جديد البحث التاريخي المونوغرافي الوطني: القصر الكبير: التاريخ والمجتمع والتراث

 

تعزز مجال البحث التاريخي المجهري الخاص بماضي مدينة القصر الكبير، بصدور كتاب «القصر الكبير: التاريخ والمجتمع والتراث»، سنة 2022، ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، في ما مجموعه 468 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب -في الأصل- تجميع لمضامين الندوة العلمية التي احتضنتها مدينة القصر الكبير بين 20 و22 ماي من سنة 2016، حول نفس الموضوع، وأشرف الأستاذ محمد سعيد المرتجي على تجميع موادها وعلى تنسيق مداخلاتها وعلى إعدادها للنشر. ويمكن القول، إن العمل الجديد استثمار علمي لنتائج عقود ممتدة من البحث الرصين والمتأني في تحولات ماضي مدينة القصر الكبير، سواء داخل أسوار الجامعة والمنابر العلمية والأكاديمية المعروفة، أم بين صفوف الفاعلين المدنيين المحليين الذين استطاعوا التأسيس لسبل التأطير الجمعوي الراشد لقضايا الاشتغال على الذاكرة الجماعية لمدينة القصر الكبير.
لم ينزح الكتاب نحو الانبهار العجائبي بذكر حاضرة القصر الكبير في المدونات وفي المظان وفي البيبليوغرافيات الكلاسيكية والمجددة، ولم يطمئن للخلاصات المتوارثة بخصوص وقائع التطور الحضري لمركز أبيدوم نوفوم، ثم لتلاوين التسميات المتعاقبة، مثل قصر كتامة أو قصر عبد الكريم أو القصر الكبير… ولم يستكن لبريق الأمس ولتوهج الأدوار الحضارية التي اضطلعت بها المدينة داخل محيطها الإقليمي والجهوي الواسع، كما أنه لم ينح في اتجاه الاستحضار الاستنساخي لمعالم العطاء الجهادي خلال العهود الماضية عبر تحنيط أدوارها في وقائع حاسمة مثل معركة وادي المخازن سنة 1578م أو دورها في محاصرة الثغور التي احتلها البرتغاليون خلال القرنين 15 و16 الميلاديين مثل أصيلا وطنجة والعرائش، ولكنه -في المقابل- اختار مساءلة القيم التاريخية المتراكمة بعيدا عن الأحكام الجاهزة وعن التمثلات الحالمة. ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك، إلا ترسيخ نهج الوفاء للقراءة العلمية التشريحية المستندة إلى العدة الإجرائية المتعارف عليها أكاديميا، وذلك في مجمل عمليات الإنجاز، بدءً من اختيار القضايا موضوع الكتاب، ومرورا بطرق تجميع الوثائق والمظان واللقى، وتصنيفها وتحليلها، وانتهاءً بسبل استثمارها في الخلاصات القطاعية الخاصة بكل موضوع على حدى. لذلك، اكتسب الكتاب كل الجرأة لإثارة الرؤى المتضاربة في قراءة ماضي مدينة القصر الكبير، وفق منطلقات استندت إلى حقائق التشريح العلمي، ولا شيء غير ذلك. تقول مقدمة الكتاب بهذا الخصوص: «تَوفٌر مجموعة من الكتابات التي تتعلق بتاريخ المدينة ومجتمعها وما ارتبط بهما من تغيرات، لم يُغْنِ جميع الجوانب التاريخية لأرشيف المدينة، فحظها من البحث العلمي لازال قليلا مقارنة مع أهميتها وعمقها التاريخي، مما يفرض طرح تساؤلات عميقة مرتبطة بتاريخ مدينة عريقة كالقصر الكبير بمقاربات مختلفة: مقاربات لا تركز فقط على الجوانب المشرقة أو تحتفي بالهوية التليدة، أو تروم اقتراح قراءة ذاتية انتقائية، أو تبرز تاريخا تحضر فيه فقط الروايات التاريخية الرسمية والمنتجة بالضرورة لمجموعة من الطابوهات. وقد اهتم بتاريخ المدينة مجموعة من المؤرخين والديبلوماسيين، تأرجح وصفهم بين المدح والذم، فمدينة القصر الكبير هي نفسها التي ألهمت دولاكروا بإبداع بعض لوحاته الشهيرة… متأثرا في ذلك بزيارته الديبلوماسية من طنجة إلى مكناس في مارس 1832 بمشاهداته للفروسية (لعب البارود كما جاء في كنانيشه) في ثلاثاء ريصانى، وإيقاعات موسيقى عيساوة… وهي نفسها المدينة التي وصفها شارل دي فوكو خمسين سنة بعد ذلك بأقبح مدن المغرب، فهي، وفق ما جاء في «التعرف على المغرب»، سيئة البناء، وما هي بكبيرة ولا محصنة، وهي التي ذكر صعوبة إيجاد غرفة للمبيت بالنسبة لرجل يهودي بها. فضلا عن وصفه للأعداد التي لا تحصى من اللقالق بسمائها، إذ لا يوجد منزل بلا عش لهذه الطيور، والتي يظن أن عددها يقارب أو يفوق عدد سكان المدينة…» (ص. 15).
وبخصوص السقف العلمي العام الذي اشتغل عليه القائمون على إعداد الكتاب، يقول الأستاذ محمد سعيد المرتجي في كلمته التقديمية: «يقترح الكتاب إذن تدقيق فهمنا لعلاقة مدينة القصر الكبير بمجالها وإبراز تاريخها واستخلاص سبل تدبير تراثها الثقافي، وذلك في إطار التكامل بين التخصصات المعرفية المختلفة. ويسعى لمقاربة مختلف الجوانب المختلفة المرتبطة بالتاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي لمدينة القصر الكبير ومجالها في مختلف الحقب التاريخية… كما ينشد هذا الكتاب إثراء الرصيد المعرفي حول المدينة وتعزيزه بدراسات متجددة، وتثمين جهود الباحثين المحليين ودورهم في الارتقاء بالوعي التاريخي لدى سكان المدينة الذين يرغبون في فهم هويتهم وثقافتهم. على أمل أن تخضع الدراسات السابقة لقراءة نقدية لمضمون ومحتوى البحوث والمناهج المستخدمة في إعداد وجمع المعلومات وفحص النتائج التي توصلت إليها، وأن تمتد آفاق البحث التاريخي على أوسع نطاق لتطال تيمات وإشكاليات جديدة مرتبطة بالتاريخ الاجتماعي والفكري والاقتصادي ونشر نتائج أعمالها…» (ص ص. 16-17).
في إطار هذا التصور العام، احتوى الكتاب على أعمال مجددة، ساهمت في إثارة الكثير من القضايا بخصوص تحولات ماضي مدينة القصر الكبير، مما ساهم في تعزيز حصيلة التراكم وفي فتح ممكنات هائلة أمام الانشغالات المستقبلية المهتمة بتطوير حصيلة المنجز المونوغرافي المحلي. ففي الدراسة الأولى، نجد نبشا لبلكامل البيضاوية حول مسميات القصر الكبير خلال عصور ما قبل الإسلام، ودراسة لكل من هشام الغرباوي والعربي اليونسي في شكل فرضيات حول المستعمرة الرومانية يوليا بابا كامبيستريس ومسألة توطينها بمدينة القصر الكبير. واهتم سمير أيت أومغار بالاشتغال على النقائش القديمة في مدينة القصر الكبير وذلك في تقصيه لصيغة المراوحة بين موقع الفقيه وموقع الإبيغرافي. وعادت رتيبة ركلمة للبحث في قضايا طوبونيميا القصر الكبير بين المصادر التاريخية واللقى الأثرية. وتناول أحمد الخاطب سير نماذج من علماء مدينة القصر الكبير خلال العصرين الوسيط والحديث، وأدوارهم المتميزة في ترسيخ الهوية المغربية. وفي نفس السياق، اهتمت نسرين الصافي بقضايا مساهمة المرأة المتصوفة في الإشعاع الثقافي لمدينة القصر الكبير من خلال نموذجي فاطمة الأندلسية وعائشة الإدريسية. وتناول خالد صقلي موضوع الريادة الصوفية والعلمية لعلماء الزاوية القصرية الفاسية خلال العصر الحديث، من خلال نموذج شيخ الإسلام وابنه سيوطي زمانه. وفي سياق مختلف، ساهم عمر لمغيبشي بدراسة في شكل ملاحظات حول التجارة والتجار اليهود بالقصر الكبير خلال الفترة المتراوحة بين القرنين 15 و19 الميلاديين، وساهم محمد أخريف بمادة توثيقية حديثة حول مساهمة منطقة القصر الكبير في حصار سبتة. أما أنس الفيلالي، فساهم بدراسة حول الأوبئة والأمراض والمجاعات بالقصر الكبير من بداية القرن 19 إلى نهاية عهد الحماية، واهتم رشيد يشوتي برصد مظاهر الوجود الألماني بمدينتي العرائش والقصر الكبير خلال سنوات الحرب العالمية الأولى بين 1914 و1918. وعاد محمد بنعتو للبحث في تحولات المجتمع القصري بين عمق الهوية واستراتيجية التأقلم والحداثة. وتوقف سعيد الحاجي عند الأدوار الثقافية والسياسية للنخب العائلية بالقصر الكبير خلال مرحلة الحماية من خلال نموذج عائلة الطود. واهتم كاتب هذا المقال بتقديم إضاءات بيبليوغرافية حول الانشغالات المدنية بالبحث في تاريخ مدينة القصر الكبير من خلال تجربة إصدارات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي. ورصد عبد اللطيف اسبيرتو التحولات التي يعرفها مجال الصناعة الحرفية بمدينة القصر الكبير في ظل واقع الأزمة. وفي نفس السياق، اهتمت دراسة رحمة الحريقي بواقع صناعة الفخار في القصر الكبير. كما توقفت دراسة خديجة اليونسي عند أشكال حضور قيم الإنسان والأرض في فن العيوع الغنائي. وختم محمد سعيد المرتجي مداخلات الكتاب بتقديم ورقة بحثية احترافية حول المشروع العلمي والثقافي الخاص بمتحف مدينة القصر الكبير.
وبكل هذه المواد الغنية والمجددة، استطاع الكتاب تقديم إضافات هامة لرصيد المنجز العلمي الخاص بماضي مدينة القصر الكبير، خاصة على مستوى ربط الجسور الأكاديمية الرفيعة بين حصيلة الدرس الجامعي من جهة، وبين مجموع الاهتمامات الثقافية الجمعوية والمدنية التي تبلورها النخب المحلية من جهة ثانية. ولا شك أن الكتاب، بهذه الجرأة المعرفية الأكيدة، يفتح الباب واسعا أمام إمكانيات هائلة لانبثاق رؤى مبادرة لاقتحام مجمل طلاسم ماضي مدينة القصر الكبير العريق، ولتحويل هذا الجهد إلى رافعة مركزية في جهود ترسيخ النهج العقلاني لقراءة هذا الماضي، باعتبار هذا الجهد ركيزة مركزية في كل التطلعات نحو تحقيق التنمية الثقافية المحلية المنشودة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 28/09/2022