جديد البحث التاريخ الوطني مولود عشاق يعيد تقليب صفحات إمارة برغواطة

 

 

يكتسي الحديث عن إمارة برغواطة الكثير من عناصر الحذر العلمي والتدقيق النقدي والصرامة المنهجية، ليس لأن الموضوع أضحى مثار الكثير من عناصر التجاذب المواقفي المرتبط بصراعات الهوية والأصل، ولا لأن المجال لا يزال بكرا ينتظر من يتصدى لسبر أغواره بروح علمية مخلصة في أدواتها النقدية، ولكن -أساسا- بالنظر لحجم التحامل الذي طال تجربة إمارة برغواطة باعتبارها واحدة من بين أبرز حركات إعادة بناء الذات الساعية للتأصيل لسبل تكون الدولة المغربية الوسيطية في سياق ارتدادات ظاهرة الفتح الإسلامي للشمال الإفريقي. لقد قيل الشيء الكثير عن إمارة برغواطة، واختلقت -حولها- الكثير من الأساطير ومن الافتراءات، وتضاربت – بخصوصها- سياقات التأويل والاستثمار. لم يقف الأمر عند الدول والسلالات التي نافست البرغواطيين في منطلقات شرعيتهم السياسية والمذهبية، بل انتقل التحامل «المبدئي» إلى طبقات المؤرخين والكتاب والعلماء والفقهاء، بل وامتد الأمر ليفرز ركاما هائلا من الترهات داخل السرديات الكولونيالية للمرحلة المعاصرة. وفي كل المستويات المتداخلة من الافتراء والتحريف، كانت الصراعات السياسية موجهة للموقف، وكان البعد المذهبي الذي ساهم في تأطير الصراع السياسي لمغرب القرن 8م عنصرا محددا للحكم على التجربة، ثم كانت سلطة الفقيه أو المؤرخ الرسمي أو الباحث الكولونيالي إطارا ناظما لثوابت منحى تبخيس تجربة برغواطة، أو لاستثمارها في إطار جهود تبرير المواقف الآنية، أو لتفسير حالات التشظي والانشطار داخل البنية المجتمعية المغربية للعصر الوسيط، بامتداداتها على التركيبة الإثنية والأنتروبولوجية والثقافية المغربية الراهنة.
وعلى الرغم من هيمنة هذا البعد الوظيفي على حصيلة البحث في تجربة إمارة برغواطة، مما خلف بيبليوغرافيا ممتدة جمعت بين الاجترار المواقفي الجاهز وبين الاستثمار الغرائبي الموجه، فقد عرفت ساحة النشر العلمي جهودا مسترسلة لإعادة تقييم التجربة وفق منطلقات علمية أصيلة، أعادت قراءة المتون التقليدية والمصنفات التاريخية الكلاسيكية وفق رؤى متحررة من ضغط القراءات الاستنساخية الجاهزة والتأويلات الافتراضية التي تسبق النتائج بعد تكييفها مع سقف الدراسة ومع أهدافها الكبرى. ونتيجة لتبلور هذا الحس النقدي التفكيكي، تعرف المرحلة الحالية تواتر صدور أعمال تأصيلية لتجربة التميز داخل تراكم المنجز العلمي المشتغل على إمارة برغواطة وعلى خصوصياتها وسياقاتها وإسهاماتها، مثلما هو الحال مع الأعمال الرائدة لكل من محمود إسماعيل في كتابه «حقيقة المسألة البرغواطية»، ورجب عبد الرحيم في كتابه «دولة بني صالح في تامسنا بالمغرب الأقصى»، وإبراهيم خلف العبيدي في كتابه «البرغواطيون في المغرب»، ومحمد الطالبي في كتابه «البربر والبرغواطيون: البدعة والمثاقفة والنزعة الوطنية»، وأحمد الطاهري في كتابه «المغرب الأقصى ومملكة بني طريف البرغواطية خلال القرون الأربع الهجرية الأولى».
في سياق هذا التوجه العلمي الأصيل، يندرج صدور كتاب «إمارة برغواطة بالمغرب الأقصى- دراسة في البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنية (من القرن 2ه/8م حتى نهاية القرن 6ه/12م)»، للمؤرخ مولود عشاق، مطلع سنة 2025، في ما مجموعه 335 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول عموما، إن الإصدار الجديد يشكل استثمارا علميا رفيعا لمجهود ممتد في الزمن، سعى إلى استرجاع ذاكرة إمارة برغواطة، وفق رؤى فاحصة نجحت في إعادة مقاربة السياقات العامة لتجربة برغواطة داخل امتدادها المجالي الواسع بمنطقة تامسنا، ثم من خلال إسهاماتها في إنتاج بنى اقتصادية واجتماعية وذهنية وسمت التجربة بحيثياتها المخصوصة وأضفت على ثناياها الكثير من الغموض، مما فتح الباب لبروز تأويلات موجهة ساهمت في طمس الحقائق والوقائع. يقول مولود عشاق في كلمته التقديمية، موضحا سقفه العلمي الموجه للدراسة: «تشعبت الدراسات، وتعددت الكتابات حول برغواطة سواء من جانب القدماء أو المحدثين، لكن أغلب ما كتب انصب بشكل عميق وكثيف على المسألة الدينية، ومن ثم أغفل الجانب الاقتصادي والاجتماعي في تاريخها، اللهم إلا بعض الشذرات المتفرقة، والشظايا المتناثرة التي وردت عرضا وفي سياق الأحداث العامة. وتبعا لذلك سيتم الاشتغال العلمي على جوانبها الاقتصادية والاجتماعية بنوع من المغامرة، لأن الباحث سيعاني في معاركته لهذا الموضوع، من خصاص مدقع، وفقر مهول، في مادة النصوص، والوثائق الضرورية التي يستند عليها كمرجعية أساسية في كتاباته. ومما يزيد الأمر غموضا وإبهاما ما تعرضت له إمارة برغواطة قديما وحديثا من تعتيم مقصود، وتضليل مكشوف، وتحامل مقذع، هذا على الرغم من دورها الفاعل في صياغة فصول من تاريخ المغرب الأقصى، سواء على مستوى الفعل المذهبي أو في ما يتعلق بمجريات التاريخ الجيو- سياسي. ولا غرو، فقد تأسست الإمارة في القرن 2ه/8م، واستمرت في التحدي والاستجابة على مدار زمني ينيف عن أربعة قرون، مشكلة بذلك حلقة أساسية تستحق المتابعة، والدراسة، والتحري والاستقصاء» (ص.5).
اختار المؤرخ مولود عشاق ركوب الرهان الصعب، بالعودة للنصوص الأصلية قصد بلورة رؤية تفكيكية تعيد تركيب الوقائع وتؤسس لمنطلقات علمية أصيلة في تشريح الافتراءات المتواترة التي دأبت على التشكيك في كيان الإمارة، وفي أصول أمرائها، وفي الطعن في عقيدتها وفي اختياراتها المذهبية. تجاوز مولود عشاق شح النصوص وتواري البنى الاقتصادية والاجتماعية الطويلة والممتدة خلف طبقات المحو والتحريف والتدليس والاتهامات الموجهة بغرض كان يؤدي -قطعا- إلى المحو من الذاكرة ومن ثوابت الانتماء، مثل الكفر والمروق والسحر والشعوذة،… ولتجاوز الأحكام النمطية الجاهزة التي أنتجت مثل هذه الأحكام، عاد مولود عشاق لاستقصاء وضعية المغرب قبيل ظهور إمارة برغواطة خاصة على مستوى التفكك المجتمعي والانهيار الاقتصادي والتمزق السياسي والصراع المذهبي الذي فتح المجال أمام بروز إمارة برغواطة. ولضبط الإطار العام لظروف ميلاد هذه الإمارة، اهتم المؤلف بالنبش في حقيقة التسمية، والأصل، والموقع الجغرافي، والخطوط العريضة للتطور السياسي، والتباسات العقيدة البرغواطية. وفي الفصل الثاني من العمل، اهتم المؤلف بتفاصيل البحث في البنية الاقتصادية لإمارة برغواطة، من خلال الأنشطة القطاعية المرتبطة بالفلاحة والصنائع والحرف والتجارة. وفي الفصل الثالث من الكتاب، قدم المؤلف نتائج تنقيباته حول البنية الاجتماعية والعقلية لإمارة برغواطة، من خلال قضايا مركزية في التنقيب، على رأسها توزيع الخريطة القبلية بإمارة برغواطة، والوضعية الديمغرافية للإمارة، وعناصر التفاوت الاجتماعي داخلها، ومظاهر انتشار العمل بالعرف القبلي داخل دواليبها، ثم توزيع مكونات حقل العقليات والذهنيات السائدة داخل إمارة برغواطة، بانعكاسات ذلك على مجمل أنماط تدبير المجال المحلي، ومواجهة الخصوم الخارجيين من باقي الإمارات الأخرى، وتدبير الحياة اليومية للفرد وللجماعة.
ولتعزيز نبشه العلمي الصارم، حرص المؤلف على إدراج سلسلة من الملاحق التفصيلية التي أضاءت الموضوع من عدة زوايا وأكسبت البحث في تفاصيله بعدا إجرائيا محترما، مثلما هو الحال مع العلاقات التجارية للإمارة البرغواطية، والتوزيع المجالي لبرغواطة حسب الإدريسي والحسن الوزان، وشجرة أمراء برغواطة، ولائحة مدن برغواطة وقراها ومراكزها الحضارية حسب الفحص الدقيق الذي قام به مولود عشاق في أمهات المصادر التاريخية الكلاسيكية. وبفضل ذلك، أمكن تقديم لائحة تصنيفية غير مسبوقة في دقة نبشها وفي شكل تقديم حصيلتها وفي توظيفاتها الطوبونيمية الخاصة بمجالات برغواطة. يتعلق الأمر بكل من مدينة معدن عوام، ومدينة السبيت، وقرية أم الربيع، وقرية تامسنا، ومدينة أزمور، وموقع بهت، ومدينة مازاغان، ومدينة تيكيت، وقرية أكسيس، وقرية إيغيسل، ومدينة أزرفة، ومدينة تفلفلت، وقرية مائة بير، ومدينة تاركا، ومدينة بولعوان، ومدينة قنط، ومدينة المدينة، ومدينة مرامر، ومدينة تيط إفوران، ومدينة عين الحلوف، وقرية مليلة، ومدينة المنصورة، ومدينة النخيلة، ومدينة تاغية، ومدينة أدندون، ومدينة أبسنتار، ومدينة تيمغيسين، ومدينة تمراكشت، وموقع أمسلاخت، وموقع تاملوكاف، ومدينة الغيط، وخندق هارون، ودشر سفيان، والمعمورة، وعين الشعراء، وقرية البروج، وقرية أنقال، ومدينة أنفا، ومدينة سلا، ومدينة فضالة، وقرية فنزارة، ومرسى آسفي.
وبصرامة المؤرخ المدقق، حرص مولود عشاق على إضفاء طابع نسبي على العديد من تخريجاته ومن خلاصاته، مما يعكس صرامته العلمية التي تعتبر الزاد النقدي الضروري لأي نبش تاريخي يتوخى الأمانة العلمية. ففي معرض حديثه عن الوضع الديمغرافي -على سبيل المثال- بمنطقة تامسنا في العهد البرغواطي، يقول: «تبقى المعطيات السكانية المقدمة محدودة الأهمية من حيث دلالاتها السوسيولوجية، فهي تخص المعطيات التي وردت بكيفية عفوية على رؤوس أقلام المؤرخين، أما تلك التي لم يتم ضبط أو الكشف عنها فستبقى مجهولة، وبالتالي فالمعطيات المقدمة نسبية» (ص.279). ولتقييم الخلاصات العامة للكتاب، يقول المؤلف: «نخلص القول أن هذا البحث أراد لنفسه منذ البداية أن يكون تأويلا، فهو إذن لا يدعي الحسم، والإتيان بالجديد، وعندما يعترف هذا البحث بكونه تأويلا للظاهرة موضوع الدراسة فإنه لا يغلق بابه على نفسه، وإنما يتركه مفتوحا لتواجهه تأويلات أخرى خاصة وأن الكثير من أسئلة البحث لا تزال مفاصلها، وأضلاعها ومكعباتها في أمس الحاجة إلى التفسير والتأويل والتعليل…» (ص.280).
لا شك أن هذه الروح العلمية توفر مداخل أساسية لإعادة توجيه البحث نحو بياضات ماضي إمارة برغواطة، ونحو طابوهاته التي حصَّنتها الإسطوغرافيات الكلاسيكية، العربية الإسلامية والكولونيالية، بطبقات سميكة من التحريف والتشويه، بلغ ذروته بإقصاء الإمارة من النسيج العام الناظم للدولة المغربية الوسيطية. أسئلة كثيرة ومتناسلة، يعود الفضل للمؤرخ مولود عشاق في إعادة طرحها وفي تمهيد المجال لاقتحام منغلقاتها، بعيدا عن أحكام القيمة المطلقة، واستثمارا للنفس العلمي الأصيل في تشريح بنى تكون الإمارات المغربية خلال العصر الوسيط.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 24/06/2025