جديد المؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش .. أسئلة التاريخ الراهن وحقوق المرأة

تعرف ساحة تلقي المعرفة التاريخية ببلادنا، اهتماما متزايدا بالانفتاح على أسئلة التاريخ الراهن، وذلك على مستوى أدواته الإجرائية في البحث وفي التنقيب، وعلى مستوى أسئلته المهيكلة لسياقات السرد والتحليل، وعلى مستوى آفاقه النقدية المتشعبة الكفيلة بإنتاج معرفة تاريخية مكتسبة لعناصر الاحترام الأكاديمي المنشود. ونتيجة لذلك، عرفت ساحة النشر ببلادنا توالي صدور العديد من الأعمال المرجعية والتأسيسية ذات الصلة بالموضوع، ساهم بها مؤرخون ومهتمون من مواقع مختلفة وبمنطلقات متكاملة، وأحيانا، برؤى متضاربة بتضارب القراءات الموازية لمسارات تطور الكتابة التاريخية المعاصرة، داخل المغرب وخارجه.لقد أصبح للمجال رواده، بل ولِنَقُل متخصصوه، وانعقدت سلسلة من الندوات العلمية الهادفة إلى تجميع نتائج البحث والتفكير حول الموضوع، وظهرت اجتهادات تأصيلية استطاعت وضع الكثير من قواعد الانطلاق في بناء المعرفة الراشدة بالخبايا المنهجية والإبستيمولوجية الخاصة بموضوع الزمن الراهن، مثلما هو الحال – على سبيل المثال لا الحصر- مع الخطوات الجريئة التي أضحت تنتجها الجامعة المغربية من خلال عطاء أسماء فاعلة نجحت في وضع القواعد الإجرائية للاشتغال على الموضوع وعلى تلاوينه الجاثمة على الواقع المعاش، من قبيل الأعمال الأخيرة للأساتذة عبد الأحد السبتي، ومحمد حبيدة، والطيب بياض…
ولعل من حسنات هذا التوجه العلمي الأصيل، بداية تحرره من ثقل الواقع ومن حساسية انخراط المؤرخ في الإجابة عن انتظارات «الجمهور»، في مقابل انفتاحه على مواد وثائقية «بديلة» لا عهد للمؤرخ التقليداني بها، وإعادة تثمين ذهنيات قراءة هذه المواد، بشكل يحفظ للمؤرخ ضوابط عزلته العلمية الضرورية تجاه محيطه وتجاه تفاعلات هذا المحيط، ثم اختراق حدود الزمن لاكتساب القدرة على الخوض في خبايا قضايا ماضية لازالت تفاعلاتها وحيثياتها تجثم بكل ثقلها على الواقع المعاش. ويبدو أن مؤرخ الزمن الراهن المغربي أضحى أكثر ميلا نحو بلورة قراءاته «المحايدة» تجاه الأطراف الفاعلة في الأحداث، على مستوى الموقف وعلى مستوى التحليل، ثم -أساسا- على مستوى جهود التنظير لسبل عقلنة التحول في الزمن وفي المجال وفي الذهنيات الجماعية، في سياق تعزيز وظيفة المؤرخ وصنعته الهادفة للارتقاء بالمعرفة التاريخية الضرورية لرسم التحولات الإيجابية للدولة وللمجتمع في الحال وفي المآل.
لقد استطاع مؤرخ الزمن المغربي الراهن احترام المسافة الضرورية تجاه أحداث الواقع، قبل أن ينخرط فيها قارئا وفاعلا ومؤثرا وموجها. وبلغ الأمر أجلى مستويات التعبير عنه، بسعي الجميع، دولة وفاعلين ومجتمع، إلى تعزيز وظائف المؤرخ في التفكير في التحولات المستقبلية، حتى لا يتكرر ما وقع من مثبطات الزمن الماضي، فكان الإصرار على ضمان حضور صوت المؤرخ داخل دهاليز «هيئة الإنصاف والمصالحة» كضمير جمعي لترتيب نجاعة الانتقال النوعي على مستوى مجالات حاسمة تهم مستقبل البلاد، مثل قضايا الانتقال الديمقراطي، والحريات الأساسية، وحقوق الإنسان، وطي ملف سنوات الجمر والرصاص،…
في سياق جهود تبلور هذا التوجه العلمي الأصيل داخل توجهات الكتابة التاريخية الوطنية، يندرج صدور كتاب «الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن بين المرجعية الإسلامية والمواثيق الدولية»، مع عنوان فرعي تفصيلي: «حوار مجتمعي في ضوء خطة إدماج المرأة في التنمية ومدونة الأسرة»، للمؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش، عن دار الأمان بالرباط، سنة 2024، في ما مجموعه 279 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويعتبر المؤلف واحدا من أبرز رواد البحث التاريخي الوطني الراهن، بإسهامات جمة على مستوى تطوير الدرس الجامعي المعاصر، وعلى مستوى تجديد أسئلة البحث في مجالات تخصصه المتمحورة حول قضايا التاريخ الوسيط، ثم من خلال سلسلة إصداراته التي تجاوزت حدود تخصصه المعرفي الضيق بالانخراط في مجالات مجددة في حقل الدراسات التاريخية المعاصرة، مثل قضايا الفقر والمهمشين وتاريخ الذهنيات وتحولات الربيع العربي… ويمكن القول إن الكتاب موضوع هذا التقديم، يُشكل امتدادا لمسار تشعب اهتمامات الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش، من خلال اكتسابه الجرأة العلمية على اختراق حقل طابوهات ظل يُرخي بثقله على تفاصيل الواقع المغربي القائم إلى اليوم. يتعلق الأمر بالنقاش الحاد الذي طغى على الساحة الوطنية عقب إصدار حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي لمشروع غير مسبوق لإعادة مقاربة قضايا المرأة والأسرة، سنة 1999، أطلقت عليه اسم «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، الأمر الذي أثار انقساما حادا داخل المجتمع وخلف تداعيات وملفات لازال الحسم بخصوصها مؤجلا إلى يومنا هذا. وأنتج هذا الأمر فرزا واضحا بين معسكر القوى المحافظة داخل الدولة والتنظيمات الإسلامية التعبوية من جهة، وبين معسكر التيارات الحداثية بتلاوينها المختلفة من جهة ثانية. وهو الفرز الذي كانت له الكثير من الخبايا التي ظلت متوارية خلف ستار الأحداث، وخاصة على مستوى صناعة المواقف والتعبئة والتجييش حولها وتوجيهها، ليس فقط ضد «خطة إدماج المرأة في التنمية»، ولكن -أساسا- ضد المشروع الحداثي المستلهم لقيمه ولمنطلقاته من المنظومة الكونية لحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا.
اهتم الأستاذ إبراهيم القادري بوتشيش بالموضوع، من موقعه كمؤرخ حصيف وكباحث مدقق، احترم المسافة الزمنية التي تفصله عن الموضوع، فأبدع قراءة علمية متحررة من ضغط انزياحات المرحلة. يقول موضحا سياقات بحثه: «سينصب تركيزنا في هذا العمل على تحليل ومناقشة مشروع «خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، بوصفه مستندا تاريخيا، وجزءا من مشاريع المعارضة اليسارية التي ظلت على هامش التاريخ الرسمي، حتى أُتيح لها الوصول إلى سدة الحكم في أواخر مرحلة التسعينيات،… ومع أن المشروع لم يُعتمد كاملا بسبب مقاومة التيارات المحافظة، إلا أنه شكل المنطلق الأساسي لمدونة الأسرة الصادرة سنة 2004، ودفع بالحرية النسائية نحو مربعات متقدمة نسبيا. وأحسب ما يحمله من بُعد إبستيمولوجي في تطوير سؤال الحرية النسائية، وما تمخض عنه من نقاش فكري ما يجعله موضوعا دسما، يغري بالبحث والدراسة والتنقيب. في هذا المنحى إذن، سنسعى في ثنايا دراستنا إلى فحص مضمون خطة إدماج المرأة في التنمية، ودراسة السياقات الداخلية والخارجية لظهورها، قبل وضع ما تضمنته من أفكار حول الحرية النسائية على مشرحة المراجعة والنقد، وتشخيص وتحليل ردود الأفعال والمواقف المتولدة عنها، من خلال الوثائق والمستندات والأدبيات، وكافة أصناف الكتابات المدعمة أو المعارضة لها. كما سيتم تصويب النظر نحو ما تحويه من نصوص تهم حرية المرأة المغربية، ومتابعتها كلحظة تاريخية في الزمن الراهن… (كطموح) يُراودنا دائما، وهو ضرورة إنصات المؤرخ لنبضات مجتمعه، وجعل قضاياه في قلب اهتماماته، وإسماع صوته للرأي العام، حتى يكون له موطئ قدم في التفكير في قضايا الساعة…» (ص ص. 14-15).
في هذا السياق، اهتم إبراهيم القادري بوتشيش بإبراز الخطوط الكبرى لتمثلات الحرية النسائية كما وردت في مشروع «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، مبرزا مرجعياتها وعلاقاتها بثوابت الهوية المغربية، سواء على مستوى الاستراتيجية التي اعتمدها مناصرو «الخطة»، أم على مستوى ردود أفعال معارضيها من ذوي الانتصار للمرجعية الإسلامية. ولتوسيع دوائر البحث والتنقيب، سعى المؤلف إلى رصد ارتدادات مشروع «الخطة» داخل المجتمع وعلى مستوى العقليات الجماعية التي أثمرت المشاريع اللاحقة التي شملت الملفات الحارقة الخاصة بوضعية المرأة والأسرة. لقد نجح الأستاذ القادري بوتشيش في تقديم متن تركيبي، استثمر إطاره النظري في مقدمة الكتاب لتوضيح المدخل المنهجي الخاص بالبحث في قضايا التاريخ الراهن، مستلهما نتائج الجهد التأصيلي المبذول على هذا المستوى على الصعيد العالمي. لم يركن الأستاذ القادري بوتشيش للغة الوصفية السهلة، بل انحاز إلى صرامة صنعة المؤرخ على مستوى تدقيق الروايات، وتفكيك السياقات، وتحليل الوثائق، والاستماع لكل الأصوات، ليُقدم خارطة طريق للتقريب بين الصوتين الواقفين على طرفي نقيض، والمتجسدين في الإسلاميين والحداثيين. وتتلخص مبادرته التقريبية في تأسيس تحالف معرفي يقوم على المقاربة النسوية الإسلامية التأويلية التي تمثل مرجعية إسلامية «مستنيرة»، تتقاطع إلى حد كبير مع التيار الحداثي، من دون أن تمس بجوهر الشريعة الإسلامية، والاشتراك معا في معركة تغيير العقليات، والاجتهاد في النص لإنتاج وعي بديل بالحرية النسائية. ولعل خلف هذا المنزع العلمي الأصيل تكمن القيمة المعرفية الأكيدة لهذا العمل، على مستوى خلاصاته الكبرى، وعلى مستوى نجاحه في التأصيل لمنطلقات الاشتغال على منغلقات قضايا التاريخ الراهن، منهجيا وإبيستمولوجيا ومعرفيا، في أفق تجاوز منطق الاستقراء الحدثي للوقائع، والتحليق نحو رحابة فعل إنتاج المعرفة التاريخية القادرة على استيعاب عناصر الثبات والتغير داخل نظيمة الدولة والمجتمع المغربيين.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 29/06/2024