جمعية الشعلة بين الصور والذكريات .. لقد كنا حمقى لأننا كنا نحلم

(إلى الفاضلة
فاطمة المدرعي)

من الصعب الحديث عن جمعية الشعلة في سطو، وبضع صفحات. كأن الصعوبة تلك مستفزة لروادها الأوائل، وكل الذين حافظوا على شعلتها طيلة هذه المدة. وكأنها تمددت في أفق هذا البلد دون الاهتمام بالحدود. بهذا يمكننا الحديث عن شعلة الجمعية وجمعية الشعلة في بعض نقط تاركا نقطا أخرى للآخرين. صحيح أن الفعل الثقافي الجمعوي في سبعينات القرن الماضي مؤسس على الحلم، حلم بالتحرر من كل شيء قائم، وهذا لا يستقيم إلا بالانخراط في نشيد المرحلة، مرحلة السرديات الكبرى المطرزة بالطوبى والحلم، وهي مرحلة مرفوعة بشعاراتها وأفكارها وأناشيدها من قبيل الالتزام والمثقف العضوي والثقافة المضادة وحركات التحرر العالمي وفلسطين، وعلاقة السياسي بالثقافي وتحرير الإنسان والمطالبة بالعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديموقراطية والأفق الاشتراكي الذي نناضل من أجله… لم تكن هذه الأفكار حينها تروم التجريد وركون صاحبها في موقع متعال، بقدر ما سعى حاملو هذه الأفكار إلى أجرأتها وممارستها في الواقع دون حساب الحدود، ودون الخضوع للمنطق الداخلي لهذه الفكرة أو تلك، ومعنى ذلك أن ملامسة هذا الجيل رفع أحلامه قرب السجون وقرب أقبية التعذيب المحجوبة على السكان والمغاربة على العموم.
هكذا سلكت هذه الأفكار طرقا متعددة لتفعيلها في الواقع كالكتاب والمدرسة والحزب السياسي والجمعيات الثقافية والتربوية. فجمعية الشعلة شكلت في زمنها طريقا لتوزيع الحلم على الجميع وتفعيل الفكر العقلاني والحداثي بين روادها والمنتسبين لدائرتها.
لكن ما هي النقط التي شدتني في تجربتي المتواضعة وعلاقتي بالجمعية. سأحاول الإجابة على هذا السؤال الصعب في النقط التالية:
في الموسم الجامعي 80/81 دعيت للمشاركة في لقاء قصصي نظمته جمعية الشعلة بالحي المحمدي الدار البيضاء بدار الشباب. أتذكر حضور الفقيد محمد زفزاف والرائع دوما محمد صوف والصديق محمد عزيز المصباحي. امتلأت القاعة عن آخرها، واستمر النقاش خارج القاعة وفي المقاهي القريبة منها، وفي بيت الصديق عبد المقصود الراشدي، هذا هو اللقاء الأول الذي أشارك فيه مع ثلة من الكتاب الكبار ساعتها طالبا في السنة الأولى بقسم الفلسفة. وكان ثلة من الأصدقاء ينتمون إلى هذه الجمعية كرئيسها في الحي المحمدي ذ.عبد المقصود الراشدي هذا الأخير الذي لا يعرف في هذا العالم سوى الله وجمعية الشعلة. وكأن الشعلة مسته بمس لا ينفع معه علاج حتى ولو احترق بها. وحتى أكون صادقا أتذكر أننا في السنة الموالية ( موسم 81-82) لم نجتز الدورة الأولى من الامتحان ، وكان علينا أن نستدرك رغبتنا في النجاح إلى الدورة الثانية في شهر شتنبر. مادتان شكلتا عائقا أمامنا وهما مادة المنطق ومادة الإحصاء. طيلة العطلة الصيفية كنت أشتغل على المادتين رفقة الصديق عزيز توفيق إلى حد أن أصبحنا أكثر جهوزية لتجاوز أي مسألة إحصائية أو منطقية. وقبل أسبوع من الامتحان توجهت رفقة الصديق إلى الرباط لمعرفة المزيد من المسائل المنطقية والإحصائية وهناك التقينا الصديق عبد المقصود قادما لتوه من أحد المخيمات التربوية المنظمة من طرف الجمعية، كان علي أن أعيد الاشتغال معه وزمن الامتحانات يقترب منا، اجتزنا الامتحان بنجاح، وكانت فاطمة شاهدة على ذلك. هذه الذكرى المتسللة عنوة من الذاكرة تفيد مسألة رئيسة وهي أفضلية الجمعية على مستقبل الطالب. وكأن الالتزام الجمعوي هو الوجود عينه، بهذا المعنى يليق بي أن أقول إن جمعية الشعلة هي عبد المقصود الراشدي، فالعلاقة سرية يصعب فهم تفاصيلها، التفاصيل تسكنها الشياطين. لنضع التفاصيل بين قوسين وأقول في حدود العلاقة شبه المرضية بين الجمعية وصاحبها . لا أود مسايرة الجمعية منذ تأسيسها إلى اليوم ولا أريد ذكر الحلم الذي امتد من الحي المحمدي إلى ربوع الوطن، ومن جمعية محلية إلى جمعية وطنية، بل الذي يستفزني أحيانا هو هذه العلاقة المرآوية بين عبد المقصود والجمعية دون نسيان الجيل المؤسس الذي لا يزال يحضر ويغيب بين الأرشيف والذاكرة في بيت الوالدة القريب من سينما السعادة، تسكن الجمعية وكأن الأم رحمة الله عليها حاضنتها الأساسية، وكأن مسا جنونيا يربط أفراد الأسرة بالجمعية، في كل مرة يتحدث فيها عبد المقصود عن الجمعية كما لو كانت هي الوطن . هي مغامرة لا يستقيم بريقها إلا بالصبر والعناد، الأمر أصعب في زمن صعب، زمن حراسة الحلم والتضييق عليه ومراقبته وعدم توفر الإمكانات المادية لأي فعل، دخلت الجمعية هذه المغامرة بصفر درهم، واستطاعت أن يكون لها صدى وطني وعربي .
في منتصف ثمانينات القرن الماضي، حين اشتغلت كمدرس للفلسفة بمدينة سطات، ارتبطت تنظيميا بالجمعية، سواء بتأسيس الفرع المحلي أو بارتباط بمجلسها الإداري، هنا تقدمت الشعلة نحو أفق ثقافي أوسع تمثل في تدشين مهرجانات ثقافية بمدن مختلفة، كمدينة سلا التي اختصت بالشعر ومساءلة تجربة الشباب، ومدينة مراكش التي جعلت القصة القصيرة موضوعة رئيسة لمهرجانها، ومدينة فاس التي وضعت الأسرة موضوعا لأشغالها، ومدينة سطات التي اختارت الفلسفة أفقا للتفكير والمساءلة، فيما اهتم فرع الحي المحمدي بقضايا الفكر المغربي المعاصر في مهرجانه إضافة إلى مهرجان تطوان ومدن أخرى طوتها الذاكرة في الأرشيف. وحتى نكون منصفين مع الزمن والتاريخ، نقول إن جمعية الشعلة هي الجمعية الأولى في تاريخ المغرب المعاصر التي سنت مهرجاناتها الثقافية أفقا للمساءلة والنقاش المتعدد، وسأزيد على ذلك دخولها في هذه المهرجانات بصفر درهم، لا أدري كيف تم ذلك، كأن ملائكة ما تساهم بشكل جدي في توفير مستلزمات هذه الملتقيات من سكن وأكل وما يرافق ذلك من مصاريف، لا نستطيع اليوم إعادة نفس الطريقة واستعادة بريقها وكأن الزمن ليس الزمن، وكأن الحلم ضاق في الأفق وانمحى في الأوطوروت.
لقد اتسع اهتمام وانشغال الجمعية، فالجمعية بمكتبها المركزي لم تعد مهتمة بالأنشطة التربوية كما تعودت على ذلك، وإنما اتسع اهتمامها نحو موضوعات كبيرة تهتم بالمرحلة السياسية والثقافية، الشيء الذي تم بمقتضاه تفجير قضايا ومشاكل مفبركة في الإعلام والنميمة الثقافيتين من قبيل أن جمعية الشعلة تجاوزت حدودها وبدأت تشتغل على قضايا يختص بها اتحاد كتاب المغرب أو قضايا تهتم بها الأحزاب السياسية وهلم جرا من مشاكل مفتعلة أعاقت بشكل أو بآخر مسيرة الجمعية آنذاك، ومؤدى ذلك أن سعة اهتمام الجمعية والأنشطة الموزعة على ربوع الوطن متعددة من ضمنها عدم استفادة الجمعية من تفرغ عدد من أعضائها، وأيضا تسلسل الملتقيات من مدينة لأخرى… كل ذلك وضع الجمعية في الصورة وجعل الأسئلة تتناسل حول طبيعتها، والأهداف المسكوت عنها وعلاقة أعضائها بحزب القوات الشعبية وما إلى ذلك من أسئلة ساهمت بشكل أو بآخر في زرع البلبلة بين صفوف أعضائها. يلزمنا وقت طويل لتشريح هذه التفاصيل حتى وإن كان الشيطان يسكنها.
ثمة علاقة عجيبة بين بيت الشعلة ومحيطها، الحي المحمدي، وكأن هذا الأخير شاهد على المغرب في تحولاته السياسية والتاريخية. هذا الحي الذي قدم الكثير لهذا البلد مثلما خصب الذاكرة المغربية. إن ذاكرة الحي المحمدي مشعة بأكثر من ضوء في الزمان وفي المكان، لا نحيل هنا على فريق كرة القدم المعروف، ولا على حلقة اليسار السعيد والمكتئب معا. بقدر ما يعيدنا المكان إلى نشيد المرحلة وما أنتجته من ظواهر وعلامات رمزية في المسرح والشعر والغناء…. ناس الغيوان كفرقة غنائية مضادة ومستفزة للذوق الغنائي السائد ساعتها، إنها تعبير عن ثقافة المقهورين.. هذا القهر الماثل داخل هذا الحي مجسدا في المعتقل السري درب مولاي الشريف. في هذا الخليط العجيب، ولدت جمعية الشعلة إذن رافدا من روافد نشيد المرحلة، وهي بذلك تفتح لنا هذه العلاقة العجيبة بين زمن الفعل ومكانه، أفقا للتأمل والكتابة.
هل مرت خمسة عقود على نشأة؟ هل كبرنا إلى هذا الحد؟ وهل نستطيع فتح مسار جديد بين راهننا وزمن التأسيس؟ وهل نعلق زمننا على بوابات الفايسبوك ونوافذ الأنترنت؟ أم نترك الصور والذكريات تتناسل في ما بينها إلى حدود النسيان؟ تعودنا منذ بداية الألفية الثالثة على دفن الصور والذكريات في المقابر، وعلى احتفالات التكريم والتأبين معا، وكأننا خلقنا في زمن العولمة طريقة وطقسا لدفن الذكريات والصور، وما تبقى لا يهم أطفالنا وهذا الجيل الباحث عن صور ضائعة في الأرض وفي السماء وما بينهما هل سنتذكر أصدقاء الشعلة الطيبين في المدن البعيدة وفي الخيال؟ هل نتذكر اليوم الأول لتأسيس الشعلة؟ هل نتذكر منازل الإخوة التي احتضنتنا في وقت من الأوقات بحب نادر؟ هل يمكننا رسم الحلم من جديد؟ يمكننا الآن وغدا أن نكتب بأيادي متعددة عن جمعية الشعلة وفق مقاربات مختلفة، هذا أمر ممكن إذا ما قامت الجمعية بإعادة التفكير في الذاكرة والأرشيف بطريقة عقلانية تروم التفكير والمساءلة النقدية.
لا أريد كتابة الأسماء حتى لا تورطني ثقوب الذاكرة، فالأسماء محترقة بشعلة المرحلة. أما الآن فليست لدي معطيات دقيقة عن أنشطتها ولا عن قيادتها الجديدة، كل ما هناك أن الجمعية مثل باقي الجمعيات في المغرب كانت مدرسة نضالية تحررية، وهو أمر يفيض حلما وأملا. لا أدري إن كنت أجبت على سؤال الجمعية، ولا أدري إن كنت أحطت باقتصاد شديد ببعض القفشات المنسلة من الصور والذكريات.
لقد كنا حمقى لأننا كنا نحلم، ولأن الكلمات تتزاحم في الحلق، ولم نتحرر بعد من الذاكرة، أقول للجمعية ولأصدقائها : شكرا لكم لأنكم قدمتم للمغرب المعاصر الشيء الكثير بأقل تكلفة ممكنة.


الكاتب : حسن إغلان

  

بتاريخ : 19/12/2025