جمالية القبح في أعمال الفنان التشكيلي المغربي عبد الرحيم عقبي

بهذه “الانتفاضة الخيالية” تصبح هذه الوجوه الغريبة وتلك الأجسام البشعة التي تبدو أمامنا وكأنها مهملة ، موضوعا يخدم البناء الكلي لهذا العمل الفني في منحه أبعادا جمالية وتعبيرية ، مما جعلها تبدو وكأنها تمج الذمامة و القبح داخل فضاء ميت ، جاء بخلفية رمادية حيادية ، فيها شيء من ضبابية تبعث على الغموض ، و تستفز المتلقي بما تحتضتنه من أشكال لا توجد إلا في المخيلة ، تعكس نظرة فنان مشاكس يحب الاختلاف ، لا يرسم الأشياء كما يراها ، بل كما يتصورها ، فتبدو وكأنها أنجزت في لحظة اللاوعي ، سيما وأنها غير عادية ، تأخذ غرابتها من السريالية ، وتستمد جماليتها من القبح.
إنها عبارة عن حالة غير مألوفة تحدث في الحياة ، و تتجسد أمامنا ، فقبل الشروع في الرسم هناك أشياء حدثت بالفعل كما يرى فرانسيس بيكون ، والرسام يحرص على إعادتها بطريقته الخاصة على القماش لإحيائها من جديد ، و هو الأمر الذي ينهجه عقبي حيث يقذفها بطريقة عمودية ، ليمنحها الشموخ والسمو ، و يزيح عنها صبغة اللاإنسانية ، ويقدمها عارية غير مكتملة ، فيها كثير من التحايل لتجنب الإحراج ، يتعمد من خلالها تقديم صورة ناقصة و تافهة ومخادعة ، لا ترقى إلى مستوى الواقع و لا تمثل حق تمثيل ما يمكن أن تراه العين ، فهو بذلك يدعو إلى التركيز على النظرة و ليس على جسد لا يستقر على حال ، يتغير مع مرور الزمن . فالنظرة بالنسبة له هي الوحيدة التي تفضح ما يضمره الإنسان ، ويعتبر بأن الحوار يمكن أن يتم بالنظرات وهذا الأمر مترسخ عند فنان بار بوالدته ، يعيش في مدينة مراكش ، و يستلهم لوحاته من قلب ساحة جامع الفنا حيث الصخب والكثافة والحركة الدائمة مما يمنحها خاصية فنية معتبرة متعلقة بالاستمرارية والحركية.
إن الإبداع عنده خلق مستمر ، و يتجاوز المساحة الزمنية ، و لا ينتهي عند عمل فني واحد ، كما يحدث في التصوير الواقعي ، ومن خلال هذا الأسلوب ، يسعى إلى فرض شخصيته الفنية الثائرة على النظم التقليدية ، باعتبار أن العمل الفني لا ينحصر عنده أيضا إلا في تقديم الأشياء الجميلة فقط ، بل يتعدى ذلك ليخترق عمق ما تنفر منه العين ، و ذلك ما يتجسد فعليا من خلال هذه الأجسام التي تبدو ساكنة ، ولكن هي في نفس الوقت في حركة دؤوبة بفعل لمسة فنان قدمها في وضعيات مختلفة ، عكس خلفية اللوحة التي يخيم عليها الجمود و السكون و لا تمتد إلا في الزمن .
في خضم هذه التناقضات ، يبقى الغموض يلف هذا العالم من حولنا ، وتبقى هذه الأجساد تتأرجح أمامنا بين أبيض و أسود و كستنائي ، حيث تحضر هذه الألوان بقوة لتقلل من بشاعة المنظر ، و تزيل برودة الموت عن صورة تبدو وكأنها ناقصة ، غير مكتملة كشاكلاتها ، لتأكيد أنه لايوجد في هذا العالم ذلك الكمال المطلق ، فلكل شيء إذا ما تم نقصان كما أشار إلى ذلك الشاعر ، فالصورة تلك ، تختزل أفكار تشكيلي يتجاوز المعايير المتعارف عليها في الرسم ، فهو لا يقوم بتصوير مشاهد ، بل يقوم بتشكيلها بتقنية المزج ، مستلهما صوره من تلك الكوابيس والكائنات العجيبة التي طالما استرسل فرانس كافكا في سرد تحولاتها المسخية ، فهو حينما يتناول تيمة الجسد ، فإنه يعيد صياغته من حيث هو كناية على الإنسان ، و ليس صورة له. وكأننا بالفنان يستحضر كوابيسه الخاصة لينسخ منها الطابع الوحشي لشخصياته ، ويجعلها تحمل ما يشبه أجسادها أو بالأحرى تسحبها وكأنها عبارة عن أشياء لا شكل لها سوى أنها ذات طابع أخروي يمكن تصورها ، سيما وأن المبدع سعى إلى تقديمها بطريقة سطحية هلامية ، وجعلها تتشابك وتلم أشلاءها لتبني فرادها الذي لا يقبل الإدراك ، ومنحها وجودها العاري من الوضوح ، و حاد عن التفاصيل الدقيقة التي تفرضها الواقعية المفرطة ، وتعمد الوقوف على الاختلافات لينسج من كل اختلاف حكاية مرئية لاتنتهي إلا بنهاية هذا العالم ، تأخذ إثارتها من وجوه تستلهم قسماتها من أقنعة تشير إلى الهوية المزيفة ، مما يمنح بعدا اجتماعيا للوحة تعتبر نموذجا لأعمال هذا الفنان ، الخارجة من واقعه الداخلي ، والتي غالبا ما تولد بالألم .ألم يشبه ذاك الذي تشعر به المرأة أثناء الولادة ، فهي تعكس نظرته لهذا العالم الذي يبقى ناقصا مادام الإنسان لايريد أن يرى من حوله إلا ما يسعده ، و لن يكتمل في نظره إلا بالقبح والجمال معا ، و لذلك تجد كائناته في أعمال أخرى مبتورة الأرجل ومقطوعة الرؤوس ، هي طبعا عبارة عن أجساد تجعلنا نستحضر أعمال عزيز أبوعلي ، الفنان المغربي الذي تعايش مع شخوصه المعذبة التي التصقت به طوال حياته ، و تحيلنا كذلك إلى حد ما على عجائب محمد الإدريسي وعوالمه من حيث فظاعتها ، وكونها حالات استثنائية ، ولقد انتبه إلى ذلك بعض النقاد من قبلل ، وكأنه بذلك يثور على ردة فعل الرسام الفرنسي هونري ماتيس” Henri Matisse” وتفاؤله الزائد الذي جعله ، على الرغم من أن النازيين اعتقلوا زوجه وابنته الوحيدة ، لم يتخل عن رسم الورود الجميلة ، ليس لعدم الاكتراث ولكن للتعبير عن تحمل العذاب والألم.
وإلى جانب ذلك ، يأخذ الاختلاف مساحة في هذا العمل من خلال أشكال تنقلب رأسا على عقب ، أرادها الفنان أن تبدو كذلك كردة فعل اتجاه تلك الفوضى التي تحدث في كل آن ، سيما وأن الفنان أصبح في عصرنا هذا يعاني من العزلة و الاغتراب ، و يشعر بأن عالمه في تباعد مستمر بفعل تطور التكنولوجيا ، وذكاء اصطناعي يصنع الخوارق التي تتجاوز القدرة على الخيال ، وتتعدى ذلك الإدراك الذي يمكن بواسطته التعبير عن أسرار الحياة ، وهذا الأمر الذي جعل السي عبدالرحيم عقبي يتخلى عن الواقعية للبحث عن ذاته وفرض وجوده بالتفرد و الاختلاف ذاك.


الكاتب : عبدالسلام صديقي

  

بتاريخ : 25/12/2023