يعتبر الدكتور عبد العزيز السعود واحدا من أبرز مؤرخي المغرب الراهن، اشتغالا على تفاصيل الذاكرة الأندلسية في سياق تراكماتها التاريخية المتقاطعة مع مجمل حلقات التاريخ المغربي المديد. وتعود أهمية العمل الذي أنجزه الأستاذ السعود إلى قيمة زاده المعرفي المرتكز إلى أمهات المصادر الأصلية، العربية الإسلامية والإسبانية الإيبيرية، إلى جانب زاده المنهجي الذي بلور من خلاله أسئلته النقدية التي أطرت مجمل أعماله ذات الصلة بتاريخ الأندلس وبامتداداته داخل الواقع المغربي القائم.
لا يتعلق الأمر بكتابات تجميعية ببعدها التقني التسجيلي الخالص، ولا بقراءات مفرطة في حماسها في الدفاع عن نوستالجيا «الفردوس المفقود»، بقدر ما أن التجربة اغتنت بمعرفة جيدة ودقيقة بخصائص التطورات المجالية فوق ضفتي البحر الأبيض المتوسط الشمالية والجنوبية، خاصة وأن الأستاذ السعود ظل حريصا على العودة إلى النصوص القشتالية الأصلية، وتجاوز ذلك بخوض غمار إنجاز ترجمات عربية راقية لأعمال مرجعية ذات صلة بالموضوع، مثلما هو الحال مع ترجمته لكتاب «تاريخ ثورة الموريسكيين وطردهم وعواقبه على إسبانيا» لخوسي مونيوث غفيريا، أو مع ترجمته لكتاب «حروب غرناطة الأهلية» لخينس بريث دي هيتا، أو مع ترجمته لكتاب «تاريخ ثورة الموريسكيين في غرناطة وعقابهم» للويس دل مارمول كربخال، أو مع كتاب «الهجرة من غرناطة إلى تطوان» لغييرمو غثالبس بوسطو.
في سياق هذا الاهتمام الموصول بخبايا التاريخ الأندلسي، يندرج صدور الكتاب الجديد للأستاذ عبد العزيز السعود تحت عنوان «نظريات غربية عن فتح الأندلس»، مطلع سنة 2025، وذلك في ما مجموعه 203 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويوضح المؤلف الأفق العام الذي وجه عمله موضوع هذا التقديم، قائلا: «أثارت مسألة فتح الأندلس من قبل العرب أو المسلمين عام 72ه/711م كثيرا من النقاش سواء داخل إسبانيا أو خارجها، وليس بعيدا زمنيا أن تاريخ الفتح العربي للأندلس كما تناوله المؤرخون الإسبان أنفسهم كان مهووسا بالبحث عن هوية غير ملتبسة ، ومصاغة من ماضي ما قبل دخول الإسلام إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. وكانت أبرز التيارات في التاريخ الإسباني قد تبلورت خلال النصف الثاني من القرن العشرين حول المواقف المتعارضة التي تبناها إسمان شهيران اختارا لمنفاهما أمريكا اللاتينية طوعا وكرها، وهما كلاوديو سانشث ألبرنوث وأمريكو كاسطرو. وقد اقترح كل منهما تحليلا للتاريخ الإسباني وأصدر كلاهما أيضا لدى مواجهة مسألة الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية حكما على التأثير الذي يمكن أن يكون أحدثه في خلق «اللغز» أو «الواقع» الإسباني…» (ص.3).
انطلق كلاوديو سانشيث من ثوابت نظرية تعتبر الفتح الإسلامي دليلا على مأساة حقيقية دمرت مستقبل شبه الجزيرة الإيبيرية ونسفت المكونات الحميمية لتكون المجتمع الإسباني.
وفي مواجهة هذا الرأي، دعا أمريكو كاسطرو إلى بلورة قراءة جديدة للتاريخ الإسباني بشكل متحرر من أصنام التفكير الإسباني التقليدي المنغلق على يقينياته والمطمئن لمسلماته، إذ ظل يؤكد على أن نشأة إسبانيا نفسها تم على أساس إفرازات تناقضات المشكل الاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي للطوائف الثلاث المكونة للدولة. لذلك، ظل يصر على أن دخول المكون الإسلامي إلى حلبة التدافع الإسباني ظل يختزل لحظة الولادة الحقيقية لدولة إسبانيا، كهوية وكمآل وكانتماء.
ولتفصيل الحديث حول هذه الخلاصات الكبرى للأطروحتين المشار إليهما أعلاه، حرص عبد العزيز السعود على توزيع مضامين بحثه بين محورين اثنين، اهتم في أولهما بمناقشة الأطروحة المركزية ثم نقيضها الفكري، واهتم في ثانيهما بتقديم قراءة نقدية لنقائص المصادر والإستوغرافيات الأصلية، الإسبانية والعربية. ويمكن القول إن مضامين الكتاب، قد سمحت بمقاربة وجهات نظر متباينة في التعاطي مع حادثة الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس، ليس بترديد خلاصات المضامين، ولكن -أساسا- بتفكيك السرديات وإبراز خلفياتها وأبعادها وسياقاتها المرتبطة ببنية العقد التي هيمنت على العقل الإسباني ووجهت المخيال الجماعي الإيبيري نحو أحكام «سهلة» ربطت بين انهيار الحلم القوطي وبين «الغزو» العربي الذي دمر كل شيء، بعد أن أوقف سياق التطور الحضاري المزعوم بشبه الجزيرة الإيبيرية.
وبنفس القدر من الجرأة الفكرية والوضوح النقدي، أعاد الأستاذ عبد العزيز السعود قراءة المتون العربية المواكبة لحدث فتح الأندلس، استنادا إلى عدة منهجية محترمة، على مستوى طرق تصنيف الإستوغرافيات أولا، وقراءتها نقديا ثانيا، وإبراز بياضاتها ثالثا، ثم إعادة توظيف خلاصاتها ونتائجها بعد إخضاعها لأدوات النقدين الداخلي والخارجي رابعا.
باختصار، يقدم كتاب «نظريات غربية عن فتح الأندلس» حصيلة جهد أكاديمي رفيع في تطويع المادة البيبليوغرافية ذات الصلة بموضوع الدراسة، وفي ذلك عمل تأصيلي لا شك وأنه يعيد ترتيب إواليات الاشتغال حول عمقنا الأندلسي وحول حلمنا الأندلسي وحول تأثيرنا الأندلسي، بكل أصقاع شبه الجزيرة الإيبيرية. يبدو أن الأستاذ عبد العزيز السعود قد نجح في اختراق حقل طابوهات الكتابات الإسبانية الاستنساخية المنشغلة بهوس شيطنة الفاعلين الرئيسيين في واقعة الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس.
لقد أصبح ميلاد إسبانيا الحديثة مشكلة عربية إسلامية، وكان لابد أن يقع ما وقع سنة 711م حتى يُعاد بناء عناصر اللحمة المتنافرة للمكونات العرقية والهوياتية لدولة إسبانيا الحديثة، من منطلق محاربة «الكفار» الغزاة والانتصار لقيم الحضارة الغربية الأوربية. وفي ذلك التفاف على جوهر الكثير من منغلقات الانسجام المجتمعي والتدافع الهوياتي الذي لايزال يطبع المشهد العام بإسبانيا إلى يومنا هذا.


