جديد دراسات التاريخ العسكري الوطني: شخصية طارق بن زياد مرة أخرى

يتابع العقيد المتقاعد الأستاذ أحمد البسيري عمله التنقيبي في خبايا التاريخ العسكري المغربي، بكثير من الصبر ومن الأناة ومن الاحترافية، ليس فقط على مستوى تجميع المواد الأساسية للدراسة وللتأليف، ولكن – أساسا- على مستوى بلورة معالم كتابة تاريخية تأصيلية، تكتسب صفات الاحترافية والعمق والدقة والتريث والنزاهة عند مقاربة الإشكالات الكبرى التي ميزت التاريخ العسكري المغربي على امتداد قرونه الطويلة الممتدة.
مناسبة هذا الكلام، صدور كتاب «الصفات القيادية والمهارات العسكرية للقائد المغربي الأمازيغي طارق بن زياد»، للأستاذ أحمد البسيري، مطلع السنة الجارية (2024)، في ما مجموعه 227 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول، إن الإصدار الجديد يشكل حلقة موصولة من حلقات البحث والتنقيب التي ميزت مسيرة الأستاذ أحمد البسيري، باحثا رصينا ومؤرخا مهووسا بدرس التاريخ العسكري، لدواعي مهنية خالصة، ولحوافز أكاديمية رفيعة.
والأستاذ أحمد البسيري من مواليد مدينة أصيلا سنة 1937، وهو -الآن- ضابط متقاعد، شغل منصبا ساميا في صفوف القوات المسلحة الملكية من موقعه كمختص في التاريخ العسكري. أحرز على جائزتين ملكيتين في المسابقة التي كانت تنظمها مديرية التشريفات الملكية بمناسبة عيد العرش، أولاها سنة 1959 ببحث في موضوع «التاريخ الحربي المغربي»، وثانيها سنة 1960 ببحث في موضوع «العلاقات الديبلوماسية في عهد الدولة العلوية». وفي السنوات الأخيرة، تفرغ لنشر نتائج أعماله العلمية، على رأسها كتابه «مصادر من التراث العسكري المخطوط بالمغرب» سنة 2014، وكتاب «الأساليب التكتيكية العسكرية عبر تاريخ الحروب المغربية، من عهد الأدارسة إلى عهد العلويين قبل الحماية».
وعلى هذا الأساس، نجح الأستاذ البسيري في تجاوز صرامة الالتزام المهني، بما يحمله هذا الالتزام من مهام قد لا تسمح باستثمار الإمكانيات التي تتيحها «المهنة» في السعي لتغذية الولع بالقراءة وبالبحث وبالتأليف. سيظل الأستاذ أحمد البسيري من قلائل النخب العسكرية الوطنية المعاصرة التي نجحت في الجمع بين الالتزام المهني الصارم، وبين الهوس بالقراءة وبالكتابة. ولعلها الصفة التي جعلت منه رائداً للكتابة التاريخية الوطنية المعاصرة المتخصصة في مجالات الأداء العسكري ونظمه وتحولاته وأنساقه المتداخلة والمؤثرة في باقي بنيات الدولة، وفي العلاقة بين المركز والأطراف، ثم في العلاقة بين الدولة وبين محيطها الإقليمي والدولي الواسع.
وبخصوص الإطار العام للكتاب موضوع هذا التقديم، يقول المؤلف في كلمته الاستهلالية: «ما من شك في أن معظم المتخصصين في الدراسات التاريخية للأندلس، يعتبرون طارق بن زياد أحد أشهر القادة العسكريين في التاريخين الإيبيري والإسلامي على حد سواء، وأحد الرجال الأفذاذ الذين غيروا وجه وسير أحداث التاريخ بانتصاراته البارزة بالأندلس… والتي انتهت بهزيمة مدمرة للجيش القوطي. كما يعتبرونه فاتحا كبيرا وعبقريا عسكريا محنكا، ومجاهدا في سبيل الله، وإعلاء كلمته، وترسيخ قواعد الإسلام في تلك البقاع. غير أن الإشكال المطروح هنا، أنه بالرغم من الشهرة التي حظي بها طارق بن زياد كأحد الكبار، فإن جل الكتابات التي تناولت مساره العسكري كانت تنضوي في إطار الدراسات التاريخية العامة، أي منذ فتح العرب للأندلس إلى سقوطها، فهي لم تعالج بالتفصيل كل الجوانب القيادية التي كان يتحلى بها هذا القائد، والمهارات التكتيكية العسكرية التي تميز بها خلال قيامه بأعمال الفتح للأندلس… لهذا آثرتُ أن تكون هذه الدراسة مستوفية البحث والتنقيب لاستجلاء أغوار شخصية هذا البطل، ورصد جانب مهم من جوانب شخصيته العسكرية…» (ص ص.8-9).
انسجاما مع هذا الهدف العلمي الأصيل، قام الأستاذ البسيري بتوزيع مضامين بحثه بين خمسة مباحث متراتبة ومدخل تمهيدي لتوضيح السياق العام لهذا التأليف، وآفاقه، ومنهجية البحث المعتمدة فيه، إلى جانب مواده المصدرية ومظانه التوثيقية المؤطرة لسياقات تبلور مشروع الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية وحيثياته التاريخية المحددة للوقائع الموجهة للأحداث بالضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. ففي المبحث الأول، اهتم المؤلف برصد معالم المسار العسكري المميز لسيرة طارق بن زياد. وانتقل – في المبحث الثاني- للبحث في أسباب اختيار طارق بن زياد على رأس الجيش الذي فتح بلاد الأندلس. وفي المبحث الثالث، استفاض المؤلف في تفصيل الحديث عن الصفات القيادية العسكرية لطارق بن زياد، استنادا إلى مادة مصدرية غنية ومتنوعة، سمحت بإعادة تركيب هذه الصفات، وعلى رأسها صفات الكفاءة والخبرة الحربية، والإرادة القوية الثابتة، والشجاعة والإقدام، وتحمل المسؤولية في المواقف العسكرية، وسبق النظر، ومعرفة النفسيات «القابليات»، والانضباط والطاعة، والقابلية البدنية، والتحريض والحض على القتال، والمقدرة على جمع المعلومات، والمقدرة على اتخاذ القرار الصحيح والسريع، والتقوى والورع، والقناعة ونكران الذات، والإنسانية والتواضع والوفاء بالعهد، وتوظيف الانتماء العرقي والماضي التليد لوسطه العائلي والمحلي.
وفي المبحث الرابع من الكتاب، اهتم المؤلف باستخلاص خصائص المبادئ العسكرية التي طبقها طارق بن زياد. يتعلق الأمر بمبادئ العمل التعرضي في الهجوم أو المبادأة، واختيار المقصد وإدامته، والتعاون، والحشد، والمرونة وخفة الحركة، والاهتمام بالشؤون الإدارية للجيش، والاقتصاد في المجهود، والمحافظة على أمن القوات وسلامتها، والمباغتة، والمطاردة واستثمار النصر، واتخاذ أسلوب اليقظة والحذر، وكتمان أخبار تحرك القوات والجهة التي يقصدها الجيش، وتقدير الموقف واختيار الموقع، والمبادأة أو المبادرة بالقتال، والأخذ بمبدأ حرية العمل العسكري من أجل المصلحة العامة، واستخدام أسلوب الحرب النفسية.
واستكمالا لخبايا هذا النبش الدقيق، خصص المؤلف المبحث الخامس لإضفاء بعد تطبيقي على التصور النظري لقواعد الحرب لدى طارق بن زياد، من خلال نموذج خاص بالأساليب العسكرية التي اعتمدها هذا القائد في معركة وادي برباط. وفي آخر مواد الكتاب، عاد المؤلف لتدقيق النظر في قضية إحراق طارق بن زياد لسفنه الحربية، مقدما رؤية جريئة للتشكيك في صحة هذه الواقعة، انطلاقا من مواد مصدرية متنوعة تسمح بإعادة ترتيب النظر في هذه الواقعة، خاصة على مستوى التناقض الكبير الذي يطبع تفاصيل الحدث، وكذا على كمستوى اضطراب الرواية المتداولة بهذا الخصوص، ثم على مستوى تعارضها مع منطق الأداء العسكري الذي ظل ينتظم في إطاره الجيش الإسلامي ونظام تحركه المجالي خلال العصر الوسيط.
ولعل من عناصر القوة في هذا العمل، حرص الأستاذ أحمد البسيري على تعزيز انفتاحه على أمهات المصادر العربية والأجنبية، وعلى التركيز على جزئيات مفصلية في تفسير بعض الوقائع التي توارثتها المصادر الكلاسيكية بشكل مضطرب، وأحيانا متناقض إلى حد يُفقدها كل قيمة توثيقية. ولا شك أن غزارة المادة البيبليوغرافية المعتمدة في البحث أتاحت للأستاذ أحمد البسيري إمكانيات واسعة لتنقيح الروايات، ولنقد سردياتها، ثم لإعادة تركيب الخلاصات في إطار متن شيق، يحترم شروط النقدين الداخلي والخارجي للنصوص وللمتون، مما يسمح بإعادة قراءة المرويات التقليدانية حول سيرة طارق بن زياد، وحول مجمل وقائع حدث فتح المسلمين لبلاد الأندلس.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 11/10/2024