جديد البحث الجغرافي الوطني: المدن العتيقة للشمال ورهانات التنمية

 

تعزز مجال الدراسات التاريخية والجغرافية الوطنية المتخصصة في تحولات الفضاء العام للمدن العتيقة بالشمال، بصدور كتاب جماعي غير مسبوق، تحت عنوان «المدن العتيقة بجهة طنجة- تطوان- الحسيمة (المغرب) وبإسبانيا المتوسطية: الأصالة والتحديات واستراتيجيات التنمية الحضرية»، وذلك ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، بمواد متنوعة ساهم بها باحثون متخصصون باللغات العربية والإسبانية والفرنسية، في ما مجموعه 544 من الصفحات ذات الحجم الكبير. وقد أشرف على تنسيق مواد الكتاب والإشراف على تخريج مضامينه الأساتذة نورالدين الشيخي وعبد العزيز بوليفة ومحمد العبدلاوي، في مبادرة يمكن اعتبارها ترسيخا لنهج شعبة الجغرافيا بجامعة تطوان، ليس -فقط- على مستوى تطوير الدرس الجامعي، ولكن -أساسا- من خلال الإشراف على إنجاز أعمال ميدانية متخصصة في رصد تحولات المجال العام لمنطقتي الريف وجبالة بشمال المغرب، وفي تشخيص إبدالات مكونات هذا المجال الطبيعية والبشرية والاقتصادية، في علاقة ذلك بشروط تحقيق التنمية المستدامة والمندمحة بعموم أصقاع منطقة الشمال. لدلك، أضحت منشورات شعبة الجغرافيا بكلية الآداب بتطوان، مرجعا لا يمكن تجاوزه -بأي حال من الأحوال- في كل محاولات استثمار خصوبة فضاء الشمال، لإنجاز دراسات قطاعية أو مونوغرافية مجهرية، خاصة وأن الأمر لم يكن -أبدا- منحصرا على مجال علم الجغرافيا في حدوده التخصصية الضيقة، بل اكتسب جرأة أكاديمية فريدة في الانفتاح على حقول علمية موازية عبر إدراجها في إطار دراسات نسقية بأبعاد منهجية وإجرائية ثرية، جعلت من شروط الانفتاح على عطاء «العلوم المرافقة» ركنا مكينا في الدراسات الجغرافية الحديثة، وخاصة بالنسبة للحقول العلمية المرافقة لعُدة البحث الجغرافي التخصصي، مثل علوم التاريخ والسوسيولوجيا والاقتصاد والبيئة.
ولتحديد معالم الأفق العلمي للكتاب موضوع هذا التقديم، نقتبس بعضا مما جاء في الكلمة التقديمية، حيث يمكن اختزال الإطار النظري الذي وجه هذه المعالم العلمية الأصيلة، في علاقتها بشروط تأهيل المدن العتيقة لمنطقة الشمال وتحقيق الإقلاع التنموي المنشود، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. فمما جاء في هذه الكلمة: «يتطلع هذا الإصدار الجديد الوقوف على أحد أهم مكونات الوسط الحضري (المدن العتيقة) ضمن المجال الترابي لجهة طنجة- تطوان- الحسيمة. ولكون هذا النوع من التعمير له مثيل في إسبانيا المتوسطية مع تأثيرات حضارية متبادلة منذ القدم بين الواجهتين الجنوبية والشمالية، فقد ارتأينا تقديم مقالات لمجالات شبيهة تاريخيا، وذلك للاستئناس والمقارنة والوقوف على أوجه الشبه والاختلاف وأهمية التحولات ليس إلا. ومرد اختيار موضوع الإصدار هذا، يرجع إلى كون المدينة العتيقة لم تعد سوى عنصر من مجموعة العناصر التي تتألف منها المدينة، يتقلص دوره، وتتقهقر قيمته بتعاظم الكتلة الحضرية الجديدة، الشيء الذي جعل تلك النواة تشهد تطورات شتى ومعقدة على سائر المستويات… أما اختيار جهة طنجة- تطوان- الحسيمة، فيعود إلى كونها تعرف تركزا مجاليا قل نظيره على مستوى التراب الوطني. فهي تحتضن سبع مدن عتيقة مختلفة الامتداد والحجم والأهمية… وكلها تطرح تحديات تجعل منها مجالات حضرية لا يمكن تغييبها في أي استراتيجية للتنمية الحضرية الشاملة للمدن التي تنتمي إليها…» (ص ص.7-8).
في هذا الإطار، نجحت مداخلات الكتاب في تقديم قراءات تشخيصية فاحصة، مستندة إلى عمق تاريخي قطاعي دقيق، ثم إلى رؤى استراتيجية لتحديد الانتظارات ولضبط الأولويات ولعقلنة أشكال التدخل. في هذا السياق، ساهمت رجاء بعيوي بدراسة حول التحولات الاجتماعية والاقتصادية والمجالية بالمدينة العتيقة لوزان. وقدمت شيماء صالح الرحموني دراسة حول المدينة العتيقة لطنجة، بين عمق الهوية وإشكالية التفاوتات السوسيو-مجالية ضمن المنظومة الحضرية. وتوقفت دراسة نورالدين الحايك عند واقع الصناعة التقليدية بالمدينة العتيقة لتطوان، بين التراجع والتثمين. وتناولت ألفة حاج علي واقع الحرف التقليدية كإرث وتراث حضاري، بين متطلبات التنمية الترابية وتحديات التسويق والعولمة، من خلال نموذج مدينة وزان. ورصدت دراسة مريم التليدي واقع السياحة بالمدينة العتيقة لشفشاون عبر تحديد عناصر الإمكانيات والإكراهات. وعاد محمد شوقي لاستقراء عطاء النصوص وصور الإشهار السياحي الخاصة بمدينة شفشاون والواردة بالموقع الإلكتروني للمكتب الوطني المغربي للسياحة. واهتم محمد أخريف بالتوثيق لجوانب من معمار المدينة العتيقة للقصر الكبير، وتتبع كاتب هذه السطور تحولات مجال المواقع الأثرية ومحدداته التاريخية والقانونية بفضاء مدينة أصيلا. وتتبعت فاطمة بوشمال واقع مدينة وزان العتيقة زمن الحماية الفرنسية بين رد الاعتبار وتخطيط المركز الحضري الأوربي. وتناول محمد بنعتو مسألة تدبير الموروث العمراني بالمدن العتيقة بالمغرب. وقدمت دراسة جواد الحمري قراءة في التراث المعماري بالمدينة العتيقة لأصيلا، بين مظاهر الغنى والتنوع وتحديات المحافظة والتثمين والتوظيف في التنمية. وعاد محمد بنعتو في دراسته الثانية لإثارة قضايا حكامة الموروث التقليدي الحضري بعدوتي القصر الكبير، متتبعا مظاهر الإهمال الذي طال المحتوى الحضاري، وراصدا لإمكانيات التدخل في إطار التنمية الترابية. وأنهى كل من بلال الزروالي ومحمد العبدلاوي القسم العربي من الكتاب بدراسة حول قضايا التأهيل ورد الاعتبار لمدينة تطوان العتيقة.
وفي القسم الفرنسي من الكتاب، نجد دراسة لميمون هلالي ومحمد التمسماني حول تطور فضاء المدن العتيقة لطنجة وتطوان وشفشاون باعتبارها مجالات الإبداع الفني والتشارك الاجتماعي والثقافي، ثم دراسة كابينوبونسيهيريرو حول استراتيجيات إعادة الاعتبار للمدن العتيقة ذات الأصل العربي في مدن المجموعة البلنسية (إسبانيا)، من خلال إثارة الإشكالات الكبرى المرتبطة بالتحولات الطارئة على المراكز التاريخية الكبرى. أما في القسم الإسباني من الكتاب، فنجد دراسة لخوان كارلوس مروتومرتوسوإيدابينوسنافاريتي وكواسي جوزيف كونان وكواسي نوكيس كواسي حول تطور المدن العتيقة لمملكة غرناطة القديمة من موقعها كمجالات محورية لتعزيز السياحة الثقافية، ثم دراسة لأرناوكامبس كير وجوان فيسينتي روفي قدمت حصيلة أربعين عاما من السياسات الحضرية في المركز التاريخي لمدينة جيرونا (كاتالونيا- إسبانيا)، عبر تتبع مظاهر التحول من الاضمحلال إلى عناصر التجديد وآفاقه.
وبهذه المواد الغنية والمتنوعة، أمكن تقديم نتائج آخر الاجتهادات التأصيلية المرتبطة بجهود تثمين واقع المدن العتيقة بالضفتين المغربية والإيبيرية، من خلال الرؤى القطاعية المتقاطعة المشتغلة على أرصدة البحث التاريخي أولا، وعلى نتائج البحث المجهري الميداني ثانيا، ثم على عطاء الدراسات القطاعية المتخصصة في الحقول العلمية ذات الصلة بقضايا التعمير، قديما وحديثا ثالثا. وبذلك، فتحت مضامين الكتاب الباب واسعا أمام الإمكانيات الرحبة لعودة الروح للمدينة العتيقة لمدن الشمال، باعتبارها «كائنا حيا» يكتسب كل عناصر التكيف مع شروط التنمية الثقافية المؤطرة لمجمل مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمراكز الحضرية الكبرى لمنطقة الشمال المغربي.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 24/08/2024