تعيش دبلوماسية جنوب إفريقيا حالة من الاضطراب والتخبط، وتبدو وكأنها عند مفترق طرق. وتمثل الحادثة الأخيرة المتعلقة بطرد سفيرها لدى الولايات المتحدة، إبراهيم رسول، أبلغ دليل على ذلك.
وقد أثار قرار الحكومة الأمريكية إعلان إبراهيم رسول «شخصا غير مرغوب فيه»، انشغالات وتساؤلات عميقة من لدن المراقبين الدوليين والطبقة السياسية في جنوب إفريقيا، حول «حالة الاضطراب» التي تعيشها السياسة الخارجية للبلاد.
ويرى العديد من المعلقين السياسيين، أن هذه «الصفعة الجديدة» ليست سوى حلقة ضمن سلسلة من الإخفاقات الدبلوماسية لجنوب إفريقيا خلال العقود الثلاثة الماضية، في عهد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الحزب-الدولة الذي يوجد في حالة تدهور واندحار.
ومن الواضح أن حالات التخبط الدبلوماسي لبريتوريا ليست وليدة اليوم. ولعل ما يدل على ذلك دعمها لدول منبوذة، ومساندتها لجماعات مصنفة على أنها «إرهابية»، وكذا تمويلها للإرهاب وتبييض الأموال، كما يتضح من عدة تقارير وإدراج البلاد ضمن «القائمة الرمادية» لمجموعة العمل المالي الدولية.
تخبط دبلوماسي مزمن
وثمة مثال آخر على هذا التخبط السياسي الدبلوماسي، حينما أعلن الرئيس سيريل رامافوزا يوم 25 أبريل 2023، خلال ندوة صحفية أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم طلب انسحاب جنوب إفريقيا من المحكمة الجنائية الدولية. وبعد أقل من 24 ساعة على ذلك، تراجعت الحكومة وأعلنت أن الرئيس لم يكن يقصد ذلك، وأن الأمر مجرد «سوء فهم». فماذا يعني ذلك؟ هل ستنسحب جنوب إفريقيا أم لا؟
وتنضاف إلى هذا الارتباك السياسي سلسلة من القرارات الغريبة التي اتخذتها حكومة جنوب إفريقيا مؤخرا، والتي خلفت غضب المجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة. وتشمل هذه القرارات قانون مصادرة الأراضي الذي يفرض، بحسب العديد من المراقبين، «تمييزا عنصريا جائرا» في حق المزارعين البيض، وقانون «بيلا» الذي تعتبره شريحة واسعة من المجتمع بمثابة تهديد خطير للغة والثقافة الأفريكانية، للمنحدرين من أصول المستوطنين الهولنديين في القرن السابع عشر.
ومن خلال إقرار هذين القانونين يبدو أن الهدف هو تشديد الخناق على المزارعين البيض، وهو قرار مثير للجدل أدانته العديد من المنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية، بما في ذلك أعضاء من حكومة الوحدة الوطنية.
وقد أثارت القرارات المضطربة لبريتوريا، غضب الإدارة الأمريكية التي اتخذت على إثر ذلك قرارا تاريخيا بمنح «وضع لاجئ خاص» لفائدة المزارعين البيض الجنوب إفريقيين الذين يمكن قبولهم بسرعة في الولايات المتحدة. وقد نشر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصته «تروث سوشيال» أن «أي مزارع من جنوب إفريقيا يسعى إلى الفرار من ذلك البلد لأسباب تتعلق بالسلامة، ستتم دعوته إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع مسار سريع للحصول على الجنسية».
كما لمح ترامب إلى احتمال عدم مشاركته في قمة قادة مجموعة العشرين المقررة في نونبر المقبل بجنوب إفريقيا. وقد سبق لوزير الخارجية الأمريكي أن رفض المشاركة في اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين، الذي انعقد في فبراير الماضي بجوهانسبورغ.
إخفاقات دبلوماسية تدل
على الافتقار إلى قيادة
وردا على ذلك، وجه بعض المعلقين أصابع الاتهام إلى مصالح حزبية ضيقة لقادة جنوب إفريقيا، متهمين إياهم بالتضحية بالمصلحة الوطنية من أجل تحقيق مكاسب شخصية. وأشار آخرون إلى افتقار جنوب إفريقيا لقيادة دبلوماسية وسياسية حقيقية. وفي ضوء «الإخفاقات الدبلوماسية» الأخيرة لبريتوريا، تعالت عدة أصوات من داخل السلطة التنفيذية نفسها، تطالب بإجراء مراجعة رسمية للسياسة الخارجية للبلاد. وترى بعض الأحزاب السياسية، مثل «أومكونتو ويسيزوي» و»محاربون من أجل الحرية الاقتصادية» و»التحالف الديمقراطي»، أن «المؤتمر الوطني الإفريقي، الحاكم منذ نهاية عهد الفصل العنصري عام 1994، لا يمكنه مواصلة احتكار توجيه السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا».
وتؤكد هذه الأحزاب أن السياسة الخارجية للبلاد لا ينبغي أن تظل أسيرة للرؤى الضيقة أو أن تمليها الولاءات التاريخية والأخوية للمؤتمر الوطني الأفريقي.
ويلاحظ المعلقون كذلك، بأسف، توجها مقلقا في سياسة جنوب إفريقيا الخارجية، أدى إلى تآكل مصداقيتها على الساحة الدولية. فقد بات موقف جنوب إفريقيا أقل إقناعا بسبب تناقضات دبلوماسيتها في عدة قضايا، ودعمها المستمر لحركات انفصالية في إفريقيا وخارجها، وكذا لأنظمة استبدادية على غرار نظام روبرت موغابي في زيمبابوي.
ولذلك، تنبغي الإشارة إلى أن المقاربة المتهورة لسياسة جنوب إفريقيا الخارجية أدت إلى دعوات لمراجعة ذاتية لاختياراتها السياسية والدبلوماسية. وما فتئت البلاد تضاعف من أوجه غموضها وتناقضاتها، ما يعزز الانطباع بأنها بالفعل عند مفترق للطرق.