جماليات عبد الله الرامي بين التراث وتطويع الأدوات

 

« اتقن القواعد كمحترف حتى تتمكن من كسرها  كفنان».
بابلو بيكاسو

في الفترة الممتدة مابين 8  إلى23 يونيو2024 ، يعرض الفنان التشكيلي : عبد الله الرامي معرضه التشكيلي بقاعة محمد الفاسي ببهو وزارة الثقافة والشباب والتواصل بالرباط ، وقد وسم معرضه الآخير بعنوان «منتقيات» وهو تجميع  للوحات عرضت في مناسبات فنية سابقة ، ومن خلال اللوحات المعروضة يمكن للزائر المتلقي أن يكون فكرة عن مشروع هذا الفنان الطموح الذي ما انفك يطور أداءه الفني المائز معرضا بعد معرض .
مسار الفنان كمسار تلك النحلة التي تجوب الحدائق والحقول لكي تعتصر وتقطر ذلك الرحيق المصفى الذي يروي انتظارات المتلقي ويشبع رغباته  الواعية وغير الواعية.
يمكن تقسيم اللوحات إجرائيا إلى  صنفين أو مرحلتين بشكل عام، مرحلة الاشتغال على المجسدات ولاسيما جسد المرأة الذي يكون موضوعة تتشظى في فضاءات لوحاته، يألف الفنان في تضاريس جسد المرأة العطاء والخصوبة واستمرارية الحياة المتعاقبة ،فالمرأة بمختلف وضعياتها الإنسانية كحبيبة وأم وبنت ورفيقة درب حياة، تغني وتثري حياة المرء بأحاسيس القرب والحب والحنان والجمال.فحضور المرأة والرجل يهجس بالصلة بين الجنسين في أبعادها المختلفة والمتباينة اجتماعيا وأنتروبولوحيا .
الجسد  البشري لا ينظر إليه بكونه مجرد إطار بشري جسماني، فهو أداء وأسلوب تواجد وحضور على مسرح الحياة ووسيلة تعبير، إشارة ورقصا وانفعالا ، فهو- إذن – إدراك ووعي بالذات والجسد وملتحم بالعالم في أفق سماء وأرض وما يضج به من عوالم ودلالات ، فالجسد – في حد ذاته – تشكيل بصري وعلامات مرئية تنتج المعاني والدلالات.
يعتبر الجسد في التوظيف الفني وسيطا ماديا للتعبير عن الإدراك الحسي وما  يعتمل داخله  من رجيف مشاعر وخلجات تطفح بخطابات معلنة ومضمرة تتماوج في الفكر والوجدان، وقد احتفى الرسام والنحات الإيطالي مايكل أنجلو بالجسد الإنساني العاري واعتبره الموضوع الأساسي للفن ، فجميع فنونه المعمارية احتوت تمثلات الجسد البشري، وفي ذلك يقر جيمس سكوت قائلا» الجسد البشري هو أفضل عمل فني».
أما الصنف الثاني فيمكن وصفه بلوحات المبنية على أساس المونتاج أو التوليفة التركيبية وليس مجرد ملصقات أو كولاج في حدوده الضيقة ، حيث يتم توظيف عدة عناصر تتداخل وتتناغم في إطار اللوحة الواحدة .
مواد طبيعية من أصول ألوان ترابية تنتمي إلى الأرض والواقع الاجتماعي والمحيط العام الذي عاش فيه الفنان التشكيلي عبد الله الرامي، وانشد له وجدانيا ومكانيا وهو ذلك الطفل الذي كانت في الغالب تعوزه الإمكانيات، فيبحث عن أدوات بسيطة ليشكل منها رؤيته الجمالية تنهض على رموز وتعابير لها مرجعيات طبيعية كالحجارة ولحاء الشجر وقشور الرمان. لم تأت تلك الاستعمالات من مجرد فراغ أو قلة حاجة بل كانت لصيقة بالفنان منذ نعومة أظفاره، فترة اتسمت بهزالة الإمكانيات وعدم الحصول على مستلزمات الصباغة. كل ذلك لم يقف حجرة عثرة أمام تفجير طاقة عبد الله الرامي في التعبيرعن شواغله تشكيليا.
جماليات ترتكز على مرامي تجريدية وصور مركبة، تطرح على المتلقي رهانا تواصليا، وتجعله يكمل البياضات والفراغات، كما لو أنها توحي بأن لاشيء يكتمل كدورة القمر.فهناك بلاغة جمالية النقص فالكمال التام يفقد بهجة حضوره إن لم يشبه نقص معين، فالجماليات تكمن في تخوم النواقص واللوحة – في معظم الأحيان لا تكتمل بين يدي الفنان !
تستمد أعمال مبدعنا مرجعياتها وأصولها من مضان تراثية، فيطبع عليها بصمته الحداثية وفق منظوره الخاص، يوظف تقنيات التوليف بين العناصر المختلفة فيوحد ويناغم ويطوع بين محتويات عناصرها ، فتسبك في إيقاعات بديعة تسر الرائي وتبهج المتلقي ولاسيما والتوليف التشكيلي يتجسد في أرقى صوره ومشاهده الجذابة .فبين أقانيم الحقيقة والخيال تتراوح نمنمات خطاب اللوحة مشكلة نول حضورها  على مستوى حقل الرؤية، فالتشكيلي يضعنا أمام صياغات تنزاح إلى التجريد، مما يجعل المتلقي يتماهى مع ما تفيض به الأعمال التشكيلية في حواراتها الداخلية حيث تتداخل وتتشابك الألوان والأشكال لتفرز في النهاية أرضيات وخلفيات متناغمة في إطار إيقاعات منسجمة.
تجربة عبد الله الرامي مسكونة بالبحث المبني على جلاء الرؤية ؛ يستقي عبد الله الرامي أعماله من دائرة محيطه ووسطه. فعلى سبيل المثل وردت مادة « الخيش» في صياغة عمله، فقد كان « للخنشة» حضور في استعمالات الحياة اليومية كحامل لمادة السكر الحيوية، كما أن هذا الكيس الخشن كان يعرف عدة وظائف في البيت المغربي حيث يصبح خزانا للمؤونة وأغراض متعددة، فمادة « السكر» في الأعراف المغربية يتم تبادلها عند المغاربة في السراء والضراء وخلال لحظات الأفراح والأتراح.
يوظف التشكيلي المواد الخام في نسج وبناء اللوحة، متحاشيا أدوات الرسم العادية، ويستحضر خلال ذلك عوالمه الطفولية بإعادة الاشتغال على المهملات، لتشكل مع بعضها انسجاما في قالب لوحات ينشد إليها المتلقي باعثة في أعماقه حرقة السؤال .
اللون البني الترابي المستنبط من جوز الهند يهيمن على معظم اللوحات، فهي إشارة – لامراء في ذلك – إلى التراب وهو أحد  المكونات الأساسية للحياة، بيد أن هذه المواد المشتغل عليها تنتقل من إطاراتها الوظيفية الواقعية لكي ترقى إلى ماهو  تجريدي، مما يرفد أعمال عبد الله الرامي دلالات في منتهى العمق، وهو يعمد إلى تجميعها وتركيبها وتوليفها لتظهر في جزئية موحدة وقد انصهرت في تلافيفها عناصر مختلفة.
يسعى عبد الله الرامي إلى التوظيف البصري للتراث من مخطوطات كتابية وحجارة وأدوات طبخ وإعداد الطعام كالقصعة معرفا عبر منجزه بالتراث المحلي المغربي إغناء للذاكرة الطافحة بمعطيات تحتاج إلى بحث وتقصٍّ، فالثقافة  المادية واللامادية رصيد يحتاج إلى نبش وتنقيب وإعادة إحياء وتدوير بغاية الوصول إلى مضان كنوزه التي لا تثمن، فهذا الموروث غني ويحق أن يفتخر ويعتز به كتجليات وعلامات للذاكرة المشتركة .
فشكل اللوحات – عند عبد الله الرامي – لا يقف عند وضع واحد، فهو تارة دائري وطورا مربع وتارة أخرى مستطيل، فالأشكال لا تأتي عفوا بل مفكرا فيها قبلا حسب متطلبات اللوحة وتركيباتها الفنية.
معرض»  المنتقيات « أقيم كاختيار لمجموعة من الأعمال التشكيلية ، كل تجربة لها عينة تمثيلة عبر المسار الفني لتجربة فننانا المبدع ، وتقريبنا من عوالم وتقنيات اشتغاله .
منجز عبد الله الرامي مسكون بالبحث المستفيض ، وبالبحث عن تجديد كامن في التليد والأصيل مع استشراف نظرة مشرئبة للمستقبل بكل ما يطفح به من حداثة ومساءلته بالمبتكر والمختلف ، مع تكسير القواعد السائدة مع إعادة بناء وتركيب وفق رؤية / رؤيا تستحضر الذاكرة المحلية الجماعية لمحاولة تفكيك شفرات البصرية التي تمتع وتسر الناظرين …


الكاتب :    المصطفى كليتي

  

بتاريخ : 20/06/2024