صدر مطلع السنة الجارية (2025) كتاب «القصر الكبير.. إضاءات بيبليوغرافية من الزمن الراهن»، وذلك في ما مجموعه 184 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب محاولة لتوفير أرضية علمية مناسبة لتقييم حصيلة المنجز العلمي والمعرفي الذي راكمه أبناء المدينة ونخبها الفاعلة في سياق اهتمامهم بتحويل وقائع التاريخ العريق لمدينة القصر الكبير إلى رافعة لتحقيق التنمية الثقافية المنشودة. وقد حرصنا في هذا العمل على التعريف بمجمل الإصدارات التي غطت الأربعين سنة الماضية في حدود ما تسمح به إمكانياتنا المحدودة في الرصد البيبليوغرافي وفي التتبع «اليومي» لمجمل ما تزخر به الساحة الثقافية المحلية للمدينة، مسترشدين – في ذلك- بتجربة جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، وعلى رأسها أعمال الأخوين محمد أخريف ومحمد العربي العسري، من موقع هذه الجمعية كإطار مدني استطاع أن يستثمر الأبعاد النبيلة للعمل الجمعوي من أجل التأسيس لعطاء راشد لا شك وأنه يؤسس لشروط عقلنة الفعل المدني غير الرسمي قصد تحويله إلى طاقة للمبادرة، وللتفكير ولتنظيم الاشتغال على الذاكرة الجماعية المحلية. وللاقتراب من سقف مضامين الكتاب، أقترح إعادة نشر الكلمة التقديمية ثم الخاتمة التركيبية، ففي ذلك اختزال لأهدافنا الكبرى التي وجهت جهدنا التنقيبي الذي أثمر هذا الكتاب.
تقول الكلمة التقديمية الواردة تحت عنوان «من أجل التأصيل للرصد البيبليوغرافي العلمي»:
تعرف ساحة النشر الثقافي والعلمي المرتبط برصد إبدالات ماضي مدينة القصر الكبير، حيوية كبيرة وغزارة استثنائية، قد لا نجد مثيلا لها في غالبية حواضر مغرب زماننا الراهن. وإذا كانت المدينة قد استطاعت تحقيق تراكم حضاري كبير خلال القرون الماضية على مستوى إشعاعها داخل امتداداتها الجهوية والإقليمية والوطنية والدولية، فإن المرحلة الراهنة تعرف عودة متزايدة لنخب المدينة ولمثقفيها من أجل إعادة مقاربة تاريخ المدينة من منطلقات متباينة وبحوافز أصيلة، يتداخل فيها الطموح العلمي مع هواجس الاحتفاء بالمكان وبرموزه وبوجوهه، ثم مع مستلزمات التنمية الثقافية المنشودة. في هذا السياق، أضحى العمل الجمعوي عنصرا موجها للكثير من الأعمال العلمية ذات الصلة، بل وتحول –في حالات عديدة- إلى أداة تأطيرية التقت عندها إرادات الارتقاء بمكنونات الذاكرة الجماعية إلى مستوى الأعمال القطاعية والمونوغرافية المتخصصة. ولا يمكن أن أمر في هذا المقام، بدون الإشارة إلى تجربة جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، من موقعها كإطار مدني احتضن «درس التاريخ» وارتقى به –محليا- إلى مجال الانشغال الآني وإلى مصاف العناصر المؤطرة لفعل التنمية البشرية المتوخاة. وداخل هذا الإطار المدني، تبلورت تجارب على تجارب، واغتنت اهتمامات على اهتمامات، وبرزت تيارات على تيارات، وتراكمت أعمال على أعمال.
ونكاد نجزم أن نخب المدينة قد راكمت أعمالا مجددة وبوتيرة سريعة بشكل أضحى مدخلا لإعادة ضبط العلاقة بين البحث الأكاديمي المجهري الصارم من جهة، وبين الانشغالات الجمعوية والمدنية المهووسة بسؤال الانتماء والتميز والهوية من جهة ثانية. وبغض النظر عن كل ما يمكن أن يقال عن حدود التقاطع بين هذا المجال وذاك، أو حول سقف الكتابات «العامة» المنفلتة من بين ثنايا الصرامة المنهجية الحديدية في التجميع وفي التصنيف وفي التدقيق وفي النقد وفي التفكيك، فالمؤكد أن تجميع رصيد المنجز الراهن يظل مدخلا لا يمكن تجاوزه في كل محاولات إنجاز السجل البيبليوغرافي التاريخي للمدينة. فالتراكم يظل فعلا مؤسسا لتوجيه البحث ولعقلنة الأسئلة، ثم لإعادة رسم الحدود والقطائع بين جموح الذاكرة الجماعية من جهة أولى، وبين صرامة الذاكرة التاريخية من جهة ثانية. فلكل مجال خصوصياته، ولكل حقل أدواته، ولكل عطاء أهدافه، ولكل حكم خلفياته. ومن تلاقي كل هذه العناصر، تنبثق «صنعة المؤرخ» التي لا تغفل أي شيء، ولا أي أثر، ولا أي شاهد، ولا أي محكي،… وذلك في سياق تجميع شتات المادة الخام، قبل إخضاعها لإواليات النقد التاريخي وفق أدواته الإجرائية المعروفة.
في سياق هذه الرؤيا المهيكلة للدراسة، يندرج هذا التجميع البيبليوغرافي الذي نتوخى من خلاله تحقيق هدفين متكاملين، يتمثل أولهما في تعزيز الدرس الأكاديمي بمواد مرجعية ظلت منفلتة من بين المتون «العالمة»، وثانيهما في تثمين جهود نخب الزمن الراهن ودورها في الارتقاء بالوعي التاريخي عبر تعميم الانشغال بأسئلته الكبرى المؤطرة لجهود استيعاب الحال والمآل.
لا تخضع اللائحة المقترحة لأي تبويب موضوعاتي، ولا لأي تصنيف كرونولوجي، بقدر ما أنها تركز على تقديم نماذج من الإصدارات، قصد تقريب عطائها من اهتمامات الباحثين والمؤرخين المتخصصين. ويقينا إن هذا العمل بتركيزه على التعريف بالمضامين، لا يتوخى تقديم قراءة نقدية موازية ولا سجلات تصنيفية عادية، بقدر ما أنه يروم وضع المادة الخام بين يدي الباحث المتخصص وتوسيع رحابة السؤال أمام تأملاته وخلاصاته ويقينياته المتوارثة. تنفتح هذه المواد على حقول البحث التاريخي المختلفة، من خلال البحث والتقصي الذي يغطي مجالات عدة، يتقاطع فيها الشأن السياسي مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ويجاور داخلها السؤال الثقافي انتظارات المدينة، وينفتح فيها مجال النبش على مجمل حقول التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر والراهن.
يقينا إن إعادة تقييم هذه النماذج المنتقاة، تسمح بتوسيع دوائر البحث والتدقيق، بشكل يمهد المجال للقراءات النقدية البديلة والكفيلة بإعادة الروح في هذه المضامين، عبر تشريحها وتفكيكها وتحويلها إلى أرضية ارتكازية للانطلاق في الدراسات المجهرية التخصصية. ويزداد هذا المنحى وضوحا، إذا أخذنا بعين الاعتبار كثافة الجزئيات التي اشتغلت عليها النخب المدنية لمدينة القصر الكبير، استنادا إلى رصيد هائل من الوثائق والشواهد المادية، وإلى أرصدة الروايات الشفوية المستخلصة من الاحتكاك اليومي مع الناس، وإلى تدقيق متشعب في أمهات المصادر التاريخية العربية الإسلامية والأجنبية ذات الصلة بماضي مدينة القصر الكبير العريق. باختصار، فتراكم التجربة يشكل نصا مفتوحا، بآفاق رحبة، وبأسئلة مركبة قادرة على تفكيك الكثير من التباسات التاريخ الراهن لمدينة القصر الكبير.
جديد البحث التاريخي المونوغرافي: القصر الكبير: إضاءات بيبليوغرافية من الزمن الراهن

الكاتب : أسامة الزكاري
بتاريخ : 17/02/2025