموسوم ب “البحوث الاجتماعية وتحديات التنمية: قضايا في المناهج والسياسات وآليات الاشتغال، مداخل سوسيو معرفية نقدية، مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة (CERHSO ) ، دفاتر المركز، رقم 5، الطبعة الأولى، 2013)”.
p لنواصل حوارنا في نفس المجال التربوي والثقافي كي أسألكم، ذ. مصطفى محسن: لماذا لم يتعزز اكتساب قيم المواطنة والديموقراطية وحقوق الإنسان في المدرسة المغربية بالشكل المطلوب: تضخم في المعرفة على حساب تملك الكفايات والمهارات والقدرات واستدماج المواقف والاتجاهات الإيجابية في ثقافة وتكوين تنشئة المتعلم…؟ ثم أي أدوار ووظائف يمكن أن يقوم بها المجتمع المدني للمساهمة في إشاعة هذه القيم وترويجها في مؤسساتنا التربوية؟
nn لكي تتمكن المؤسسة التربوية (المدرسة والجامعة) من إكساب التلميذ او الطالب منظومة متكاملة مؤثرة من قيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان… فإنها ينبغي أن تكون، في تقديري، هي ذاتها مؤسسة اجتماعية مواطنة. أي متبنية في مناهجها وأطرها الثقافية الموجهة، وفي ممارساتها وتفاعلاتها البيداغوجية والاجتماعية والإنسانية…، لهذه القيم المذكورة. وهذا يفترض أو يستلزم أن تتوفر هذه المؤسسة على “حياة مدرسية أو جامعية” قائمة على أشكال هادفة ومتواصلة من الأنشطة التربوية والثقافية والفنية الموازية للتعلمات الصفية، حياة حقيقية تعكس بعض جوانب ومكونات المجتمع الذي تنتمي إليه، من علاقات ومشاعر وتبادلات مادية ورمزية، ومن محفزات الفرح والتفتح وكفايات الفعل والمبادرة والإبداع والتواصل مع المحيط المحلي والإنساني العام. مما يمكن المتعلم من أن يلمس ويعيش بالفعل ممارسات المواطنة والديمقراطية وأخلاقيات الواجب والمسؤولية وحقوق الإنسان، ويدرك مفاهيمها ومقتضياتها وأبعادها ودلالاتها المتعددة. غير أن ذلك لا يتوفر في مجتمعنا إلا في نماذج مؤسسية تربوية محدودة. وإذا استحضرنا أوضاع التعليم في أوساطنا التربوية القروية المقصية فإن هذه الحالة تغدو أكثر فداحة وكارثية.
ولنتصور هنا مثالا مأساويا لتلميذ قروي يمضي عمره الدراسي، على الأقل في المرحلة الابتدائية، وهو يتلقى تعليمه في حجرة دراسية نائية معزولة، لا مرافق صحية فيها، ولا أي من شروط ومستلزمات الفضاء المدرسي، وقد يغادر هذا المتعلم مدرسته هذه نهائيا، وبمؤهل أو بدونه، وهولا يمتلك، على مستوى تمثلاته الذهنية، أي صورة واضحة عن مفهوم المدرسة، بما هي منظومة متناسقة من المواقف والفاعلين والأدوار والعلاقات والأنشطة والممارسات الممأسسة المتكاملة. فعن أي تعليم أو إعداد أو تنشئة أو تربية لهذا المتعلم على قيم وثقافة الحق والمواطنة والسلوك المدني نتحدث في مثل هذه الظروف السوسيوتربوية المزرية؟ إنها معضلة حقيقية بالفعل!
وفي هذا السياق يمكن أن نذكر بالدور الفاعل والمؤثر للمجتمع المدني في رفد جهود المؤسسة التربوية التي تبذلها في مجال التربية على منظومة قيم ومبادئ التربية المواطنية المذكورة. غير أن ذلك يجب أت يتم في إطار علاقا الانفتاح والتبادل والتواصل المستمر بين الطرفين الآنفين. وذلك على مستوى الشراكات المنظمة والمعقلنة والمتناغمة في المرجعيات والأهداف والمشاريع المؤسسية وخطط وبرامج التدخل والاشتغال. وهنا يفترض إدخال المجتمع المدني بفاعلياته وأنشطته وقيمه إلى “الحياة المدرسية والجامعية”، وإخراج هذه المؤسسة التربوية كذلك إلى الحياة الاجتماعية بفضائها العمومي ومجمل مكوناتها الأساسية. غير أن قيام كل من المدرسة والمجتمع المدني بوظائفهما التربوية والثقافية في مضمار التنوير وترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية والسلوك المدني وحقوق الإنسان وغيرها من المبادئ والقيم المؤسسة البانية، يظل على العموم مشروطا بخصوصيات السياق التربوي والثقافي والاجتماعي المعني، المتجسد في نسق مجتمعي محدد في الزمان والمكان، وبالأهمية التي يحظى بها تكوين “الإنسان/المواطن/الفرد/” فيه، وبتثمين قيمة ووزن الدور الفاعل الإيجابي المنتج الذي ينتظر أن يلعبه في المجتمع والتاريخ.