حاشية على «أحاديث رمضان» .. 6 : السيد والعبد

…هل يعيش العالم العربي الزمن الراكد؟ هل ستظل قضايانا هي نفسها لتعمّر طويلا ؟ هل سيظل حالنا على ما كان عليه إن لم يزدد سوءا ؟ هل سنظل نعوّض واقعنا بآخر لا نعيشه إلا على مستوى الوهم ؟ ففي الوقت الذي تعيش فيه الأمم الأزمنة المفتوحة على الأسئلة الجديدة والقضايا المستجدّة مواكبة للعصر، تظل أمتنا تتخبّط في نفس القضايا غير عابئة بتحولات الزمن. من هنا تأتي راهنية كتاب إبراهيم عبد العزيز « أوراق مجهولة للدكتور طه حسين « ، والتي جمعها وأعدّها عن «أحاديث رمضان» التي كان العميد قد نشرها متتابعة بجريدة «الجهاد» خلال شهر رمضان من سنة 1354هـ، الموافق للتاسع والعشرين من نونبر 1935م . فمن أحاديث رمضان» إلى «أوراق مجهولة للدكتور طه حسين» انبسط الجدال والحجاج والسجال بين مؤيد ومعارض ، بين مدافع ومهاجم ، بين بارّ و عاق ، فأسالت الأحاديث ، كما الكتاب ، مدادا كثيرا ، وما كان لها أن تثير الزوابع لو لم تكن صادرة عن صاحب « على هامش السيرة « و» في الشعر الجاهلي « الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ، ولو لم تكن قد وضعت الأصبع على الجرح حتى في الأمور التي نعتقد واهمين أنها أمور عابرة و تافهة ، فمن البسيط إلى المركب تنبسط محنة أمة … هي الجراح الغائرة التي خلّفت ندوبا، فجاءت هذه «الحواشي» بين الجراح والندوب تحتجّ على خيبات الزمن الراكد.

 

تحت عنوان « صورة مكروهة من كبار الموظفين « قال العميد إن صاحبا جاءه وبه من الغيظ والحنق ما به ، يشكو مما استشرى من الجهل والغفلة والغرور، وما دبّ بين العباد من خلق معوّج، يدعوه إلى كتابته وإذاعته بين الناس عسى أن يرد شرّ بعضهم عن بعض، وأي شهر أجدر بهذا كله من شهر الصوم، شهر طلب المغفرة والثواب درءا لغيض الصائم وغضب العابد . كان الرجل قد حضر دار الأوبرا ليشهد تمثيل مسرحية بعنوان « إنقاذ ما يمكن إنقاذه «، ثم سرعان ما لاحظ وقوف رجل على باب المقصورة لا يحرك ساكنا من الساعة العاشرة إلى الساعة الأولى بعد منتصف الليل، لا هو من الجالسين، ولا هو من المتفرجين، ولما سأل عنه قالوا له إنه ساعي الموظف الكبير الذي يجلس مع أسرته داخل المقصورة المخصصة للكبار، ينتظره إلى أن يفرغ من فرجته… بهذا الصدد تساءل العميد وصاحبه كيف يستعبد كبار الموظفين صغارهم وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟؟
سيدي العميد، ما أثار غيضك وحنق صاحبك ليس إلا صورة واحدة من صور شتى مازلنا نعيشها ونعاني منها بعدك، وغيرنا تجاوزها كتجاوزات لا طبيعية حاطّة من كرامة الإنسان ليتفرّغ لغيرها الحاطّة من كرامة الحيوان… لايزال الموظف الكبير، والعامل المسؤول يعتبر قطاع مسؤوليته، ومجال ترؤسه ضيعة له، وأن كل مرؤوسيه إنما هم خدّام له وليسوا خدّام الدولة، ولا هم موظفون مثله تماما، كل منهم إنما يقوم بمهمته في تناغم تام بين المهام . لقد آن الأوان، إن لم يكن قد فات، أن نزيل كلمة « الرئيس « و» المرؤوس « من قاموس الإدارة، ولنستبدله بكلمة « مشرف « حتى يتقاسم العاملون الإشراف على مختلف أجنحة مجال اشتغالهم . فلعلّ كلمة « رئيس « تختلط لدى البعض من الرؤساء بكلمة « السيد « التي تستدعي بالضرورة كلمة « العبد « ، فتنشأ بالضرورة أيضا تلك العلاقة العمودية المقيتة التي تفقد الإنسان إنسانيته، ولأن الإنسان، بدون وازع أخلاقي، ذئب على أخيه الإنسان، تتحوّل مكاتب إدارة الشأن العام إلى سجون، الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود مع وقف التنفيذ إلى أن يريد الرئيس المتحكم في الرقاب. وبحكم العادة يترسّخ جنون العظمة، فيصاب الرئيس بمرض، لم نجد له بعد، سيدي العميد، علاجا غير الكيّ، هو مرض السلطة اللعين حيث يتحوّل الرئيس إلى الآمر الناهي الذي لا أمر ولا نهي فوقه . والمرض اللعين يقتل فينا روح المبادرة فنتحوّل إلى آلات تنفيذية ليس لها حق المشاركة في القرار، ولا حتى حق القوة الاقتراحية، فتنعدم، أمام سلطة المعصوم من الخطأ، ميزة الاستشارة والاختلاف الذي لا يفسد للودّ قضية، ويتحول « المرؤوس « إلى خادمة في البيت أوحارس ضيعة وهما يعانيان نفس الألم، دمية متحركة في سلّم الدمى لا حول لها ولا قوة، حتى إذا غاب الرئيس ظلت الإدارة معطلة لا حياة فيها، وتعطلت معها شؤون العباد .
ها نحن بعدك بقرن من الزمن، المشرف العميد، وقد شاعت وذاعت حقوق الإنسان، مازلنا مجرد كائنات ورقية خاضعة لسلطة المؤلف التي وحدها تقرر حياتنا أو مماتنا، حيث لاصوت إلا صوته … فمتى، أيها العميد، نمارس إدارتنا بتعدد الأصوات ؟


الكاتب : عبد الإله رابحي

  

بتاريخ : 13/05/2019