تحكي مسرحية “عنقود الريح” للكاتب ( أنس العاقل) عن أخوين فرضت عليهما ظروف الحياة العيش تحت سقف واحد بعد أن ورثا عن أبيهما منزلا مشتركا، لا يمكن بيعه إلا بالتراضي بينهما. الأخ “خليل” بنكي يعيش مع أخته “اسمهان” وهي أستاذة تاريخ متقاعدة، تكفل بها وتعهدها بالرعاية الصحية والنفسية باعتبارها أخته الكبرى ومصابة بمرض الزهايمر، فتشهد حياتهما المشتركة كثيرا من الحب الأخوي والإيثار والتضحية بالجهد والوقت والمال، غير أنه، ومن حين لآخر، تشوب علاقتهما تصدعات بسبب ثقل المسؤولية في ظروفهما العصية، ما يضطره إلى بيع المنزل لسداد ديون عالقة، درءا للسجن وتبعاته، أما أخته” اسمهان” المريضة بالزهايمر، فقد ظلت -لاإراديا- تعرقل البيع بتأجيلات لا تنتهي، متشبثة بتاريخ العائلة، وبيت الزوجية، مشدودة إلى حضارات ممزقة وتاريخ مثقوب وهوية متصدعة لإنقاذ ما تبقى من الجسد من الخراب.
وبهذا ستعرف المسرحية نهايتها بالتنازل الجزئي عن المنزل، ومغادرة أخيها المنزل كرها، وقد ساقته أياد إلى المجهول. بينما ظلت هي تحرس النافذة مترقبة الذي قد يأتي ولا يأتي!
لا شك أن مسرحية “عنقود الريح” وضعت الممثلة (فريدة بوعزاوي) أمام تجريب حقيقي خلال التداريب –البروفات-المسرحية ، بالبحث عن الكيفية الملائمة والمثلى لتشخيص شخصية معقدة مركبة،عجوز معاقة تعاني من الزهايمر على المستوى النفسي والحسي الحركي، بشكل يجعلنا ندرك انها اختبرت في هاته الشخصية المركبة فاعلية التقمص أو الاندماج الكلي (ستانسلافسكي) وحركية التعبير بالشكل الحركي أو الأداء التشخيصي “البيوميكانيكي ( مايرهولد )
ما لاحظته، أن المريضة تتذكر زواجها السابق أو صورة الأم مثلما يحدث لإنسان سوي، لان ذاكرة الرقص ظلت متماسكة “سوية” لم تخترقها ثقوب النسيان والمفترض ان يتم إدماج شخصية “الزوجة” في شخصية “الأرملة” ضمن بنية نفسية مركبة تركيبا مزجيا
طبعا، لا نستطيع أن نخفي استمتاعنا الكبير بنظام التشخيص والتنويه بالاشتغال المضني على شخصية متمنعة على التشخيص، والإعجاب بالمستوى الجيد للممثل (منصف القبري) في تمثله لشخصية مركبة أيضا، تجمع بين الإحساس بالرهبة من عواقب المحاكمة وتبعات التكفل بمريضة الزهايمر وبين الرغبة في الاعتناء بالأخت، الأمر الذي حقق نوعا من التوازن التشخيصي في الركح.
وإذا كان لابد من ملاحظات، فإن الأولى بالاعتناء هو تجويد إيقاع العرض كي لا يسقط في الرتابة، بفعل التكرار الذي يستلزمه المرض موضوعيا في زمن الشيخوخة والمرض الموسوم بتكرار التحرك والحركة والإلقاء الصوتي المتواتر والموسيقى التعبيرية-المصاحبة. وقد يكون مشهد مراقصتها ل”خليلها” محتاجا لتغيير زاوية النظر اليه، لأن البنية النفسية العميقة الراسخة في قعر الماضي المعتق لمصابة بالزهايمر ولاشعورها يفترض فيها تشخيص رقصات شعبية اكثر من رقصات بالي Balletوالتي ستساهم في تكسير الإحساس بالرتابة، وتخلق جوا من المرح المر والسخرية السوداء، دون ان يتعارض ذلك مع تمثلات النخبة المثقفة الفرنكفونية للفن في اطار الطبقة المتوسطة (موظف بنكي واستاذة).
نسق التشخيص جيد لكنه يحتاج إلى الارتقاء بتشخيص المرض نحو الذروة القصوى الأشد وفتكا بالجسد، كالعدوانية واختلال وظائف الجهاز العصبي من خلال تشخيص الشراسة في إرغام المريضة على الاكل أو تمزيقها الحفاظات الخ ، ففي التخوم القصوى لمرض الزهايمر تلتبس الفضاءات الزمانية والمكانية بشكل يستدعي أثر”التطهير” بسبب الإحساس بالخوف من المرض والإشفاق على المريض. ندرك هنا أن مريضة العرض المسرحي يختلط عليها النسق اللغوي والمعلومات التاريخية والسيرية بالتعبيرات التلفظية لكنها في المقابل ما تزال تحتفظ بذاكرة المكان لانها تضبط حدود فعل التحرك بشكل سوي، لا يلتبس عليها مكان المطبخ بغرفة النوم ولا تستبدل وضعية الجلوس على الكرسي بالانبطاح أرضا بقدر ما…
من جهة أخرى، لاحظنا وجود قدر من الرقابة اللاإرادية على الجسد المحرم من خلال الفعل الدرامي المنجز، علما أن الفنانة نعيمة زيطان تكون دوما في مواجهة فنية ومعرفية مع الطابو الجنسي، لكننا لم نلمس ذلك في بعض لحظات العرض، ومثال ذلك أن المريضة خلال تذكر مراقصتها لزوجها- الغائب – ظلت وفية لعلاقة الأخوة “المحرمة” على المستوى الحركي -النفسي، وكان من الأولى إبدالها بعلاقة الزوجية “المحللة” في بعض اللحظات، لأن ذاكرتها المثقوبة ستجعلها ترى في أخيها زوجا من لحم ودم، مع ما يستتبع ذلك من رغبة دفينة في التقبيل واللمس والجس تفاعلا مع أثر الخمرة، في مقابل تمنع الأخ ومقاومته لنزوات المريضة، وهذه مفارقة دالة قد تكون ذات تأثير بليغ، ومرد ذلك إلى أنه تم النظر إلى مشهد الرقص من زاوية “السواء” الأخ السوي (الممثل والمخرجة) وليس من زاوية “المرض الدماغي”( الاخت)، حيث تندمج هويتا الأخت والزوجة في هوية نفسية مركبة .
اشتغلت السينوغرافيا (محمد أمين) على الملاءمة الفنية الدرامية المتوازنة بين مساحات التشخيص ومكونات الديكور واللباس والإضاءة وبين متطلبات التلقي. وقد تم تصميمها برؤية تقنية تستجيب لحاجيات دراماتورجية ضرورية ورؤيا جمالية إخراجية (نعيمة زيطان)، تخلق نوعا من الانسجام بين المرئي والمسموع، وتتحكم في فضاءات اللعب بمراعاة علاقة التوازي و التقابل بين فضاء لعب الأخت حيث سرير النوم في اليسار، وفضاء الأخ في اليمين (بلا سرير للسهر على راحة المريضة) وهو نفس المنطق المتحكم في ترتيب الطاولتين، كما تفتح المنظور على العمق بإطارات خشبية تشكل جدرانا مكشوفة بشبكة “moustiquaire” كشبكة الغربال، كاشفة مناطق اللعب وخاصة غرفة السرير والأسرار، مع الاعتناء بموضع المكتبة بمذياعها والشمعدان…
كما أن الديكور صمم لكي يؤشر على المتاهة لكي توحي الى متاهة لعبة التذكر/ النسيان، ويؤدي وظيفة تقنية بتحويله إلى شاشة لعرض الإضاءة والإضاءة التصويرية mapping، لإنجاز الفلاش باك. واقترح إبدال الإطارات الخلفية الشفافة بأستر سوداء، والإبقاء على الأمامية الشفافة والنافذة لإحداث التقابل الدلالي بين السواد/ البياض.
أكيد أن نص العرض الموسيقي تفوق فيه (محمد حلوة بأداء أسماء هموش) عبر توظيف معزوفات ورنات عود تعتمد على خاصية “التكرار” التي تتلاحق في انسجام وتناغم مع طبيعة المرض ذاته، طبيعة تقوم على تكرار نفس الحركة قد تبلغ ذروتها بتداخل مرضي الزهايمر والتوحد، وتستحضر لحظات الاستمتاع بعود الأم أي أنها موسيقى نفسانية في المقام الأول…
أما اللباس (فريدة بوعزاوي) فنجده وظيفيا للأخت والزوجة، وإن كنا ننتظر من شخصية الأخ ارتداء لباس منزلي للخلاص من تبعات العالم الخارجي: إكراه وظيفة البنك وديون العالم الخارجي
لاشك أن أصعب العروض المسرحية تشخيصا وإخراجا هي التي تنجز برؤيا تشتغل على الفراغ والبياض والصمت، وهنا لابد أن ننوه -على سبيل التمثيل لا الحصر- بالمنجز التشخيصي الحركي المركب gestuel لمسرحية «خريف” (إخراج أسماء هوري وإنجاز فرقة انفاس بالبيضاء) التي قاربت مرض السرطان أو “حدائق الأسرار” (إخراج محمد الحر وإنجاز فرقة أكون AKOUN) ، و عرت عن كثير من العقد النفسية جراء الاغتصاب المادي والرمزي للجسد، ولعل هاته الأشكال من الدراما النفسية psychodrameقليلة الحضور في المسرح العربي الميال أكثر إلى الفرجة الجمعية المشحونة إيديولوجيا، حيث تسود عروض تهتم بخرق الطابو السياسي – الاجتماعي لمقاومة القمع السياسي في المجتمعات العربية أكثر من مقاومة الطابو الجنسي- النفسي، وإن كان النفسي والاجتماعي يتفاعلان سلبا وإيجابا في الواقع الإنساني.
نخلص الى ان عنقود الذاكرة المرضي ذاهب مع الريح، لكن عنقود العرض حافل بجماليات فنية تقاوم النسيان والألم.
جماليات الألم قراءة في عرض مسرحية «عنقود الريح»
الكاتب : جمال الفزازي
بتاريخ : 27/02/2023