لا تخجل النجمة الهوليودية، جودي فوستر، التي عاشت المجد المبكر حتى قبل أن تعيه من تعداد أفضال قامات سينمائية احتضنتها وشحذت موهبتها الأخاذة لتواصل رحلة سفر أمام الكاميرا وخلفها منذ أزيد من نصف قرن.
تستعيد الفنانة المكرمة في الدورة 22 للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش كواليس تجربتها الفارقة في «سائق التاكسي» لمارتن سكورسيزي وهي بعد في الثانية عشر من العمر، حيث تتشرب من احتكاكها بالممثل روبيرت دي نيرو مهارة الارتجال ومنهجا في بناء الشخصيات. لكن نبرة الاعتراف تتصاعد بشكل ملحوظ، متحدثة، اليوم الأحد في فقرة «محاورة»، وهي تقر بأنها تعلمت من ديفيد فينشر الذي أدارها في فيلم «غرفة الذعر» أكثر من أي مخرج آخر.
على منصة أثثتها سينوغرافيا بلمسة مغربية أصيلة، وأمام جمهور حاشد من مختلف المشارب، انقادت فوستر، في لقاء نشطته الناقدة أندريا بيكار، الى رحلة عبر محطات مسارها الحافل، بانفتاح وصراحة لا تهادن حول اختياراتها وتجاربها الإنسانية والفنية. «كنت أظن أن مهمة الممثل تكمن في الاشتغال على النص وطريقة التعبير عنه بالأسلوب الطبيعي ما أمكن»، تقول، قبل أن تخوض التجربة مع بطل «سائق التاكسي».
لكن جودي فوستر لا تدين حصرا في معرفتها ووعيها السينمائي الى حرارة البلاتوهات وتوجيهات المخرجين وملاحظات النقاد، بل تكشف عن دور والدة كانت بحق «مدرسة للسينما» عرفتها على عوالم سينمائيين كبار من حجم أنطونيوني وفيسكونتي وفاسبيندر وتجارب فيلمية قصية. كانت مشاهدة الأفلام وحضور المهرجانات ترحالا متواصلا برفقة الأم، جعلها تطرح مبكرا الأسئلة الكبرى حول الرؤية ودور الفن والفنان وتقنيات الأداء وغير ذلك.
أورثت هذه المرجعيات حسا متطلبا عاليا وصرامة مع الذات لدى الفنانة التي كشفت أنها لم تكن راضية عن أدائها في فيلم «المتهم» تحت إدارة جوناثان كابلان، والذي توجها بجائزة أوسكار. ولعل هذا الشك هو ما يحرك شغفها وإرادة الاستمرار في صناعة الأفلام. «أعود دائما الى الاستوديوهات لإثبات أني قادرة على مزيد من العطاء. في الغياب عن الشاشة بين فترة وأخرى يراودني شعور بعدم الثقة».
مع النضج، باتت جودي فوستر تبحث في الشخصيات المعروضة عليها عن أشياء لا تتوقعها، وتجريب أجناس جديدة نسبيا في مسيرتها، مثل الكوميديا. لكن الثابت في اختياراتها هو طرح الأسئلة الصعبة والحارقة التي تتصل بالعدالة وتهز بنيات الهيمنة. وهي في هذا الباب، لا تخفي التزامها النسوي في محاربة السلطة الذكورية، بما في ذلك داخل محافل الصناعة السينمائية.
بجرأة طبيعية ويقين مطمئن، تنحاز بطلة «صمت الحملان» لجوناثان ديمي إلى حساسية المخرجات معتبرة أن الرجال غير مدربين على روح الإنصات العميق والتواصل الحقيقي الندي، بما يعطي ميزة للمرأة المخرجة التي تبدو أقدر على الانغمار في الشخصيات التي تديرها والتوغل في أغوارها. كممثلة ومخرجة، تراهن على تقديم شخصيات مستقلة تكسر جدران الصمت، لنساء يروين قصصهن بصوتهن الخاص.
بين الجماهيرية وسينما المؤلف، لا تحمل جودي فوستر موقفا فاصلا في تحديد اختياراتها. يهمها أن تشارك في أفلام واسعة الانتشار، تلامس أرواح وعقول مشاهدين من ثقافات مختلفة، لكنها تحرص على أن يتم هذا التواصل في إطار عمل فني أصيل لا يتنازل عن مقومات الجودة، بل يقودها الى خوض تجربة فكرية ونفسية وروحية أسمى.
لأنها بدأت مبكرا، وبدا أنها قدمت ما يشبع نهمها، توقعت والدة جودي فوستر أن تنهي النجمة الصغيرة آنذاك مسارها الفني في سن الثامنة عشر، ليكون عليها تدبر حياة أخرى في الجامعة، لكن نبوءة الأم الراعية سقطت أمام قدر فني عظيم جعل من جودي فوستر أيقونة عابرة للأجيال والثقافات. فخارج المدار الهوليودي، مثلت في أفلام ناطقة بالإيطالية والألمانية، وخرج لها حديثا فيلم بالفرنسية «حياة خاصة» لريبيكا زلوتوفسكي. وتود، مثلا، لو تعيش لحظة سينمائية لأحبة مجتمعين حول مائدة مغربية.

