جوليا كريستيفا تتحدث عن: برنامجها اليومي، زين الدين زيدان، المطبخ، التناص

أقبع داخل جسدي بين طيات المشهد المنطقي الفرنسي، فيأويني وسط شوارع باريس السلسة، المبتهجة والميسورة، يلامس أشخاصا يرفضون، محبطين حميمة ممتنعة، لكنهم مهذَّبون في نهاية المطاف .لقد أسسوا كاتدرائية نوتردام واللوفر، واجتاحوا أوروبا وكذا جزءا كبير من الكرة الأرضية، ثم عادوا ثانية إلى بلدهم :لأنهم فضلوا متعة تسير جنبا إلى جنب مع الواقع. ونسيتُ حادثة الموت التي وقعت في سانتا باربارا.
جوليا كريستيفا، رواية(حاجات)

 

صامويل دوك: تعتبرون من بين مائة أشهر مفكر على المستوى العالمي، وضع يوحي بالاحترام لكن أيضا يبعث فضولا معينا، يمتزج في إطاره الفضول مع الإعجاب. هناك تقدير لمشروعكم، وكذا أفكاركم المجدِّدة والثرية، يُمتدح قلمكم الكلاسيكي المتميز،غير أن حضارة الصورة لايمكنها الاكتفاء بالقراءة الوحيدة .بدلا من اكتشافكم، يحدث في المقابل بلورة تخمينات تخلق لكم شخصية نغذيها بمختلف تخيلاتنا الذاتية عن الغرابة. هكذا، ستُحاط بكم صورة امرأة صارمة، وهي صفة متواترة مع حبر قلم أتباعكم وكذا المناوئين. لكن في حقيقة الأمر، فاجأني رِفقكم الشديد، روح الفكاهة لديكم، رهافة حسكم ثم بساطتكم. أتمنى أن يتمكن القارئ من «رؤيتكم›› مثلما أراكم. فكيف تقضون عموما يومياتكم؟
*جوليا كريستيفا  :أبدو لهم دائما صعبة. يفاجئني هذا التصور، لكن عند لقائي بالأشخاص المتابعين لأعمالي، سرعان مايغيروا انطباعهم ويصفونني بأني كريمة، تصنيف يباغتني بدوره ! تختلف صورهم وتمثلاتهم عن شخصيتي، بحيث تبدو لي أشبه بطوابع بريدية يتوخى إلصاقها على مجرى مائي. يبدأ يومي ليلا، لأنه منذ وفاة أبي، أصبحت أستيقظ غالبا في الساعة الثانية صباحا .تضاءلت كيمياء الحزن بعد موته، غير أن الاستيقاظ ليلا استمر .أبادرُ لحظتها إلى الردِّ على مختلف رسائل البريد الإلكتروني، أو أحاول الإبقاء قدر مايمكن على وضعية ذهنية حالمة حتى أدون بعض الملاحظات بالنسبة لمؤلفاتي المقبلة. أكتب بقلم رصاص على دفتر صغير، ثم أعيد نسخ ذلك في ما بعد.هكذا، تبدأ إيحاءات جديدة في التبلور، وتشرع موضوعات في بث إشعاعاتها، فتعثر هلوسات على كلماتها، تتناوب فيزيائية الليل مع الذاكرة الطفولية لليد، القلم، الورقة. قد يتكرر هذا لمرات عديدة، بحيث يتوطد النهار عبر الليل، مع ذلك أنام، أحب الخلود إلى النوم.لذلك يعتبرني فيليب (سوليرز) مدمنة كبيرة على النوم.

صامويل دوك :إذا كان الليل خصبا بالنسبة لإبداعكم، ينبغي ليومياتكم أيضا أن تكون مكثفة. كيف تنظمون إيقاعها حتى تتمكنوا من إنجاز أنشطتكم المهنية العديدة وكذا حياتكم العائلية، ثم الكتابة والأسفار؟

جوليا كريستيفا:أتناول وجبة فطوري عند الساعة الثامنة صباحا، شايا بالحليب، أحيانا بعض الحبوب الغذائية وفاكهة .أتقاسم هذه اللحظة مع دافيد وفيليب نناقش خلالها برنامجنا اليومي. ثم نظرا لحالة الهشاشة التي يعانيها كل واحد منا وكذا اهتماماتنا المتعددة، فقد اعتمدنا على مساعدين لتدبير شؤون المنزل. بعد ذلك، أنتزع لنفسي لحظة قصد تنظيم برنامج اليوم، وتفويض المهام. مازلت أستفيد من استمرار عادات بورجوازية قديمة (قهقهات) !مثلا، أنا السيدة المبتهجة لا أهتم بشؤون المطبخ ولا أنهض من الطاولة.لكن الإشراف التنظيمي يمثل في نهاية المطاف مهمة جسيمة! أحيانا قليلا من الرياضة أو نزهة في حديقة لوكسمبورغ .انطلاقا من حدود الساعة العاشرة، أبدأ في الاشتغال : وضع مواعيد بخصوص عيادة التحليل النفسي، لقاءات، دروس في الجامعة أو مؤسسات أخرى، التحضير لكتب. خلال الظهيرة، أحاول وضع جدول محدد تهم غذاءات مهنية، سعي يتحقق، لأن أغلب زملاء العمل والطلبة والناشرين يسعفهم الوقت خلال تلك الفترة. في ما بعد، أباشر ثانية عملي، غاية الساعة السابعة ونصف مساء بالتركيز أكثر فأكثر على محاضرات مرئية عبر الأنترنيت.هكذا، شاركت في آخر ندوات’’حلقة كريستيفا»على مستوى جامعة فانديربيلت (ولاية تينيسي)ثم تأخذ وجهة بلدان أخرى؛ بحيث أجري باستمرار مقابلات بين باريس ولندن،عبر السكايب مع أنيش كابور(نحات هندي-إنجليزي)، بخصوص جدول معرضه في فيرساي .أيضا، أتحاور مع عادل عبد الصمد(نحات جزائري)، الذي يضع اللمسات الأخيرة على إقامة في لوس أنجلس، أو مالقة، وينتظر مني مقالة للتقديم…قنَّنت أخيرا العديد من أسفاري، لاسيما نحو الولايات المتحدة الأمريكية، لأني أصبحت لا أطيق أكثر فأكثر عمليات المراقبة اللامتناهية داخل المطارات. أستعيد ابتداء من الساعة الثامنة والنصف، انتمائي إلى نطاق الأسرة. أتناول العشاء في أغلب الأوقات مع فيليب ودافيد. بعد ذلك، ينفرد كل واحد منا بنفسه كي يقرأ مصغيا إلى الموسيقى، توقفنا عن’’ارتياد مطاعم المدينة لتناول وجبات العشاء’’.أجلس قليلا أمام التلفاز، لاسيما مشاهدة القنوات الإخبارية أساسا قناة(CNN)،وكذا المناظرات السياسية. في المقابل، لا أحب متابعة البرامج الأدبية، تجنبا لكارثة التسطيح التجاري !وتظل مباريات كرة القدم، متعة ! لقد رافقت أبي بانتظام إلى الملعب.لاتنطوي كرة القدم عن أيِّ سر بالنسبة إلي .غالبا، نتابع نحن الثلاثة أنا وفيليب ودافيد في غرفة الجلوس المباريات المهمة .إن تخلَّفتُ عن الحضور لمتابعة وقائع الاحتفالات الكروية الكبيرة، يبدي دافيد وفيليب احتجاجهما.عاينتُ كثيرا مهارات زين الدين زيدان الذي كان صديقا لدافيد ومتواصلا معه؛ أحيانا تأخذني تفاصيل اللحظة جدا بحيث لا أتحمل إكمال اللقاء حينما يكون «فريقنا الوطني» منهزما، لاسيما خلال حقبة زيدان !أنا ودافيد من المشجعين الأوفياء لفرقة باريس سان جيرمان، لكن فيليب الذي يحب الاستفزاز، أليس كذلك، يتجه غالبا إلى معارضتنا، ويراهن على جيروندان بوردو، أو’’البريطانيين’’وفاء للصلة الأولية التي تجمع بين بوردو وملكة بريطانيا وكذا تحديه لـ’’فرنسا المتعفنة’’ .نتذوق أيضا كثيرا عروض حفلات للموسيقى الكلاسيكية والباروكية، تعتبر في هذا الإطار سيسليا بارتولي المفضلة الأولى لدينا داخل البيت.غير هذا، يتابع كل واحد منا برامجه المفضلة داخل غرفته سواء من خلال التلفاز أو جهازه الرقمي.

 صامويل دوك :هل كريستيفا شخصية اجتماعية؟

جوليا كريستيفا : إلى حد ما !كنا خلال فترة نرتب استقبالات هنا على مائدة العشاء، غير أن فيليب ودافيدا توقف اهتمامهما بذلك، انطلاقا من كونهما متمردين وفوضويين  :’’يخوض أبي حربا ضد الإنسانية» يحاول دافيد تشخيص الموقف في صيغة مؤاخذة؛ لكنه يتقاسم هذه الحالة الفكرية.اعتقدتُ بأني ربحت الرهان خلال السنة الفارطة وسنعيد استئناف بعض اللقاءات على مائدة العشاء، أو على الأقل حفلات كوكتيل. لكني أخفقتُ.مع أني طاهية جيدة وأحب تقديم أطباق إلى أصدقائي.

صامويل دوك : مثل ماذا؟

جوليا كريستيفا :سمك السلمون المرقَّط بالزنجبيل ثم شريحة لحم الخنزير بأربعين عودا من نبات القرنفل !هل سمعتم سابقا عن ذلك!

 صامويل دوك :لا.أنا طباخ رديء، بل خطير !لذلك أفر من الوصفات وكذا المطابخ وأوانيها الشاقة !

جوليا كريستيفا :تعلمت هاتين الوصفتين من أصدقاء رجال. أشخاص في غاية الجدية،لا يتكلمون كثيرا وتقريبا يتوقفون عن الكلام خلال لقاءات على طاولات عشاءات، تنظمها زوجاتهم، بينما تجدهم لايغادرون مواقد الطهي .أفكر في الناشر إيفان نابوكوف مع زوجته كلود، وأيضا جون توسان ديسانتي، الفيلسوف الشهير، صحبة زوجته دومنيك، وقد توفيا. أدين بالفضل إلى توكي(لقب ديسانتي)في ما يتعلق بتحضير طبق شريحة لحم الخنزير بالقرنفل، أظن بأن أصلها يعود إلى منطقة جزر الكارايبي. تطهى على نار هادئة، وتغرس شريحة اللحم بأعواد القرنفل، ثم تشوى قليلا، بين طيات مرق شفاف حلو-حامض بالفلفل الأحمر والأناناس :تقدم بالأرز الأبيض تزينه الفطريات الصينية !أما عن الطبق المستلهم من إيفان نابوكوف، فالأمر يتعلق بسمك السلمون المرقَّط بالزنجبيل. هل تهمكم؟ يمكنكم تعويضه ببعض قطع السلمون، ثم تشبعونها بالنبيذ الأبيض لجزيرة ري(Ré)(ضروري)،مع ملعقة من مسحوق الزنجبيل.ثم يطهى البصل بعد تقطيعه بكيفية رقيقة،مع أجزاء ليمونة، ومزجهما بزنجبيل طري مطحون(إنه الأساسي) ،ثم تضعون السمكة مغطاة بورق الألمنيوم داخل الفرن لدقائق معدودة فقط، تحديدا عشرين دقيقة وتتناول مع الأرز، في حين يفضل البعض حبات بطاطس جزيرة ريRé،دائما !هل لاحظتم، عزيزي صامويل؟ ينزع النساء عموما كي ينتجوا ثانية وصفات أمهاتهن بنفس الكيفية، بينما الرجال يبتكرون خلال لحظات طهيهم. لقد أدركت تماس الإبداع !في الآن نفسه، أهيئ بالتأكيد وجبات تعود إلى أمي، كما الحال بالنسبة لقطع الحلوى بالجبن أو أوراق سبانخ رقيقة جدا، نجدها اليوم في فرنسا لدى باعة البقالة اليونانية. لكن أمي برعت على مستوى المطبخ البلقاني، وعجزتُ بهذا الخصوص عن مجاراتها.في المقابل، أعتبر جيدة للغاية في ما يتعلق بالمطبخ الفرنسي حسب أغلبية الآراء  :بوسعي تهيئ صلصلة ببنكرياس العجل، بل وطبق رائع قوامه رأس العجل مع صلصلة البيض، وقد أثارت إعجاب الرئيس شيراك ! إجمالا، أترك لنفسي بين فينة وأخرى، فسحة من الوقت لتحضير وجبات خلال المساء،لكنها حاليا،’’خاصة»جدا جدا،لا حضور للضيوف (قهقهات).

صامويل دوك :.لديكم صلة وطيدة جدا مع هذا الحي أي الدائرة السادسة، شارع داساس، والذي يشبهكم، لأنه يبقى خطا هادئا بين الطبيعة والمدينة، شيئا ما خارج الزمان ومع ذلك في غاية الحيوية.

جوليا كريستيفا :في بداياتي، مثلما أشرت لذلك سابقا، وفر لي صديقاي شابتاي ونيللي أول بيت مستأجر،33 شارع دي غوبيلنس.بينما كان فيليب(سوليرز) يقطن حين معرفتي به للمرة الأولى، 88 شارع بور رويال.فقد هيأ له والداه غرفا وظيفية ثم رتبناها وجعلنها مسكنا.عشقت عش الطائر، الموجود في سقيفة الطابق الخامس، ذي الطابع الطلابي البوهيمي جدا، وقد صار اليوم فضاؤه مكتبا لفيليب. بعد ولادة دافيد، استأجرنا شقة في شارع ميشليه.بعد ذلك، تحديدا عام 1989، اشترينا المنزل الحالي في شارع داساس.ابتهجت ‘’نيفي’’Nivi، بطلة روايتي «ساعة الحائظ المبتهجة››، لكونها علمت بأنها ستغادر العالم صوب وجهة أشجار الزيزفون وكذا نحل حديقة لوكسمبورغ. بالتالي، تعكس حلمي، مادام المنزل الحالي لايشرف سوى جزئيا على الأشجار. لم أتمكن من تحقيق الحلم، وهو ماتفعله بطلتي لصالحي.

 صامويل دوك :.دالّ جدا ارتباطكم بباريس، وفرنسا

جوليا كريستيفا : نعم. بل أبعد مما أتذكر، فقد شكلت حديقة لوكسمبورغ نوعا من المغناطيس.بعد شارع دي غوبيلانس، انتقلت إلى الدائرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة، لكن ابتداء من مرحلة زواجي، توقفت هنا.فقد تبلورت أحداث روايتي المعنونة ب الساموراي، تزامنا مع أولى خطوات دافيد، عند ممرات حدائق فيرساي. بينما يعبر الإيراق الذكي للترف رواياتي الأخرى، فقد هيمن على رواية ساعة الحائط المبتهجة قبل اكتشاف ستان(Stan)/دافيد، لفيرساي.

صامويل دوك :لقد عثرتم هنا على الفضاء والصيغة، من أجل شرح رامبو. تمثل الحدائق والفكر، تاريخا طويلا، منذ أبيقور. بالتالي، صادفتم هنا ‹›ترِكة ذكريات››(رينان).

جوليا كريستيفا :تجسد حديقة لوكسمبورغ،فكرة معينة عن فرنسا،بحيث يكمن هنا تطلعي إلى فرنسا،جليا ضمن الاستمرارية بين العصر الكلاسيكي، والأنوار، والمثقفين، والطلبة، والأطفال…فرنسا الأبدية،لأنها فتية للأبد.

 صامويل دوك :. فرنسا الأبدية، إنها مناظر طبيعية،مناطق،أمكنة ذات تنوع رائع.ماهي المناظر الطبيعية التي تفضلونها؟ ماهي المواقع العزيزة عليكم؟

جوليا كريستيفا :. حديقة لوكسمبورغ،جزيرة ري، فرساي، مثلما أشعر بضعف حيال قلعة(Vaux-le-Vicomte)،حيث كان دافيد سعيدا جدا،أيضا بالنسبة لقصور لالوار وقد أبدى دائما حماسته كي يعود إلى زيارتها باستمرار…واحسرتاه، توجد فضاءات كثيرة ينبغي ارتيادها…إيطاليا، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، آسيا…سواء كنتَ ملكيا،وطنيا متطرفا أو حتى من أتباع ماري لوبن،أعتقد بأن فيرساي تمثل الجوهرة العليا للتاريخ الفرنسي،مهما قاله السياسيون المحترمون لحظات استهزائهم من قيمة المعلمة بالنسبة إلى الهوية الوطنية.أحتفل بالعبقرية التاريخية لفرساي وأتطلع صوب التحاقها بالحداثة. نعم، هنا يكمن رهان رواية ساعة الحائط المبتهجة،حيث يلتقي كلود سيميون باسمونPassemant،الساعاتي الفلكي، والعالِم جيوفاني كاسيني، ثم إيميلي دو شاتلي عالمة الرياضيات ومناصرة الحركة النسوية؛نصادف أيضا فولتير،مدام دو بومبادور،لويس الخامس عشر ثم فلكي –فيزيائي معاصر من إبداعي،والذي يقدر عدديا التمدد الكوني والمادة السوداء.


الكاتب : ترجمة : سعيد بوخليط

  

بتاريخ : 03/09/2021