محطة أولاد زيان: من حلم
إلى كابوس
لا يمكن لزائر محطة أولاد زيان بالدار البيضاء عائدا من رحلة أو متجها إلى وجهة ما إلا أن يُصاب بالدهشة والصدمة لما آلت إليه أوضاع هذه المحطة التي أُنشئت أواخر التسعينيات للمساهمة في التخفيف من مشكل النقل بين المدن المغربية، من وإلى الدار البيضاء، خصوصا أيام الأعياد والمناسبات والعطل، لكنها لم تزدد، منذ ذلك الوقت، إلا تدهورا يلاحظ في كل جنباتها وكل مرافقها، فالمحطة التي بنيت قرب الروضة المنسية فوق أرض وهبتها شامة بن مسيك لمدينة الدار البيضاء من أجل تحويلها إلى حديقة غناء تكون متنفسا للسكان ومكانا لاستجمامهم، تحولت بجرة قلم إلى محطة طرقية غابت فيها رؤية الواهبة لأرضها وعوضت الأشجار والمساحات الخضراء التي حلمت بها، بالمرافق الإسمنتية الباردة والحافلات الملوثة للبيئة والأزبال المنتشرة في كل مكان، في عدم احترام سافر لشروط الهبة، وهو ما يعطي للورثة الحق في استرجاعها خصوصا أن جماعة الدار البيضاء لم تتبع إجراءات تحفيظ الأرض إلى يومنا هذا.
عالم سفلي يثير
الدهشة والصدمة
الصدمة ستكون أكبر حين سينزل الزائر مضطرا إلى الطابق تحت الأرضي لهذه المحطة الكارثة، ليُصدم بمشاهد لبشر خارج زمن الانضباط والأمن المفروض أن يعم كل مكان، فقد أبى بعض رواد هذا الطابق إلا أن يكونوا جزءا من مشهد درامي لفيلم من أفلام الواقع الأسود الذي لن يستطيع أبرع المخرجين السينمائيين التقاط ولو لقطة معبرة لهؤلاء الشخوص التائهين تحت الأرض، في عالم سفلي ميتافيزيقي غير طبيعي، تظنه غير حقيقي ولكنه يتجاوز الحقيقة بمراحل، حيث تتداخل المأساة بالبؤس، وتتعطل قوانين المجتمع، وتُرفع أعلام التسيب.
شخوص مع حيواناتهم، أبرزها كلاب مكمّمة أو بدونها، مشردون مستلقون مباشرة فوق أرضيتها أو فوق كراسيها الإسمنتية، بعضهم يجوب المكان بنظرات شاردة، أحيانا، تنم عن مبلغ ما استنشقه من دخان مواد مخدرة، فيما السكارى يترنحون هنا وهناك، يشنّفون أسماع المرتادين بما طاب لهم من كلمات بذيئة ونابية، فتيات مهاجرات من جنوب الصحراء يتجولن بين الممرات دون هدف أو ربما هناك «هدف ما» وراء تواجدهن هناك، لا تختلف معهن في شيء مثيلتهن من بنات المدينة أو المهاجرات من مدن أخرى، اللواتي رمتهن أقدارهن التعيسة في هذا المكان المظلم والمتسخ الجنبات، ليجدن أنفسهن سجينات هذا العالم السفلي المخيف، يدخلن في عراكات في ما بينهن بالأيدي و»نتيف الشعر»، تحت محطة طرقية منفلتة عن الأعين المعنية بتسييرها، بعضهن يرافقهن أطفال صغار، فيما اللصوص والنشالون يتحينون الفرص لنشل أي شيء يقع تحت طائلة نسيان أو غفلة ركاب مصابين بالدوار من كثرة ما استنشقوه من أدخنة الحافلات وروائح كريهة…
أطفال، شباب، نساء ورجال، سود وبيض، بملابس رثة وتقريبا من كل جنسيات هذه القارة السمراء، وجدوا في المحطة الطرقية أولاد زيان، وفي طابقها تحت الأرضي، الملاذ الآمن للقيام بجميع أنواع الممارسات الخارجة عن القانون، بعيدا عن أي مراقبة ودون خوف أو وجل، وكأنهم مخلوقات غير طبيعية في عالم موازٍ، يمارسون حياة أخرى غير حياتنا، ويعيشون يوميات غير يومياتنا في أمن وأمان.
تسيب وفوضى وغياب الرقابة
هذا الخليط الغرائبي يحيلنا على سؤال: من يقع تحت سلطته مراقبة ما يروج داخل المحطة الطرقية، وتسيير ما يدخل إليها من حافلات قادمة من جميع أنحاء المغرب، وما تضمه من محلات تجارية تبيع أي شيء وكل شيء، بدءا من الأكل المشكوك في نظافته إلى الهواتف النقالة وما يرتبط بها، وما تنتجه من مشاكل، وما تفرزه من تحديات يومية، وما تضمه عوالمها الفوقية والسفلية من مشاهد، وما تعرفه من تفشي ظواهر السرقة، الدعارة، والمخدرات، النقل السري..التسول… ناهيك عن التلوث وانتشار الأزبال والوسطاء والكورتية الذين يتخاطفون الزبائن كما يختطف الذئب شاة شاردة، مظاهر غير خفية عن الأعين العادية المارة مرور الكرام من هناك، فما بالك بمن المفروض فيهم تسيير وتدبير ومراقبة محطة أُريد لها أن تساهم في حل مشكل النقل الطرقي بين المدن المغربية، بعد أن تم بناؤها على أرض وهبتها للمدينة شامة بنت مسيك، من أجل إنشاء مقبرة للمسلمين وحديقة، فإذا بها تتحول إلى وكر لكل أنواع الموبقات والتصرفات الخارجة عن القانون، محطة تركتها الجماعة لحالها ونفضت أيديها عنها بعد الكم الهائل من المشاكل التي تنتجها خصوصا ما يتعلق بالمحلات التجارية المنتشرة بها والمقاهي التي تجتذب كل من هب ودب، والتي وجد أصحابها أنفسهم في وضع اللايقين، والذين يرفضون أداء واجبات الكراء للجماعة دون سند قانوني، إثر انسحاب الشركة المدبرة للمحطة منذ إحداثها سنة 1999، دون محاسبة أو مساءلة، محملة بالملايير والأرباح الكثيرة، والتلاعبات في التصاميم بعد أن أضافت محلات وأكشاك إلى المحطة خارج الضوابط القانونية.
من الاستياء إلى الإحباط
من الواقع المرير
بعض مرتادي المحطة القادمين من الجبال البعيدة والمدن القصية بعد أن قضوا عطلة العيد لم يخفوا امتعاضهم مما آل إليه هذا المرفق العمومي المأسوف على حاله، رواد عبروا عن تبرمهم وأسفهم لاضطرارهم إلى ارتياد هذه المحطة الطرقية رغم مساوئها (سامية. ل)، مسافرة في أواخر العشرينيات من عمرها عادت للتو إلى الدار البيضاء رفقة والدتها بعد قضاء عطلة العيد في إحدى المدن البعيدة قالت إنها لا تجد فكاكا من هذا المكان الذي» كنضطر نجي ليه باش نسافر في كل عيد رغم كل مساوئ الكورتية كيسبّوك إلا ما مشيتيش معاهم، وحتى المراقبة ما كيناش.» وأبرزت أنها تتعرض للاستغلال المستمر من قبل الوسطاء وأصحاب الحافلات والكورتية الذين يستغلون كال مناسبة للزيادة في الأثمنة، فيما قال (أحمد. غ) « ما عرفت إمتى غادا تقاد هاد المحطة ما عرفتش علاش كيبقاو يقولوا غادي يصلحوها، دايما نفس المشاكل ونفس الفوضى«، أحد التجار بأحد المحلات التجارية في الطابق تحت الأرضي أبدى امتعاضه من توافد أعداد كبيرة من المتشردين و«الشماكرية» الذين يلجون محله في كل لحظة وحين بحثا عن «بريكة» لإشعال سجائرهم الملغومة، أو طلبا للدراهم واستجداء لبعض الأشياء الغريبة «كنا تهنينا منهم في شهر رمضان ولكن ها هو ما رجعوا ثاني «!
بجواره «سيبير» مساحته صغيرة جدا به بضع حواسيب لا تتجاوز الثلاثة تقريبا، زبائنه مهاجرون سريون وجدوا فيه الملاذ الذي سيصلهم بأقربائهم هناك في بلدانهم البعيدة أو ربما للبحث عن طرق هجرة جديدة إلى الفردوس الأوروبي، غير أن المساحة الصغيرة جدا لهذا المكان ستكون سببا في المناوشات والمشادات التي تتفجر بينهم ثم تعود لتخبو بسرعة كما بدأت مثل زوبعة داخل قفص الأحلام هذا، الذي يشكل بالنسبة إليهم جسرا لتحقيق آمالهم والنافذة الضيقة التي يطلون منها على أحلامهم الصعبة التحقيق…
فشل الإصلاح: مشاريع لم تتحقق وما زال الوضع على حاله
الاختلالات التي تعرفها محطة أولاد زيان أثارت وتثير التساؤل، فبعد أن تم الإعلان أكثر من مرة أن هذه المحطة ستخضع لإعادة التأهيل وأن هناك محطتين أخريين سيتم بناؤهما بالدار البيضاء في كل من منطقتي سيدي البرنوصي والحي الحسني للتخفيف من الضغط الحاصل على هذه المحطة، والذي تعرفه خصوصا في المناسبات الدينية والعطل المدرسية إلا أن شيئا من ذلك لم يكن ولم يتحقق، ولا تزال «دار أولاد زيان» على حالها، خصوصا أن أربع طلبات عروض لإصلاح المحطة الطرقية للدار البيضاء، قد باءت بالفشل إذ لم تتلق شركة «كازا طرانسبور» المفوّضة من الجماعة لتسييرها قبل أن ترفع يدها هي الأخرى، أي استجابة من الشركات المختصة، ما يطرح تساؤلات حول مصير هذا المرفق الحيوي !
فكيف سيتم إيجاد الحلول المناسبة لبداية هذا الورش المهم، مع العلم أن محطة أولاد زيان لا تساهم سوى في زيادة الصورة القاتمة للمنطقة التي أنشئت فيها، وما تسببه من مشاكل للسكان المجاورين خصوصا وقد أصبحت قبلة للمهاجرين السريين، وهو ما يدعو إلى إعادة النظر في طريقة التسيير والبناء ولم لا تكن هناك حلول مبتكرة بعيدا عن النمطية، والتفكير في تسيير وبناء يساير القرن الواحد والعشرين ولم لا تكون مشابهة للمحطات الجديدة للقطارات والحرص على الجانب الأمني ووضع كاميرات المراقبة في جميع طوابقها بل حتى خارجها وأمام الشبابيك الخاصة ببيع التذاكر…
محطة أولاد زيان: وصمة عار على جبين الشأن البيضاوي المحلي
الفوضى والعشوائية التي تعرفها هذه المحطة وصمة عار على جبين المسيرين للشأن البيضاوي الذين رفعوا أيديهم مستسلمين لواقعها المزري وكأنها غابة يسود فيها اللاقانون ويخضع فيها الزبون الضعيف لنزوات «الكورتية» وتسابقهم لجمع أكبر عدد من الركاب مقابل ما يجنونه من أموال وما يخلفه من اتخذها مأوى وملجأ خفيا لممارسة كل أشكال الانحراف والتسيب، من خوف لدى مرتاديها، بدءا من استهلاك الممنوعات ووصولا إلى السرقات والتحرشات، في ظل غياب تام لأي رقابة أو تدخل من الجهات المعنية، إنها محطة تحولت من فضاء عمومي يُفترض أن يؤمِّن تنقُّل المواطنين بكرامة، إلى نقطة سوداء تجسِّد فشل السياسات المحلية في تنظيم النقل وضبط الفضاءات المشتركة.
لقد أصبحت الحاجة ملحة لإعادة النظر في مآل هذه المحطة التي لا تشرف بشيء العاصمة الاقتصادية، وبلادنا على أبواب تنظيم تظاهرات عالمية وقارية، محطة لا تختلف عن باقي المحطات الطرقية بالمدن المغربية إذا ما استثنينا محطة الرباط، فمحطة أولاد زيان تشبه باقي محطات البلاد الطرقية في كل مظاهر الإهمال والفوضى وقلة الاهتمام، محطة تركت رهينة النسيان والإهمال، وقبلة للمتشردين والمهاجرين السريين الهاربين من واقعهم الاقتصادي والاجتماعي المزري ليجدوا فيها مأوى مؤقتا يُنسون فيه كما نسيت قبور الروضة المنسية المجاورة !