نظمت جمعية الشعلة للتربية والثقافة (فرع الحي المحمدي) يوم الجمعة 7 مارس 2025 حفلا تأبينيا للشاعر الراحل محمد عنيبة الحمري، بدار الشباب الحي المحمدي، التي يعد الراحل أحد الوجوه الثقافية التي شاركت في بناء هذا الصرح، حيث شكلت جمعية الشعلة فضاء من الأفضية التي احتضنت لحظات أساسية في مساره الشعري المائز .
ويعتبر تأبين الشاعر محمد عنيبة الحمري بهذه الدار ذا رمزية قوية،حيث فيها أنشد المرحوم قصائده في مناسبات ثقافية متنوعة في ضيافة جمعية الشعلة التي واكب فعلها الثقافي والتربوي لخمسة عقود.
وقد اختارت جمعية الشعلة تنظيم هذا التأبين بحضور أجيال مختلفة من أصدقائه وزملائه وبعض ممن عايشوه في بعض من مساراته الإبداعية، وكذلك وسط حيه وجيرانه ومجايليه بالحي المحمدي إلى جانب عائلته. وقد شارك في هذا التأبين كل من الأساتذة: أحمد قابيل، عبد الحميد جماهري، أنيس الرافعي، سعيد منتسب، احمد جاريد، عادل حدجامي، حسن نرايس، أحمد الرضاوني.
“لقد فقَد شعب الفرح مواطنا من أصلح
مواطنيه شاعرا كانت مواطنته في
مغرب العقود التي عاشها هي الفرح،
بعد أن هزم الحب البرجوازي الصغير”..هكذا أدخل الشاعر عبد الحميد جماهري خيط الحزن من خرم إبرة الفرح وهو يؤبن رفيق الحياة والشعر محمد عنيبة الحمري عنيبة الذي “كان دوما سخيا، في ترتيب الفرح
والدعابات حتى بتنا مقتنعين بأن سيختار طريقته .
الآن بدا أنه في كل قصيدة من نشيجه كان
يختار كلمة ينتقيها بدقة نحات برونزي،
يدس فيها روحه” .
وعن تقاسيم الغياب التي نحتها غياب عنيبة في أرواح أصدقائه ومحبيه قال جماهري:
“الآن بالفعل يجدِّد تعريفه على محك الغياب
عنيبة الحمري الصوفي يفرك الضحكات
في ورشة خياله الشعري ككل أصدقائه
يحلو لي أن أمعن في رسمه بطريقة عفوية
بالماء في خليج الجاهلية والخبز في عداد
المسيح الاخير والورق الأبيض في صحيفة طائر في الجنة.
وأضاف جماهري أنه “في الليل، عندما
يتوسل الشعراء إلى الظلمة التي تمنحهم
جنيات المجاز، يضيء هو بفصاحة الروح،
يسهر حتى تنام الكلمات في نوتة عود، أو
سولفيج قهقهة هكذا يخاتلنا ويخبئ لا
شعور القصيدة في واضحة الحياة “.
في شهادته حول صاحب “الحب مهزلة القرون”، اعتبر القاص أنيس الرافعي أن الراحل حين كان يكتب” يصير هو الحياة ..الحياةَ تقريبا . حياةٌ قوامها ازدواجية ممضة، عانى منها طويلا صاحب ” تكتبكَ المحن”، وكثيرا ما اشتكى لي منها في أحاديثنا الحميمية المشتركة . ”
وأضاف الرافعي وهو يصف تجليات الراحل المتعددة أنه ” هو تارة الرجل المستقيم ، النظامي، العمومي ، الطهراني، الذي لا تشوبه شائبة . وتارة أخرى هو الغجري، الديونيزوسي، العدمي، الجذموري، غير القابل للتنميط داخل قالب مؤسسة أو عائلة أو حزب أو إطار . ” معتبرا أن محمد عنيبة الحمري “عاش محمد نهب قَنَاعتين متضاربين، و سجين قِناعين صارمين قاهرين، صنو الإله “جانُوس”، سيد البوابات والمداخل والانتقالات والطرق والتخوم والممرات والمخارج في الميثولوجيا الرومانية .
رأى الناس جميعُهم وجهه الأمامي، الذي كان ينظر، خطفاً، إلى أيام الأنام الزائلة، ولم يلحظوا قاطبة ، إلا لماما، وجهه الخلفي الذي كان يرنو، مليا ، إلى الأبدية””، مشيرا الى أن الراحل ” تغلَّبَ على سطوة هذين القناعين / الوجهين ، المعبرين بامتياز عن اغتراب الكينونة القاسي، عن طريق الاعتصام بكل من فضيلتي الصمت الاستغناء”.
وعن تجربته الشعرية المتفردة رأى الرافعي أن “محمد عنيبة الحمري، وبعد ديوانه الأخير ” ترتوي بنجيع القصيد “، قد دلف إلى درب شعري جديد وعر، كان أقل ارتيادا وأكثر استيحاشا، دون أن يكون بصحبته أحد من السالكين .
إنه لَعمري درب القُرَحِ و المَجْلَبة الوجوديين، و المدخل الضيق للمسرة المسمومة، التي تسرب إليها زئبق الثعالب ، جراء أسقام البدن المتعاقبة، إلى درجة أنّه وهو صاحب الصنائع الشعريّة العليا ، و الممتلك لناصية جناحي سكة محراث الكلمات ، الماشي الهوينى ، خفضا ودعة واتئادا، في اللّغة ، ببلغة راقص ” أحواش” حريف ، لم يعد قادرا سوى على الاستهتار باليقينيات الباليّة والسطحية للكتابة..”.
الشاعر والقاص والاعلامي سعيد منتسب، اعتبر في شهادته حول الراحل أن “عنيبة شاعر قوي. قوته ليست في “التدمير الاستعراضي” لأبنية النص وإيقاعاته، بل في مناعة جهازه الشعري؛ وهي المناعة التي راكمها بجدارة الممسكين بـ “العروض الشعري”، إقامةً وتمكناً وتمزيقاً وتخريقاً؛ وبرشاقة منجل يحصد القمح، وعينه على الخبز في فرن القصيدة.”
وعن اختياره الانزواء في الظل بعيدا عن بريق الشمس الأخاذ والخادع، رأى منتسب ان الراحل محمد عنيبة الحمري، اختار البقاء ” خارج الضوء المبهر للشللية ومشاعل قطاع الطرق النقديين، رغم أنه هو أحد روّاد القصيدة السبعينية وأكثرهم حضورا وانتظاما وإنتاجا وجاذبية. ذلك أنه أعطى قصيدته بعداً متفرداً في تفاعلها مع الشعر والنثر في أرقى صياغاته، وعالج في شعره الإنساني والوجودي برؤية منقوعة في المياه المتكاملة والعميقة للكون. كل ذلك لأن الإيديولوجيا لم يكن لها في رأسه مكان، وبتعبير الماغوط “جميع غرف مخه مشغولة بالشعر والنزوح إلى البراري الخرافية وعدم الراحة”. باختصار كان، في ذروة الانزياح إلى “الأفكار الحمراء”، متفرغاً لجنونه الداخلي وحده. أليس هو “الشاعر الذي تكتبه المحن”؟
وأضاف منتسب أن الراحل “شاعر متشبث بعناده وتفرده. غير منفصل عن ذلك “اللوح الرملي” الذي يكتبه مزاجه وريحه، كل يوم على نحو جديد. أليس “عيب الانفصال هو أن يكون مرغوبا لذاته؟.. شاعر يرفع رأسه، ولا يكف عن التحليق في صيرورة يدرك أسماءها وألسنها وأنسابها. يحلق بثقة لأنه ابن الانغراس الهائل في ما لا يجعله مهيض الجناح.”
الناقد السينمائي والكاتب حسن نرايس، الذي اشترك مع الراحل مسقط الرأس والهوى، اعتبر وهو يعرض لتجربة الراحل الشعرية وتفردها أن :” لغته الشعرية شاعرية الكلام. رشيقة أنيقة. سهلة ممتنعة بإيقاعاتها الموسيقية الرنانة في المكان، التائهة في الزمان”.
وأضاف صاحب “الحي المحمدي وجوه وأمكنة” أن “الرحل كان يدرك دائما كيف يقتنص الجماليات من داخل القبح والويلات..”
الأستاذ ورئيس جمعية مدرسي الفلسفة أحمد قابيل، أعاد عقارب الساعة إلى زمن البدايات، بدايات الصداقة المتبّلة ببهارات الطفولة وشغب التلاميذ، ومغامرات أبناء الحومة، أبناء كريان سنطرال، مهد النضال المشتعل، سياسة وفنا والتزاما. قابيل عاد إلى مراتع الصبا بحي السكيين، وإلى مقاعد مدرسة الاتحاد قائلا:
“تجمعني بالفقيد مجموعة من القواسم المشتركة، فنحن أبناء نفس الحومة حي السككيين، ونفس الوسط الاجتماعي: أبوانا معا سككيان، ونفس المدرسة الابتدائية التي تقاسمنا فيها القسم لثلاث سنوات 56-57-58 (مدرسة الاتحاد التي أنشأها مجموعة من الوطنيين من بينهم الأستاذ الراحل عبد الرحمان اليوسفي في زنقة درب مولاي الشريف قرب سوسيكا)، ثم درسنا في نفس الثانوية بمعهد الأزهر بلارميطاج، ثم كانت لنا نفس الاهتمامات الأدبية. وقبل ذلك كنا نعيش في نفس الحي الكبير الحي المحمدي كاريان سنطرال، حي الفداء والنضال الذي أعطى الكثير من المقاومين.. الحي الذي ارتكبت فيه مجزرة 7و8 دجنبر 1952 المعروفة بأحداث فرحات حشاد والتي سقط فيها مئات الشهداء..”
واسترسل قابيل في سرد الذكريات المشتركة مع الراحل، ذكريات وحَّدَها الوعي السياسي المبكر، والانخراط في الانشغالات العامة والقضايا المصيرية للشعب المغربي آنذاك المرتبطة بظروف التهييء لاستقلال المغرب.وفي هذا الصدد يتذكر” شاركنا جميعا في المواكب التي كانت تجوب شوارع الحي المحمدي (رجوع محمد بن يوسف من منفاه، تقديم وثيقة الاستقلال) خاصة في الشارع الذي يمر أمام سينما السعادة والذي سمي في ما بعد بشارع الشهداء. سيارات وشاحنات تذرع هذا الشارع جيئة وذهابا نتلو فوقها نحن أبناء البلوك وباقي أبناء الحي ونهتف مع الهاتفين: بن يوسف إلى عرشه. كانت لحظات حماسية لا تنسى. كل ذلك شكل جزءا من وعينا السياسي واهتمامنا بالشأن العام.”
من جهته نقل صديق الراحل أحمد الرضاوني وزميله في الدراسة رغم أنه كان يسبقه بسنة دراسية، شهادة مؤثرة تثبت جزءا من نبوغه الأدبي المبكر، حيث كان محمد عنيبة الحمري، في المرحلة الثانوية نموذجا للتلميذ المجد والمكافح، الذي يسبق أترابه في التحصيل الدراسي، بل وقف بشكل مفصل على نهمه الكبير لقراءة الكتب، بل حفظه لها، ومن ذلك كتب العروض والنحو التي كان يحفظ بعضها عن ظهر قلب، فضلا عن سرعته الكبيرة في القراءة، إذ كان يقرأ مئات الصفحات في ظرف قياسي، وينهي الكتاب الواحد في يوم أو يومين، وهو ما بسط أمامه الطريق إلى الكتابة الشعرية، وإلى الإجادة فيها، بعد انتقاله إلى كلية الآداب ظهر المهراز بفاس.
وركز عادل حدجامي، الأستاذ الجامعي بكلية الآداب بالرباط، في شهادته الفلسفية، على ما كانت تعنيه الحياة لـ”العراب” محمد عنيبة الحمري، الذي لم يكن يخشى الموت إطلاقا، وكان يقتنص كل الأشياء التي تقربه من الحياة، مضيفا أن الراحل عاش لأنه فعل كل شيء كان يريده من الحياة.
ونقل حدجامي أثر الراحل في المكان بين أصدقائه وخلانه، وكيف كان يضج بالضحك الواسع العارم العميم، والصافي بمثل صفاء سريرته.. في تلك الأماكن من الدار البيضاء، هناك حيث كانا يلتقيان قبل أن يغادر كل منهما إلى وجهته. هو إلى الرباط، وعنيبة إلى مكان آخر.
ولم ينس المتحدث أن يشير إلى أنه قدم شهادتين سابقتين عن صديقه عنيبة؛ وهما الشهادتان اللتان ينقل فيهما كيف التقيا، وكيف صار ذلك اللقاء الأول نقطة التقاء لا تنتهي من المحبة الراسخة والتقدير المتبادل.
اللقاء التأبيني اختتم بكلمة العائلة التي حملت في طياتها امتنانا للحضور واعتزازا بإرث الشاعر الذي لم يكن مجرد فرد من أسرته بل كان فردا من عائلة الشعر من عائلة الإبداع التي لا تعرف الغياب. وجاء في الكلمة أن كل أفراد عائلة الراحل يشعرون بالفخر حين يعاينون رسوخ الوالد في قلوب أحبته وجيرانه وزملائه، وأن الراحل لم يكن إطلاقا أبا تقليديا، ولم يحاول، في أي لحظة من لحظات حياتهم، أن يفرض عليهم تصوره للحياة، وكان يخاطبهم بحنان كبير، ويوجههم برفق وكياسة. كما كان منتبها لشؤون أسرته، يغدق عليها ماديا ومعنويا، يشجع ويحرض ويأبه ويحاور.