جمالية العنونة في ديوان حليمة حريري: «على حافة الصراخ»

لم يتولد الاهتمام بالعنونة، كما نعلم إلا حديثا إذ توسع وتعمق عبر التأمل والدراسة والبحث النظري والتدقيق المفاهيمي الشيء الذي انتشل العنوان من الإهمال وأعاد له الاعتبار بعدما أغفله جل القدماء، فقد تم تسليط الأضواء على بنية العنوان ووظائفه وعلاقته بالنص أو بالنصوص التي يحيل عليها، حتى لكأنه عند بعضهم يتحول إلى رمز ملازم للنص يعرف به ويذكر العنوان قبل ذكر النص كالاسم بالنسبة للشخص.وقد أسهب كثير من الدارسين في التنظير لمفهوم العنونة وأهميتها وصيغها ووظائفها من أمثال، FERRY. و G.Genentteوغيرهما
وباختصار شديد يمكن القول من غير تحفظ بأنهم جلهم يُجمعون على أن العنوان ليس مجرد تقديم ظاهري للنص ، بقدر ما هو خطوة مركزية ضمن استراتيجية الكتابة، لكون العنوان يسمو بالنص ويشحنه بالإغراء ويحفز المتلقي على الغوص في ثنايا المتن، ويساعده على حسن تأويله.
فهل يا ترى حققت العنونة في ديوان «على حافة الصراخ» قوة التشويق والجذب، وولدت بالتالي ذلك التفاعل المنشود بين العنوان باعتباره الإطلالة الأولى على النص من خارجه وبين داخل المتن ومضامينه؟؟
واضح في البدء بأن المبدعة حليمة حريري في ديوانها الجديد، قد ظلت وفية لنهجها في دواوينها السابقة (غربة الروح وحواس الليل، وظلال الهبوب، …)، وذلك من خلال تفاعل لا يفتر بين الذات والقصيدة، وكأن كلا منهما يبحث عن نفسه في الآخر، فأسرار القصيدة من ذات المبدعة ، وملامح الذات وأسرارها مسكوبة في ثنايا القصيدة؛ مما أكسب نصها الشعري ( الفصيح) هوية لا تخطئها عين القارئ المواظب، من غير أن يعني ذلك ثباتا وسكونا أو تكرارا للسابق في اللاحق، مادامت نصوصها تختلف من حيث المضامين والتيمات، ولكنها تتوحد من حيث الرؤية والتمركز حول الذات المثخنة بهم الأرق ولوعة الانكسار.
فنصوص ديوانها الجديد مثلا (وهي 29 نصا)، عبارة عن باقة أخرى حافلة بالألوان، غنية بالقيم الدلالية والجمالية، ولكنها قُطِفت من الحقل ذاته الذي التقطت منه نصوص «حواس الليل» و»ظلال الهبوب» اللذين سبق أن تشرفتُ بإنجاز قراءة لهما.
فالمشترك دوما هو الحقل الوجداني المشحون بالشجى ولهفة البحث عن ذات مسكونة بهم الاغتراب النفسي وبالنظرة العبثية لحياة بلا معنى، أو لنقل لروح تبحث عن حياة منفلتة..
يتشكل عنوان الديوان (على حافة الصراخ) تركيبيا من مركب إضافي من جزأين : شبه الجملة (على حافة) المكون من حرف الجر «على» التي تفيد هاهنا الاستعلاء والظرفية المكانية معا، بينما يحدد الاسم المجرور بعدها «حافة» المستعلى عليه أي موقع الذات، وهو لفظة فصيحة ظلت متداولة في العامية المغربية بمعنى الطرف أو الجانب، كجانب جرف أو بئر أو نهر، وقد تَرِدُ بفتح الفاء فقط أوبفتحها وتشديدها أحيانا، ..وغالبا ما توظف لفظة «حافة» كناية عن الاقتراب من الضياع (يقال عن الأيتام: هم في حافة منذ وفاة والدهم) أو تعني الدنو من السقوط.. و(حافة) مضاف و(الصراخ) بعدها مضاف إليه؛ وهو يعني معجميا: رفع الصوت والجهر به عاليا إما للاستنجاد أو تعبيرا عن الرفض أو إبداء الرغبة في البوح بالمسكوت عنه…
وهو لا يقتصر على الانسان بل قد يشمل الحيوان أيضا. يقول بدر شاكر السياب في قصيدة «من روئ فوكاي»:
أهداب طفلك اليتيم حيث لا غناء
إلا صراخ البابيون زادك الثرى
والبابيون كما نعلم سلالة من القردة babouins،
وتقول نازك الملائكة :
فسمعنا صراخ الهشين
خلف سخرية الأرقام.
وقد وردت أيضا عنوانا لابداعات سردية من قبيل:
(صراخ في ليل طويل لجبرا ابراهيم جبرا) و(صراخ في الطابق السفلي) للأديبة الليبية فاطمة الحاجي. وكذلك في نصوص دينية وشعرية وغيرها ..
يحيل العنوان في ديوان (على حافة الصراخ) إذن، على أن الذات قاب قوسين من التخلص من حالة السكوت والاستسلام، وعلى نيتها في إظهار ما تخفيه والكشف عنه بصوت عال مسموع.
كما يدل على أن إسناد (الحافة) لـ(لصراخ) هو إسناد غير مألوف، وأن العلاقة بين الصراخ والتعبير عما في الأعماق هي علاقة مجازية، قد تكشف ثنايا متون النصوص التي يحتويها الديوان بين دفتيه عما تؤول إليه من معان ودلالات.
وأول ما يلفت الانتباه، – ونحن نفحص العنوان من حيث تركيبيته المعجمية والإسناية في علاقته بعناوين النصوص- هو أن لفظة «الصراخ» التي تشكل فيه الكلمة المفتاح، لا تتكرر في تلك العناوين، بل على النقيض منها ذلك يتكرر ضدُها من خلال لفظة (الصمت) وبعض مرادفاتها، بل تجعل للبوح سوأة ويتحول الصمت إلى غواية ( غواية الصمت_ هكذا همست للنقصان).
ويتأكد ذلك ويصبح جليا حين نترصده من داخل النصوص التي يحفل متن كل نص منها بترديد لفظة(الصمت) أو أحد مرادفاتها، ويكفي أن نستشهد على ذلك بالأمثلة التالية التي تكررت فيها لفظة الصمت بشكل لافت:
( في ناصية الريح: 3مرات) – (في رفقا أيها الليل 3مرات)
بل نصادف عبارات وجملا بأكملها تؤكد ذلك وتعبر عنه (وأنت بجبروتك- تحب صمت الصاعدين إلى السماء) في قصيدة «قدر متعب»؛ و كذلك وحيدة أرحل.. الصمت وفوضاي يتعانقان في مجاز).
ويأتي الدليل القاطع على أن الصمت كان اختيارا إراديا مؤلما حين تقف الذات على حافة الصراخ:
«خنقت صوت أحلامي
كساعة تاه رقاصها
فانفلت منها الوقت خاسرا»
( قصيدة امرأة تغالب النسيان).
واضح إذن أن الصراخ ظل حبيس الرغبة الداخلية ولم يتحرر كفعل كاشف لما يخالج أعماق الذات؛ أو بتعبير أدق فإن الصراخ باعتباره اعترافا بقي في حدود المسكوت عنه لوجود سلطة قاهرة تمنع من البوح به وتحظر الاعتراف به وتسميته بأسمائه.
وهذا ما يقود إلى خلاصة مفادها أن عنوان الديوان حاضر في عناوين النصوص بل يتردد داخل متونها، من حيث هو تعبير عن رغبة جامحة في البوح بالسر الداخلي؛ أو بتعبير نقدي أدق وأشمل فإن العنوان لم يكن مجرد تقديم معزول عن مضامين النصوص يؤدي وظيفة إغرائية وتشويقية قبلية، بل كان خطوة استراتيجية إبداعية متكاملة يتفاعل مع مختلف النصوص ويخدم عميلة العبور إليها، الشيء الذي أكسب العنونة في ديوان على (حافة الصراخ) قيمتين دلالة وجمالية في آن، أكدت ذلك مهارة الاختزال في توظيف الألفاظ من حيث العدد، وتوظيف المجاز في صياغة عناوين النصوص؛ إذ نجد من بين 29 عنوانا: عنوانين اثنين من كلمة واحدة، مقابل 21 عنوانا من كلمتين، و6 عناوين من أكثر من كلمتين….
وبذلك لم يحافظ العنوان على وظيفته التقليدية في تقديم النص وتشويق المتلقي لقراءته فحسب، بل تكامل معه في تقوية البعدين الدلالي والجمالي وتعزيزهما، فكان الديوان بذلك لبنة أخرى تستكمل تشييد تجربة إبداعية جديرة بالتقدير.


الكاتب : علي درويش

  

بتاريخ : 27/11/2023