جمالية الخطاب الشعري في ديوان: «المقر الجديد لبائع الطيور» للشاعر عمر العسري

يرتبط الشعر ارتباطا وثيقا بالأسلوب الرمزي الذي يهدف من ورائه الشاعر إلى تحقيق المتعة وتحصيل اللذة لدى المتلقي، ذلك أن قيمة العمل الإبداعي ومرتبته لا تستنبطان من الظروف البيوغرافية أو التاريخية لنشأته، ولا من موقعه ضمن تطور الجنس الذي ينتمي إليه فحسب، بل من معايير أدق من ذلك، هي وقع هذا العمل وتلقيه وتأثيره وقيمته المتمخّضة عن تفاعل القراء. وعلى هذا الأساس تروم هذه المقالة الكشف عن جمالية الخطاب الشعري في ديوان «المقرّ الجديد لبائع الطيور» للشاعر المغربي عمر العسري الصادر عن أگورا للنشر والتوزيع بطنجة سنة 2021.

يضم الديوان ثلاث عشرة قصيدة تزخر بجملة من الموضوعات المتباينة. ولعل أهمَّ مفتاح لهذه الموضوعات هو مفتاحُ الذات، الذات التي تتمرّد على الانهيار القيمي وتستشرف الغد المشرق من خلال رصدِ حركة الجسد والروح؛ أي المعراج الصوفي بلغة عرفانية.

التداخل بين
الواقعي والرمزي

إن العالم الذي يروم الشاعر عمر العسري العيش فيه يزدحم بأعنف ألوان الشعور بالمسؤولية تجاه القيم الروحية التي تمثل المصير الخلقي للإنسان، إذ يعبر ديوان «المقر الجديد لبائع الطيور» عن فواجع الحياة، وعمّا يقاسيه الوجدان الجمعي من بؤس وقهر وحرمان، لذلك تحولت لغة الديوان إلى ألحان لمواكبة الشعور بالغربة. يقول الشاعر في قصيدة «تمثال من فراغ»:
أحد ما
حفر اسمي
على الأسوار الخلفية للمدينة
أحد ما
أراد أن يقلق
سكينة القطط المتسافدة
أن يطير أنثى الحمام
من عشها
أن يفرغ
اللقلق كي يغادر القمة المنيفة (ص، 13)

ينضح المقطع الشعري بالإحساس بالوحدة وعدم الأمن في حضن الوطن، الأمر الذي جعل الشاعر يشعر بالتوتر والغربة والشجن، فآثر الرحيل إلى القمة حيث العالم المقدس، والهروب بعيدا عن وجهاء المدينة الذين يمثلون الفساد في العالم المدنس. وهذا ما يتضح بجلاء في المقطع الآتي:
لا بعوضة
قادرة أن تحط
على مطار جبهتي المتغضنة
فما كنت يوما
من سكان
المدينة الضحلة (ص، 19)
ينفذ الشاعر عبر العالم المادي، ليتخطاه ويمتلك أسراره ويجسده بالصورة والحلم فينفلت من شِراك الواقع وعوائق المادة لمعانقة المطلق عن طريق الكشف الشعري، كون الرؤيا الفلسفية للمبدع تربط بين المرئي واللامرئي، بين الواقع والحلم. إنها قوة انسلاخ وطاقة كشف وأداة معرفة تخييلية تعارض المعرفة العقلية والتجريبية. يقول الشاعر معبرا عن القلق الوجودي:
هو
وحده هذا القادر
على إزعاج
سلم ريختر روحي
يظل غارقا
في قلقه الأبدي
إذ أنا
مجرد تمثال
من فراغ
مجرد غبار
على حافة الشرفة
مجرد فتات خبز (ص، 15).

تتضمن هذه الصورة الشعرية الإحساس بالقلق، وتمثُّل هذا الإحساس معناه الالتزام بالقضية الإنسانية والوعي بها وبالقيم والمفاهيم الخُلقية التي تجسّد دعائم وقواعد المجتمع، لأن القلق، حسب عبد الرحمن بدوي، هو الطابع الأصلي في الوجود حتى في أشد الناس طمأنينة، بل وفي السعادة نفسها، وإن اختلف مقدار الشعور به في ما بين الناس. وهذا الطابع الأصلي في الوجود يبدو واضحا في المقطع الآتي:
القناديل الزيتية
تذكي
خواءك
تحتمل
تحالف عقلك مع الوجود (ص، 38)
يتضح أن قسوة الواقع تعمِّق الإحساس بالقلق الوجودي في ثنايا المنجز الشعري «المقرّ الجديد لبائع الطيور»، إذ تتوشّح الصورة الشعرية بالألم جرّاء الشعور بالتيه والضياع والخواء في كنف الكون الرّحب، حيث يغدو كلَّ تأمل في مظاهر الكون تعويضا لغياب مؤلم، أو إفصاحا عن معاناة الذات الشاعرة من ألم وشجن.
وتجدر الإشارة إلى أن الشقاء يعزِّز الإحساس بالألم في ثنايا المتن الشعري – موضوع الدراسة- حتى يصح أن نقول مع فريديريك نيتشه: «إن الألم قوام الحياة، ولا يعرف الحياة من لا يعرف الألم. ولا غرو في ذلك مادام الجماد لا يشعر ألما في تفاعله، كما أن الحيوان ينسى الألم بزواله، فإن إرادة الحياة في هؤلاء خطبها يسير، أما الإنسان فخطبه كبير، لأنه إرادة شاعرة بنفسها، ومن ثمة كان كل ما يقف في طريق هذه الإرادة ويعرقلها يحدث ألما، ويترك في نفوسنا مضضا».ومن هنا، يتبين أن الشاعر عمر العسري اعتمد في تأثيث عوالم قصائده على التداخل بين الواقعي والرمزي، حتى أننا نكاد لا نجد حدودا فاصلة ما بينهما، وذلك لإعادة نسج خيوط العالم برؤيا جديدة تمكن المتلقي من تجاوز صدمة التشظي، وهو ما يكشف الطفرة النوعية التي شهدتها الذائقة الشعرية لتحقق تميزها الفني .

جدلية الألم والأمل

يعد المكون المكاني عنصرا فعالا في البناء الشعري، بيد أن المكان الذي يبعث على الشعور بالألم تسعى دائما الذات الشاعرة إلى تجاوزه، وهذا ما حفز الشاعر عمر العسري على الإفصاح عن قبح الواقع وذمامته، مبرزا ما يكابده الإنسان من لواعج الألم والغربة والوحدة، ولهذا نجده يرغب في معانقة نور الشمس الذي يوحي بالسمو والطهارة والصفاء، بعيدا عن العالم المدنس الذي يرمز إلى الانهيار القيمي الذي يجسده الخفافيش. وفي هذا السياق يقول الشاعر في قصيدة «المقرّ الجديد لبائع الطيور»:
السّنا ذاته
ذاك الذي
يحتجز الوسم كي لا يرحل
ذاك الذي يجعل الجدار
يلوح كل صباح
يغرد للعابرين (ص، 54).
إن المتعة أو اللذة الجمالية التي يقترحها هذا المقطع الشعري، أمام المتلقي، هي متعة الزهو أو التعالي الذاتي، إذ اهتم الشاعر بجانب الجمال فجسّده وعبّر عنه في قالب شعري رمزي يوحي بالسمو، ولعل هذا الجمال السّامي هو الذي يحفز على الحلم المتضمَّن في الصورة التالية:
حتى المكان يتقصد الابتعاد عنك
لا تتفطن للجسر
ما دامت الهاوية قريبة
فبين الطين والخزف مسافة نار (ص، 43).
يتنفّس هذا المقطع الشعري برمزية المكان التي تحفّز المتلقي على كدّ العقل وإعمال الفكر لاستكناه الدلالات المقصودة، ولهذا خليق بالقارئ أن يكتشف السرّ المكنون الذي يشتمل عليه النص، من أن ينكشف هذا السر من تلقاء نفسه، فتضيع لذة الاكتشاف، إذ الألفاظ، بتعبير زكي مبارك، هي في الأصل صور ضئيلة جدا للمعاني، والمعاني أيضا صور ضئيلة جدا للحقائق، والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك. ولعل هذا ما أسهم في التباعد بين الرؤيا في بعدها العميق، والعبارة بما تتسم به من عجز وقصور. يقول الشاعر:
حافلة السفر
تغريك بالطريق
المقعد الخلفي
ينسيك الوصول
هلا تيممت
بصخرة بركانية
تبرر عطشك (ص، 41).
إن التجربة الجمالية التي يعيشها الشاعر عمر العسري لا تتعامل مع المكان المادي/ الواقعي بصورته الفعلية الحقيقية، ولكن على أنه صورة رمزية تُرضي حاسته وتقوي دعائم خياله، وتفسح المجال لانطلاق أجنحته وراء الألفاظ والعبارات إلى معان أخرى يتحملها اللفظ بالتفسير والتأويل، مما يجعل المتلقي يغوص في داخل الصور الرمزية وما وراءها لاكتشاف دلالاتها واستكناه مقاصدها. يقول الشاعر في قصيدة «نار بين الطين والخزف»:
الفزع الذي يغمرك
يعتريك
يغريك
يوقظك
يكبر في غرفتك (ص، 37).
يعد الحلم بالغد الأفضل هاجسا في مخيلة الشاعر عمر العسري؛ إذ شَكَّل من خلاله جمالية اللغة والغواية الشعرية في زاوية الغرفة داخل البيت، لأن البيت – في رأي غاستون باشلار- جسد وروح، وهو عالم الإنسان الأول قبل أن يقذف بالإنسان إلى العالم، وأي ميتافيزيقا دقيقة لا تستطيع إهمال هذه الحقيقة البسيطة لأنها قيمة مهمّة، نعود إليها في أحلام يقظتنا. فالوجود أصبح الآن قيمة والحياة تبدأ بداية جديدة محمية دافئة في صدر البيت. ومن هنا ينهض ديوان «المقر الجديد لبائع الطيور» على مناهضة الانهيار القيمي واستشراف الغد المشرق رغبة في تحقيق الحب والسلام في الكون بوساطة الحلم، الذي يفصح عنه المقطع الآتي:
لا تجلس على الكرسي
الذي أعدوه لجلوسك
لا تقل شيئا
افتح النافذة
واطرد الكابوس الذي فيك (ص، 40).
وهذا الحلم الذي يلّح عليه الشاعر، هو الذي يضعنا، حسب غاستون باشلار، في حالة الروح، هكذا في دراستنا البسيطة لأبسط الصور، يكون طموحنا الفلسفي كبيرا، إنه إثبات أن الحلم يمنحنا عالم الروح، وأن الصورة الشعرية تقدم شهادة على روح تكشف عالمها، العالم الذي كانت تريد العيشَ فيه.

على سبيل الختم

اعتمادا على ما تقدّم من طرح، نستخلص أن الشاعر عمر العسري يحلم بترسيخ القيم النبيلة في الكون الفسيح، لأن القيم هي التي تمنح الأشياء طعما وتمكِّن من البحث المستمر عن معنى الحياة. مما يدل على أن الشاعر يضع مجموعة من الافتراضات التي تكشف عن عالمه الداخلي، ليضعها في ذهن المتلقي، فإنه يحاكي الأشياء ليتأملها. وهذا يعني أن فلسفته في الكون، قد تشير في لغتها إلى المجاز والاستعارة والرمز وتكون متلفعة بالغموض والتأويل؛ فهي نوع من التجلي المفاجئ الذي يتوشح بالنقائض الظاهرة والباطنة، فتغدو تجربته، عندئذ، ضربا من الخيال المستتر في الذات. ومن ثمة، نستنتج أن الجمال الذي يزخر به ديوان «المقرّ الجديد لبائع الطيور» يتجسد في جميع أسرار الكون ومكونات الوجود، ومن يُرَوِّض نفسه على هذا الوجه في الحب، فيتأمل الأشياء الجميلة متدرجا بينها وفق مراتبها الوجودية، يصل عندئذ إلى التَّحققِ بغاية الحب، وهناك يرى بَغْتَة نوعا من الجمال عجيبا في طبيعته، خالدا لا سبيل إلى خلقه أو فنائه، ولا إلى زيادته أو نقصانه.


الكاتب : عز الدين المعتصم

  

بتاريخ : 13/05/2022