جدلية ‘الشيخ’ و’الشيخة’ في السينما المغربية

من الملاحظ أن السينما المغربية – على غرار السينما العالمية- دأبت على استفزاز الواقع المغربي ومحاولة وطء جوانب ثقافية وأخرى قيمية لغايات في نفوس المخرجين. محاولات مختلفة يراها البعض محمومة بالتجريب الفني والابتداع، في حين يراها آخرون تكريسا لمنطق الهزيمة والاتباع. لعل الجدل القائم اليوم بين «الشيخ» و»الشيخة» في سينمانا جدل قديم جديد: قديم قدم الفن وجديد جِدته، قديم وجديد كما الإنسان والمجتمع.
لعل التأصيل للصراع الدائر بين ‘الشيخ’ و’الشيخة’ يجرنا إلى الغوص في غياهب تاريخ الفن حيث نستحضر الفكر الأفلاطوني الذي طرد الفنانين من جمهوريته. ذلك لكون الفنان لا يعترف بالقواعد ولا بالنظم. فالفنان شخص ثائر بطبعه ينتقد الآلهة كما ينتقد الأشخاص. هذا يعتبر جورا على حرمة الآلهة وتعديا على سياسة المدينة الفاضلة التي تمجد الوثنية وتقدس الأرباب. فجُرم كل مساس أو تنقيص أو تحريف لهذه السياسة. دفع هذا أفلاطون إلى تشديد الرقابة «على كل ما عسى أن يطالعه الناشئون» (1) وبالتالي صار منبوذا ومطرودا كل فن لا ينصاع لمنطق المدينة.
واستمر الصراع عبر التاريخ بين مناصر للفن ومعارض له، بين من يشرطه ومن يحرره. فظهر موقفان أساسيان: الأول يعلي من قيمة الفن على حساب المنفعة. فنظر للفن كقيمة في ذاته. والثاني، ربط الفن وجعله مشروطا بالمنفعة. وبين هذا وذاك تضاربت الآراء والمواقف. فمنهم تابع، ومنهم مبتدع، ومنهم منتقد راصد للرزايا، ومنهم ممجد سارد للمزايا، حتى أن هناك من ذهب إلى حد تحريم الفن والتمثيل (2).
بالنظر إلى فكر ‘الشيخ’، باعتباره موقفا يقوم على المنطق الديني ‘الإسلامي’ إن صح التعبير، فإن موقفه لا يختلف كثيرا عن منطق أفلاطون. حيث إن محاولات ‘الشيخ’ الإفتاء في نازلة فيلم عن ‘الشيخة’ ينطبق تمام الانطباق مع محاولة أفلاطون مصادرة أشعار هزيود وهوميروس اللذين تمردا على منطقه. إن السينما أكثر تأثيرا ووقعا على المتلقي، بالتالي فهي أشد خطرا من أي فن آخر. هذا ما دفع تروتسكي لوصفها «بالسلاح» في مقاله الشهير ‘الفودكا والكنيسة والسينما» (3).
كما أن لينين بين الأهمية الكبرى للسينما بقوله: «ينبغي أن تتذكروا جيدا، أن من بين الفنون، بالنسبة لنا، الفن السينمائي هو الأهم» (4). ذلك لكون السينما تمتلك قوة هائلة لإقناع المتلقي بأي موقف. إنها قادرة على تغيير المواقف، والسلوك، والتوجهات، بكل سهولة؛ بالتالي فقدرتها قدرة ‘تدميرية’، على حد تعبير أموس فوجلAmos Vogel . هذا التدمير يبدأ «عندما تغمر العتمة صالة السينما وينبجس الضوء من سطح الشاشة» (5).
كثيرة هي الأفلام التي تحضر فيها القيمة التدميرية بمنطق أموس فوجل. كذلك الأمر بالنسبة لأفلام عدة من الفيلموغرافيا المغربية التي تناولت موضوع «الشيخة»، نأخذ على سبيل المثال لا الحصر: فيلم «جوق العميين» لمحمد مفتكر، الفيلم «كل ما تريده لولا» لنبيل عيوش، الفيلم «سالف عذراء» لجميلة البرجي بنعيسى، الفيلم «خربوشة» لحميد الزوغي، الفيلم التلفزي «مول البندير» لإبراهيم الشاكيري، والمسلسل الرمضاني «لمكتوب» لعلاء أكعبون. غير أن هذين العملين الأخيرين – «مول البندير» و»لمكتوب»- حركا موجة من النقاش الجاد حول طبيعة المنتج الفيلموغرافي المغربي ومرجعياته خاصة كونهما من الإنتاجات التي خص بها شهر رمضان. مما أدى إلى طرح بعض التساؤلات حول الخطاب الجمالي والقيمي الذي تمرره سينمانا للناشئة.
إن الفيلم، على حد تعبير لويس براين Brian Lewis»، ليس مجرد فن، بل هو أيضا خطاب ولغة في نفس الآن»(6). فهو محمل بشتى أنواع الإشارات، والعلامات، والدلالات، والمواقف، والتوجيهات التي تمارس سلطة على المشاهد مهما كان عمره ومستواه الفكري. مما يجرنا لإعادة النظر في مقاربة الإنتاج والتلقي الفيلمي بالمغرب. ذلك أن أغلب المتحدثين ‘الشيوخ’ ليسوا نقادا سينمائيين ولا علاقة لهم بالفن، غير أن رأيهم يحترم، على اعتبار أنه موقف نابع من متلق يحاول تحديد ما يرغب فيه ويبدي رأيه المستند لمعايير قيمية وليس بالضرورة جمالية.
غير أن مؤشر عدد المشاهدات يضع المنتقدين في موقف حرج. فكيف يكون الفيلم غير مرغوب فيه وفي الوقت نفسه يحقق رقم مشاهدات كبيرة؟ قد نفهم أن الفضول المعرفي يمكن أن يحرض على المشاهدة، لكن هل يحرض أيضا على إعادة المشاهدة؟ حتى نكون موضوعيين، فإن التعبير الأول والأصح الذي ينبغي على المتلقي المغربي نهجه هو مقاطعة ما يراه غير مناسب له سواء بالمنطق الديني أو بالمنطق الفني.
ويعنينا هنا – في محاولة للرقي بالتلقي السينمائي – أن نؤسس لمنطق التلقي بمعنى أمبرتو إكو للمفهوم. ذلك أن ‘المتلقي النموذجي’ هو ذلك المتلقي الذي يتعين عليه القيام بمهمتين أساسيتين: أولهما، فهم الظاهرة المطروحة من خلال العمل الفني والتموقف منه بشكل عملي. ثانيا، التأطير والتوعية ثم استشراف أفق للفيلم. آنذاك نكون أمام مشاهدة سينمائية واعية تفرض ذاتها وتؤتي أكلها.
وإننا هنا لا ننفي الرؤى الجمالية التي تزخر بها الصورة السينمائية لهذه الأفلام، حيث التنوع في اللقطات، والمآخذ، وحركة الكاميرا، والمونتاج، والملابس، والديكور، والموسيقى، وغيرها من محددات الخطاب الجمالي الفيلمي. فلو لم تكن الأفلام مطبوعة بجوانب جمالية لما حظيت بمتابعة واسعة النطاق. زد على ذلك أن السلطة التي تمارسها الصورة السينمائية على المتلقي لا تفسح له المجال للتفكير في إمكانات أخرى خارج نطاق محتواها الجمالي والأيديولوجي.
وهذا ما عبر عنه تيسرونTisseron في سياق تعريفه للصورة العنيفة حيث يقول إن: «الصورة العنيفة هي، بكل بساطة، كل صورة تدفع بالمتلقي إلى القيام بسلوك ما، بالرغم من أن هذا السلوك ليس عنيفا (…) إنها تُحْدث تأثير ‹الدفع للعمل’ Pousser à agir» (7). غير أن زمن عرض هذه الأفلام لم يكن اختيارا موفقا.
هذه الانتاجات السينمائية المغربية، رغم أنها تحمل من الجمالية ما تحمله، غير أنها تتصادف مع سيناروهات قديمة من الفيلموغرافيا المصرية. فمسلسل ‘لمكتوب’ مثلا يتصادف مع الفيلم المصري الاستعراضي «خلي بالك من زوزو» الذي أخرجه حسن الإمام وبطولة سعاد حسني وحسين فهمي. هذا يدفعنا إلى تأكيد أزمة الكتابة السينمائية بالمغرب، والأسلوب الفيلمي، والخلفيات الإيديولوجية، بالإضافة إلى الأفكار التي تروم هذه الأفلام ترسيخها في المتلقي المغربي خاصة الطفل.
هنا نكون أمام إشكال كبير يفرض ذاته، مفاده أن السينما والتلفزة المغربيتين تمارسا التربية في غياب شبه تام للأسرة والمدرسة، خاصة في غياب إدماج حقيقي للفن والتربية الجمالية بالمدرسة المغربية (8) على اعتبار أن القيم الإنسانية في الحياة لا تتحقق إلا من خلال حياة «طافحة بالجمال» (9). لكن أية تربية هذه التي سيمارسها مثلا فيلم ‹مول البندير’ أو فيلم ‹لمكتوب›؟ إنها التربية بالقدوة: التربية بمول البندير الذي لم يحقق شيء بمهنته كأستاذ حيث كان مذلولا مخذولا فمَنّ الفن عليه بمهنة مرموقة حقق بها كل ما يحلم به؛ أم التعليم بالشيخة التي يحاول الفيلم تقديمها على أنها البريئة الصادقة المضطرة لهذا الفن بإكراه لعدم وجود البديل.
وهذا يتعارض تربويا مع القيم التربوية والتوجيهات الرسمية التي تنص على ترسيخ قيم الدين الإسلامي السمح وتقدير الأنا والوعي بالذات وبالآخر؛ كما أنه يتعارض مع القيم الفنية التي لا تقبل ممارسة الفن خارج الدوافع الذاتية والحوافز النفسية في معزل عن الاسترزاق المهين والسمسرة بالفن المشين.
إن أشد ما نخشى عليه أن تستمر السينما المغربية في المساهمة في لعبة تبليد المتلقي المغربي وخاصة الطفل؛ ذلك عبر تعليب الفكر وتقديم قوالب إيديولوجية جاهزة لا تستجيب لحاجياته ولا لحاجيات مرحلته العمرية. فأغلب الأفلام التلفزية الرمضانية لا تأخذ الطفل بعين الاعتبار خاصة أن مرحلته النشوئية لا تخوله التموقع بالنسبة للآخر، أو الأنا الآخر، المنبعث عبر الشاشة البراقة –السينما / التلفزة- والتخلص من الاسقاط أو الانتباه العفوي (10) بتعبير ميتريJ. Mitry ، الذي يمارسه الطفل على ذاته؛ بحيث إن «الآخر الذي يشاهده الطفل يتحول إلى ‹أنا›، التي هي ذاته هو» (11).
بالتالي فإن الطفل مُعرّض، أو لنقل: إنه مُهيأ بشكل مسبق، للتأثر بمختلف الانفعالات والصراعات التي يشاهدها. غير أن مستوى التأثر يختلف من طفل لآخر، حيث يتمظهر هذا التأثير إما عبر السلوكات الظاهرية المباشرة، أو عن طريق المواقف والأحاسيس والانفعالات الداخلية (12). وقد فصّلنا ذلك في كتابنا الموسوم ب «خطاب السينما المغربية وتخوم التربية: بحث في الجماليات».
إننا لا ننفي كون ‘الشيخة’ جزءا لا يتجزأ من واقعنا المغربي؛ غير أن هذا لا يبرر تناول موضوعها المتحيز وعرض المسلسل في شهر مقدس وفي زمن ذروة المشاهدة. هذا يجعلنا نستحضر موقف تولستوي الذي كان أشد متشدد في تموقفه مع الفن بالمنطق الأفلاطوني المنفعي حيث جزم بالقول إنه لو خُيِّر بين وجود الفن الحديث كله، صالحه وطالحه، وعدم وجود فن على الاطلاق، فإنه “يفضل ألا يكون هناك فن على الاطلاق” (13).
لذلك فمراعاة السياق الاجتماعي قد يكون صلة وصل إيجابية تجعل من الفن فاعلا في المجتمع كما يكون المجتمع فاعلا في الفن في علاقة تكاملية يشوبها التأثير والتأثر. وهذا ما تعبر عنه دجيسيكا إفانسJessica Evans بقولها إنه: «من الصعب تخيل الفن من دون سياق سياسي، أو إيديولوجي، أو اجتماعي» (14).
في تحليلنا لجدلية ‘الشيخ’ و’الشيخة’ في السينما المغربية، نؤكد أننا بصدد التعامل مع إشكال دائم دوام الفن. صراع بين الإنتاج والتلقي، صراع في الفن جديده وقديمه، صراع بين الرؤى والمواقف الفنية والاجتماعية. بالتالي فلا مجال لأحكام القيمة ولا لتوصيم الأعمال الفنية. غير أننا نوجه دعوة للقيمين على الشأن الفني، والسينمائي خاصة، بإعادة النظر في إشكالية القيم الممررة من خلال الفيلموغرافيا المغربية والتحديد الهوياتي لجمالياتها ولأيديولوجيتها. كما ندعو المسؤولين بالقطاع التربوي إلى العمل الجاد من أجل تنزيل فعلي للتربية على الصورة كمدخل للتربية الجمالية؛ وذلك لترشيد التلقي الفني والتذوق الجمالي.

 

مهتم بمجالي المسرح والسينما، صدر له مؤخرا كتاب «خطاب لسينما المغربية وتخوم التربية: بحث في الجماليات»

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) حسن علي؛ فلسفة الفن: رؤية جديدة؛ التنوير للطباعة والنشر بيروت، الطبعة الأولى 2010؛ ص 35
(2) أبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري؛ إقامة الدليل على حرمة التمثيل؛
(3) Women and Marxism: Trotsky (Vodka, the Church, and the Cinema – 1923) (marxists.org)
(4) Gaston Haustrate; Guide du Cinéma : Initiation à l’histoire et l’esthétique du Cinéma, Tome 1 , Imprimerie Lienhart à Aubenas 1992, P 70
(5) فوجل أموس؛ السينما التدميرية؛ ترجمة أمين صالح، دار الكنوز الأدبية بيروت، الطبعة الأولى1995، ص9
(6) Jean Mitry ; The Aesthetics and Psychology of the Cinema; Translated by Christopher King; Indiana University Press, 2000, P viii
(7) Serge Tisseron; Enfants Sous Influence: Les écrans rendent-ils les jeunes violents?; Armand Colin/HER, Paris 2000; P18
(8) إسماعيل هواري؛ خطاب السينما المغربية وتخوم التربية: بحث في الجماليات؛ دار بصمة، مطبعة وراقة بلال؛ فاس 2022؛ ص96
(9) إبراهيم الحيسن؛ التربية على الفن: حفر في آليات التلقي التشكيلي والجمالي؛ منشورات عالم التربية؛ مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء؛ 2009؛ ص143
(10) Jean Mitry; The Aesthetics and Psychology of the Cinéma, Translated By Christopher King, Indiana University Press 1997; P202
(11) Mitz Christian; Psychoanalysis and Cinema: tha Imaginary Signifier; Op, Cit; P97
(12) إسماعيل هواري؛ خطاب السينما المغربية وتخوم التربية: بحث في الجماليات؛ مرجع سابق؛ ص63-64
(13) حسن علي؛ مرجع سابق؛ ص 38
(14) ديفد إنجلز وجون هغسون؛ سوسيولوجيا الفن: طرق للرؤية؛ ترجمة ليلى الموساوي؛ سلسلة عالم المعرفة؛ العدد 341 يوليوز 2007؛ ص101


الكاتب : إسماعيل هواري

  

بتاريخ : 19/05/2022