جَواد المُومني، على الرّغم مِن تَعَدّدِ اهتماماته، يبقى في صَميمِه كائناً شعريّاً يحتفي هنا بذاته المبدعة في أفقٍ خاص، قِوامُه هذه التوليفة المتوازنة بين كتاباته الأدبية وحياته العامة.. فَبَدءاً من ديوانه الأول «تاريخُ دخّان.. وصداقة ريح»، يَبقى دَوماً هذا الصوتَ المَشدودَ لجوهر الشعر، من أوّلِ بوحه المكنون في بداياته الحالمة لآخر صمته الناطق باختلاجات الرؤى الموغلة في تفاصيل الأشياء..
«للناسِ
أقنعة عديدة،
وللشاعر
قِناعٌ واحد:
فَرَحُ القصيدة..»
هو نفسه المُعَمّدُ بماء نَبعه الفياض من فجاج الروح في طهرانيتها المتسامية حتى انحدارات العالم السحيقة، وذلك بموازاة حياة الشاعر العضوي المؤمن بضرورة حضوره المتواصل في ساحة الهتافات، رغم توالي الخيبات نهاية كل مرحلة، وانحسار القناعات حقبة بعد حقبة، وجيلا بعد جيل.. وفي كل ذلك، تبقى القصيدة هي مِنَصّة الآمالِ المُتطلعة للأجمل، وهي الملاذ الأخير لترميم الذات ومناورة الخراب..
«حينما باع
الشاعرُ
روحَه للقصيدة،
اشترى
المَتاه..»
بهذا نجد جواد المومني حريصا على الالتزام بخطوط هذا الإطار لصورته المعهودة، حاملاً بِيَدٍ قَلماً يناشدُ به أكثرَ من حلم وقصيدة، بِهِمّةِ شاعرٍ لا يهادنُ نزوعات الطمسِ والتدمير، مُصِرّاً على أن يَخطَّ بدُخّانِ المُدُنِ الواطئة تاريخاً من كبرياء عَصِيٍّ عن مجاراة التطبيع مع زمن الخسارات.. وبالأخرى رافعا لافتةً يحاول بالكاد من خلالها شَدَّ الانتباهَ لما تَبَقّى من أمَل، بصمودِ مناضلٍ خارجَ حساباتِ المَزادات، يَتَّخِذ الرّيحَ بكلِّ هَوجائها عَصفاً صَديقاً لطلائع الصّحو القادمة، ويَجعل مِن كلِّ تقلباتها المحتملة بوصلة يسترشد بها في رحلة التّيه الملتحمة في آن بنزوعات الشعر الحالمة ومأساويّة الإنسان المُتفاقِمَة..
«الشاعرُ
في حفره صَوبَ الضّوء،
يُصاحبُ نوايا البُروق،
يحتمي بتعريشة الوميض
وينامُ
في حضن الوهج
الصدوق..»
في كل ذلك، ظلّ على خط التماس بين ارتيابات الإنسان الشاعر وهواجس المناضل المكابر، بدرجة عالِيَة من الحس الجمالي اليقظ تفاديا للانسياق وراء حماس الحشود والسقوط في فَخِّ الشعارات التقريريّة الجوفاء أو مَطبّة الانحسار الإيديولوجي الضيق الذي يخنق نَفَسَ الشاعر ويطمس أفق القصيدة.. لذلك، منذ أن أطلَّ علينا من «أوَّلِ البَوح.. آخر الصّمت»، لم يَحِد عن مسلكه المتوثبِ لِنَحتِ تجربة شعريّة موصولة على الدوام بدواخله وإنصاته العميق لمكنونات ذاته المبدعة في تفاعلها اليومي المحبط وانجذابها الرمزي الحالم.. وعلى هذا الأساس تواصلت مجاميعه تباعا في رسم ملامح شاعر رؤيوي مرتبط بقضايا الهَمِّ الإنساني في تخطي بلاغات الشعارات المُفحِمة لبلاغة الشعر الملهمة..
«متى
تَكثفت
لغة الشّاعر،
انفلتَت
تفاصيلُ الخراب
وصاهَرَتِ
الجُمُوح..»
حتى في مناورته للخراب بكلِّ هذا الجُموح، لا يألو جواد المومني شعراً في بناء معماره النصّي بانزياحاته الاستعارية المُتَمَنِّعَة خارجَ اعتباراتِ التلقي المَألوف، لأنه مُتَطلعٌ حتماً لسقوفِ جمالياته الممكنة، ومُؤمنٌ مُسبَقاً باستحالة فهم الشاعر إلا في آفاقه التأويلية العميقة:
«لن نَفهَمَ الشاعرَ أبَداً.
في الغَيمِ يَهيم
مُدَثراً نواياه برأسِ نَخلة،
يَظلُّ كالنسر مُحَلقاً،
وإن حَط
بينَ الأحراجِ يُقيم.»
انطلاقا من هذا النص الافتتاحي للكتاب، نُلامِسُ الطابعَ التوصيفيّ لصورة الشاعر التي تتناسَلُ مَلامِحُها تِباعاً عبر سلسلة مئوية من الومضات الشذريّة، ما يُتيحُ لنا بالتّدرّج الإمساكَ بدزينةٍ متكاملة من المفاتيح اللازمة لولوج عوالمه الرمزية الخاصة.. وهو ما يُتيحُ لنا أيضا من البدء تكوينَ تَصَوّر جوهري عن ماهيّةِ الشعر كَجِنسٍ رُؤيويٍّ غيرِ قابلٍ بالضّرورة للفهم، باعتباره مَبنىً جماليّاً للتذوق، ومعنى دلاليّاً للإدراك، ومعطى وجوديّاً من صَميم الحياة.. وفضلاً عن كل ذلك، هو انعكاسٌ مَجازيٌّ للسياق المزاجيِّ للشاعر وطبيعة رؤيته للذات في معانقتها للعالم، ومن ثَمَّ لا سبيلَ لِفَضِّ مَغالقِه أو شَقِّ مَضَايقِه إلا بِفَكِّ شفراته المرموزةِ مِن خِلالِ التماهي مع ذاتِ الشاعر لاستكشاف خفايا عالمه..
«حين باعَ
الشاعرُ روحَه
للقصيدة،
اشترى
المتاه..»
هنا، بالشعر وحده نناورُ الخراب كي لا ننتهي مقبورين تحت الأنقاض، ونَخوضُ في المتاه عَسانا نُفلتُ بأرواحنا الهَشّة من الموت على أطرافِ الأرضِ في وَحل المستنقعات.. كما بالشعر نتطلع لمقامات المطلق في برزخ البقاء.. منذ الأزل إلى الأبد..
«لأنه لا ينسى
أنَّ صَوّانَ التاريخ
نقشته النهايات،
يظلّ جَسَدُ الشاعر
كوكباً
من البدايات..»
على هذا المنوال، يَسترسِلُ بنا جواد المومني من ومضة لأخرى عبر أحواله الخاصة بتوصيف واعٍ لمنظور الشاعر الرائي الذي يستدرجنا معه لاستشراف أفق مغاير في تجربة الكتابة، وذلك انطلاقا من تصوّرٍ يَتجاوزُ تكديسَ نصوصٍ متباعدة أو متجاورة إلى الرِّهان على صِياغة مَشروع كتابٍ شعريٍّ قائم على نصوص متوحدة متواشجة في خيط ناظم متناغم مبنى ومعنى..
«أخرق
من ظنّ الشاعرَ
يَحتَرق.
هو.. أبَداً
ماء،
ينسابُ
لِيَختَرق..»
هنا، بفعل حتميّة الحركيّة وضرورة التجاوز، كأنَّ على كلِّ شاعر أن يكونَ بلا نظير.. أو كأنَّ عليه أن يكُونَ دفقة من هذا النهر السرمديّ الفياض، من موقعه الخاص في إطار تاريخ الوجود بتشكله البدئي الذي يجعل من ماء الشعر أصل الحياة، مادام أوَّلَ الفنون زمنيا وأكثرَها تَجذّراً في الكينونة الإنسانيّة بمختلف أشكالها التعبيرية والإبداعية..
«جِسرٌ
هو الشاعر
طيّعةً تأتيه المعاني،
يُهَدهِدُها،
تَمرُّ عليه
لِمَحو النظير..»
هو هنا نفسُ التصوّر الذي يَضَعنا في صلبِ «شعر الشعر» أو «ميتا-شعر» بوصفه شعرا عن الشعر.. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار، في هذه السلسلة المئويّة من الومضات الشذرية، الطابعَ التوصيفيّ لنزوعات الكتابة المتأصلة في عمقها الرمزي، بأسلوب رؤيويّ للذات والعالم في تجاذبهما الأنطولوجي القائم على المعرفة بالوجود في بعده الجمالي المُرَسّخ لفكرة طهرانية الشعر وقدسيّة الشاعر.. وهو ما يدعو بالتالي لاعتماد منظومة الخصائص المفارقة في طبيعة النص الشعري بكل انزياحاته ورهاناته المشروعة، بوصفه انعكاساً مجازيّاً لسيرة الشاعر بكينونته الخاصة الموسومة بتبصره الإبداعي الذي لا يستعين بالجاهز، وهشاشته الحسية التي لا تستكين للمألوف، ومزاجه القلق الذي لا يطمئن للسائد..
«توشك السماء
أن تحضنَ
سحابة مذعورة،
إلى أن تحلَّ
بخاطر شاعر
لقصيدةٍ يشتهيها..
فَتَطمَئِن..»