جديد دراسات الأدب الشعبي المغربي .. الأمثال الشعبية في شفشاون

 

أصبحت العودة المسترسلة لتنظيم الاشتغال على مكنونات التراث الشعبي الشفاهي الوطني تمارس غواية كبيرة على قطاعات الباحثين والمؤرخين والنقاد المغاربة المعاصرين. فللموضوع جاذبية مثيرة على الرغم من هيمنة نظرة التبخيس التي بلورتها النخب العالمة تجاه مضامينه، وتجاه أدواته وتجاه تعبيراته وتجاه فرادته، وتجاه آليات استثماره في قراءة التراث الإثنوغرافي المسؤول عن تكون المخيال الجماعي للمجتمع. وعلى الرغم من انفتاح جزء من باحثي المغرب المعاصر على خبايا الموضوع، فإن حصيلة الأعمال المنجزة ظلت حبيسة الرفوف، ولم تعرف تداولا واسعا ولا قبولا شاملا بين صفوف مؤرخي المشهد الثقافي الوطني، بإبداعاته وبتحولاته، ببنياته وبآفاقه.
كان لباحثي المدرسة الكولونيالية الفضل الكبير في الكشف عن الكثير من خبايا هذا الموضوع، وفي تعميم الاطلاع على كنوزه، خاصة بالنسبة للأعمال المنجزة في إطار «البعثة العلمية الفرنسية بالمغرب» بطنجة، و»الشعبة السوسيولوجية للشؤون الأهلية» بسلا، و»معهد فرانكو بتطوان». وبعد حصول البلاد على استقلالها السياسي، برزت أسماء وأعلام اهتمت بالموضوع، مبلورة أعمالا تأصيلية تُعد -إلى اليوم- أرضية مناسبة للبحث وللدراسة وللاستثمار، مثلما هو الحال مع أعمال الرواد محمد الفاسي، ومحمد المنوني وعباس الجيراري. وكان لابد من انتظار نهاية القرن الماضي، ليحتضن الدرس الجامعي أسئلة الأدب الشعبي وتعبيراته الفنية والجمالية والإنسانية المتداخلة، من خلال إنجاز أطاريح جامعية رفيعة أعادت تقييم أنماط التداول الشفاهي للآداب والفنون، وربطها بسياقاتها المجتمعية الفريدة، وبسيرورتها التاريخية الأصيلة، مثلما بلورته أطروحة الأستاذ حسن نجمي حول فن العيطة بالمغرب كعمل غير مسبوق في مجال اهتمامه، سمح بإعادة طرح أبعاد هذا الفن الشعبي الأصيل وفق رؤى تتجاوز الأحكام الجاهزة المتوارثة، في مقابل تأسيسها للقواعد الإجرائية الضرورية للتأصيل للدراسة العلمية لمخزونات التراث الأدبي والفني الشعبي، ولقيمه الرمزية الأصيلة.
في سياق هذا التوجه الأكاديمي الرفيع، يندرج صدور كتاب «الأدب الشعبي في شمال المغرب- دراسة للأمثال السائرة في شفشاون وربوعها»، للأستاذ محمد أملال، سنة 2022، في ما مجموعه 471 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول إن هذا العمل يستجيب لمطلب علمي أصيل، مرده إلى تزايد إدراك الباحثين لمخاطر حجم التقصير في توجيه الدراسات الأدبية والتاريخية والسوسيولوجية نحو التراث الإثنوغرافي الشعبي الذي أهملته الأعمال الإسطوغرافية التقليدانية، بعد أن وصمته بسمات الدونية والابتذال. وفي الواقع، فهذا التراث يحمل أنساق التفكير الجماعية، ومنظومة القيم الرمزية المحتضنة لمجمل التأثيرات الحضارية التي خضعت لها منطقة جبالة بالشمال، إلى جانب نظيمة السلوك والموقف التي ظلت تحدد علاقة الفرد بذاته أولا، ثم بمحيطه المباشر ثانيا، فبالامتداد الوطني والدولي ثالثا. وتزداد أهمية هذا المنحى بروزا إذا أخذنا بعين الاعتبار القيمة المعرفية والفنية لمضامين متون المحكيات الشعبية، مما لا يمكن الوقوف على تفاصيله بين ثنايا الكتابات «العالمة» المهووسة بجزئيات مسار النخب المهيمنة والسلط المتحكمة، سواء بالمركز أم بالأقاصي.
ولتوضيح الإطار العلمي للموضوع، يقول الأستاذ محمد أملال في كلمته التقديمية: «إن تناولنا موضوع الأدب الشعبي في شمال المغرب، وتحديدا في مدينة شفشاون وربوعها، يأتي استجابة لضرورة ملحة اقتضاها وعينا الأكيد بقيمة هذا الأدب، فهو عنصر مركزي ضمن المنظومة الفكرية والإبداعية التي تتشكل منها الهوية الحضارية لهذه المنطقة، وهو -بكل أشكاله وتجلياته- جزء من الذاكرة الحية التي تؤرخ للفئات المنسية، وتعبر عن إبداعيتها التي صمدت في وجه الأزمنة وقاومت الاندراس. كما يأتي بحثنا لهذا الموضوع، تحقيقا لوقفة موضوعية ومنهجية توخت الإسهام في إنصاف هذا الأدب، الذي ظل لفترات طويلة محط ازدراء وتحقير، على أساس أنه نتاج بدائي للفلاحين وللطبقات المهمشة، رغم أنه – حقيقة- لا يقل قيمة وفنية عن الأدب الرسمي، وأنه كثيرا ما شكل رافدا له…» (ص ص.13-14).
وللاستجابة لأفق هذا المطلب العلمي الأصيل، وزع المؤلف عمله بين أربعة فصول متكاملة، إلى جانب مدخل تمهيدي ومادة ختامية وتركيبية. اهتم في المدخل بالتعريف بمنطقة جبالة من خلال ملامح الأرض، والإنسان، والروابط الروحية، والمظاهر الإثنوغرافية المخصوصة. كما اهتم بتدقيق البحث حول خصائص تاريخ مدينة شفشاون من التأسيس إلى فترة الحماية الاستعمارية، مركزا على إبراز تركيبة المجتمع المحلي، وسمات الجالية الأندلسية المهاجرة وتأثيراتها على العادات والتقاليد والأمثال المحلية، سواء بالنسبة للمسلمين أم بالنسبة لليهود. وفي الفصل الأول من الكتاب، اهتم المؤلف بتحديد مفهوم «الأدب الشعبي»، قبل الانتقال إلى التأصيل لتعبيراته الفنية داخل الوسط المحلي لمدينة شفشاون وأحوازها، من خلال تشريح الحديث عن هذه التعبيرات وعلى رأسها فن العيطة الجبلية، وتراث «عروبيات» شفشاون، ورصيد المحكيات الشعبية المتعددة الأصول والخصائص. وفي الفصل الثاني من الكتاب، اهتم المؤلف بضبط المفاهيم المهيكلة لبحثه، من خلال التمييز بين الأمثال الفصيحة والأمثال الشعبية، قبل الانتقال في الفصل الثالث لتصنيف مضامين الأمثال الشعبية المنتشرة بمدينة شفشاون ونواحيها. أما في الفصل الرابع، فقد انتقل لتفكيك بنية الأمثال الشعبية لمدينة شفشاون، لغويا وبلاغيا، مستثمرا زاده المعرفي المشتغل على خصائص الأدب الشعبي بسماته المحددة، وعلى رأسها مجهولية المؤلف، وهيمنة الشفاهي أو التداول الشفاهي المسؤول عن الانتشار والتداول الشعبي، وخصوبة المحتوى الثقافي المعبر عن وجدان الجماعة، وطبيعة البنية الجمالية والأسلوب الفني المعتمد عليه في صياغة الأمثال، فخصائص اللغة العامة المستعملة في هذا الإطار.
وداخل هذا الحقل المتشعب، ظل المؤلف حريصا على التمييز بين موضوعات الأدب الشعبي المتداول، انسجاما مع البعد التصنيفي الذي هيمن على أشكال توظيف المادة الخام الموزعة بين السير الشعرية والنثرية، والأسطورة، والخرافة، والحكاية، والمواويل العادية والقصصية، والأغاني والأهازيج الشعبية المختلفة الأصول والأنماط والمضامين والسياقات، ثم الأمداح والابتهالات الدينية، والرقى، والأمثال، والأقوال السائرة، والنداءات والألغاز، والنكت والنوادر والقصص الفكاهية، والأعمال الدرامية والفلكلورية المرتبطة بمعالم الفرجة الشعبية الجماعية.
وبهذا التراث الغني والمتشعب، انتبه الأستاذ أملال إلى البعد الاعتباري، ليس فقط بالنسبة لـ»مبدعي الشعب»، ولكن -أساسا- بالنسبة لعناصر الذاكرة الجماعية المشتركة المميزة لشخصية مدينة شفشاون كما تلاقحت عبر التاريخ، وكما اغتنت عبر الهجرات المسترسلة. يقول المؤلف بهذا الخصوص: «نخلص إلى أن مناطق شمال المغرب وخاصة المناطق الجبلية والغمارية (وضمنها شفشاون وربوعها)، لها خصوصياتها التاريخية والحضارية، التي تشكلت بفعل تمازج عدة عناصر بشرية مختلفة، وبفعل مختلف المؤثرات التي جلبتها الهجرات المتعاقبة على المنطقة… وهو ما أفضى إلى تكون العنصر الجبلي- الغماري المحلي، المتميز بكيانه الخاص ونظمه المتفردة، والحامل العديد من الموروثات الثقافية الأصلية والوافدة. ولعل وقوفنا على نماذج من المعتقدات الشعبية السائرة في منطقة جبالة، هو مؤشر قوي عن الغنى والتنوع التراثيين اللذين تتمتع بهما هذه المنطقة، مما يدعم إمكانية احتضانها كثيرا من أشكال التعبير الأدبية الشعبية، خصوصا أن سكانها فلاحون ظلوا مرتبطين بالأرض وبآثارهم وعاداتهم…» (ص ص.86-87).
أصبحت العودة لقراءة المتون المعبرة عن مضامين هذا الانتماء أمرا لازما لفهم مجمل أنماط التفكير الجماعية والتمثلات الرمزية التي لا يمكن القبض على تفاصيلها بين صفحات الكتابات التأريخية الإسطوغرافية التقليدية. لذلك، تشكل دراسة الأستاذ محمد أملال قيمة مضافة أكيدة لحقل دراسة تاريخ الذهنيات الجماعية، مما يسمح بتوسيع دوائر البحث والتنقيب والاستثمار، ليس -فقط- بالنسبة للمؤرخ المتخصص المهووس بالوثيقة المادية المجردة، ولكن – أساسا- بالنسبة لكل المشتغلين على رصد تحولات التراث الإثنوغرافي واللساني والإبداعي والجمالي الذي راكمه المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 10/06/2024