“حانة الذئب” للشاعر عزيز أزغاي خسائر العالم المزروعة شعريا

 

يظل الشعر جوهرا أدبيا خالصا عصيا على مجهر النقد منذ المحاولات الأولى مع أرسطو الذي اكتفى بتصنيف التنوع الشكلي للشعر كأغراض ومحاكاة، مرورا بالنقد القديم الذي بنى خيمة نقده للشعر بعمود الموسيقى( الوزن) كما أعلن ذلك قدامى بن جعفر بشكل صريح في تعريفه للشعر ككلام موزون مقفى، بينما الجاحظ والجرجاني بنيا نظريتهما النقدية على التجويد لفظا ومعنى ،وصولا إلى الشعرية النقدية البنيوية مع رولان بارث وجيرار جينيت اللذان رأيا في الشعر أسطرة على غرار الأبنية الأسطورية الدارجة في صناعة أشكال التعبير الحديثة من أشكال الموضة ، إلى فبركة القيم بما يخدم السلع التجارية والمنتجات الصناعية بتوظيف التعابير الشعرية في الدعاية والإشهار والسينما، غير أن الأسطرة النقدية البنيوية أسست فهمها للشعر كاشتغال بالمعنى على المعنى. ماهي إذن هذه الطاقة الخفية التي تشكل الجوهر الخالص للشاعر وتمنحه قوة الوجود الفني المتسامي عن مختلف أشكال التعبير الفني، والمنفلت باستمرار من أسر التاريخ إلى رحاب الكوني؟، ومن أسر اللغة إلى جنوح في الدلالة مدهش وملغز، ألم تكن مناجاة ربات الشعر في الإلياذة والأوديسا استجداء فهم الكون وفك غموض رموزه المنتشره في أرجائه؟

 

سنتجاوز في مقاربتنا لديوان الشاعر عبد الغزيز أزغاي» حانة الذئب»كل ما دأب النقد العربي الحديث عليه من اجتهادات لتوصيف الشعر المعبر عن نكبة الحضارة بعد اكتشاف الاستعمار ، وفي رأينا فإن كل ما استجد به هذا النقد ظل تحت تثاقف لعب فيه دور المستلب لا المحاور والناقد، كما قال الراحل الدكتور محمد عابد الجابري: « الاستسلام للمقروء»، وأعني هنا المتن النقدي الغربي بمختلف مدارسه ومناهجه واستهدافاته العلمية، ودافعنا في بسط قصور النقد الحديث هو أن الشعر اعتبر ديوان العرب، كما أنه حظي دون غيره من الفنون بمواكبة نقدية واسعة بلغت ذروتها مع ترجمة بن رشد لمفهوم الشعر عند أرسطو ترجمة يمكن تصنيفها كتثاقف عربي يوناني مبني على العقلانية والمنطق، لا الاستلاب والانبهاروالإحساس بالدونية. لهذا لن نركن لذلك التوصيف النقدي لشعر نكبة الاستعمار وبعده كشعر حديث ، وسنبني مقاربتنا له على ضوء ما عرضته المدارس النقدية القديمة كاستشرافات نقدية خطها نقاد وهبوا الدربة والمراس في تفكيك بنية الشعر كشعر لا كتحقيب تاريخي، أو بالتدقيق ككتابة على حد تعريف بارت في رفضه للتجنيس الأدبي طالما أن الأدب عموما اشتغال باللغة على اللغة، واللغة بمعناه اللسني الذي يطال التركيبي والسيميائي. وسنركن إلى بعض المفاهيم النقدية القديمة التي نراها مسعفة لنا في فهم ديوان» حانة الذئب»، مسعانا في ذلك التأسيس لنقد أصيل للشعر، بعيدا عن ركام الزيف المفاهيمي المتراكم حول تعبير فني نال صفة ديوان العرب، والصفة تعني وعاء الحضارة وملهمها في نفس الآن، وليس عبثا أن حظي الشعر بهذا التصنيف لولا خصائص فنية مميزة يتمتع بها ،وذلك منتهى مرادنا من هذه الدراسة النقدية .
عنوان الديوان يمكن اعتباره ميثاقا شعريا يعلن الشاعر من خلاله أننا إزاء قول مختلف، فالمعنى المبطن داخل العنوان يثير الغرابة ويدعو إلى شحذ حاسة إدراك دلالي مغايرة في التلقي والتركيب اللفظي المنتج للدلالة، كيف نربط بين الحانة والذئب؟، والذئب حمال دلالات عديدة تبدأ من الفطنة، وتمر عبر الخدعة ثم تنتهي عبر الافتراس، بينما الحانة تفيد المجون والترف والبعد عن السداد، وهما دلالتان متقابلتان، فكيف ركبهما الشاعر لصياغة مدلول واحد؟
ارتبط الشعر بذات الشاعر منذ نشأته أكثر من غيره في صنوف القول الفني، فذات الشاعر معين يصهر داخله العالم، اللغة، الدلالات، الوقائع والأحداث، فيخرجها مطبوعة بسحر شعوري إبداعي خاص، فما الذئب سوى الشاعر يطارد المعاني، يتأمل مراعيها، وينتج حيله الخاصة في الحصول على فريسته القصيدة، والحانة ليست سوى ربة الشعر بصيغة حديثة، وهي خمرة العشق في الشعر الصوفي، حيث الشاعر مفتون بحب المعاني الباطنية الثاوية خلف العالم، أو الحقيقة الملتبسة على الإدراك البصري الحسي، المعنى المستجلى من المعنى الحاصل، أو ما درج على توصيفه النقد الحديث بالصورة الشعرية، والترميز. ماهي هذه الفرائس / القصائد الذي اصطاد الذئب/ الشاعر، وكيف افترسها /أبدعها،وماهي المعاني المخمورة /الباطنية التي تروي معاني العالم الحقيقي؟ ، ليس عبثا أن يستهل الديوان بقصيدة تحت عنوان» الشاعر»:
بعد كل هذا اليأس،
صرت قاطع الطريق
تسلب المارة خسارتهم
لتزرعها في قصائدك
إن هذه القصيدة من صميم العنوان، فهي تفضح حرفة الشاعر كذئب يسرق المعاني، والمعاني هنا ليست ألفاظا مركبة بلاغيا بل خسائر العالم المزروعة شعريا.
نكتشف من خلال هذه القصيدة أننا إزاء تراجيديا كبيرة سيتولى الشاعر بسطها في قصائده، وسيتضاعف هذا الألم في قصيدة « ميراث»، ويعلن عنه بلفظة الألم بشكل صريح مفصحا عنه كألم تاريخي متوراث يدفعنا إلى العيش دونما سلام مع أرواحنا لأننا نعيش ونحيا الألم كما هو موصوف في الفكر والسياسة والمعرفة بأوصاف التخلف الحضاري، والبؤس الإنساني، والإفلاس القيمي؛
كان مجرد نطفة خلاء
تبحث عن الطمأنينة
في صحاري الشك
مدعاة الشك أملتها أوضاعنا الضاجة بآلام لا حصرها انطلقت من نكبة الاستعمار ولا تزال تتداعى مع التبعية وانهيار هوياتي واجتماعي واقتصادي محكوم بلايقين متجدد، ومهدد لكينونة الفرد والجماعة.
في قصيدة «صباحات» يباغتنا الألم مرة أخرى، فلاشئ بعد غير الآلم، فالدفقة الشعورية المنسابة ذات طابع فجائعي وستحكم كل قصائد الديوان:
صباحات الألم أيها الغرباء
صباح التكهنات والأوقات الصعبة
صباح العرق المر الذي يتصبب
على الياقات
وعليه يمكن اعتبار أن الديوان يقيم على وحدة موضوعية اعتبرها النقد القديم من شروط تحقق الشعرية، هذا المفهوم (الشعرية)الذي ولد مع البنيوية خاصة مع بارت وجيرار جينيت في تناول الكلاسكيات الشعرية، أو السرديات الحديثة . فكلما تجلى الشعر في القول كيفما كان نوعه تحقق الشعرية، والشعرية في النقد الحديث تفيد اشتغالا مميزا في إنتاج المعنى. فكلما نجح القول في مزج الدفقة الشعرية بنبرة مغايرة ومختلفة وقادرة على إمتاع القارئ وإثارة دهشته أو دمجه في المشهد والصورة دمجا شعوريا أقرب إلى السحر، تحققت الشعرية: حالة ستاندال، وبودلير … بينما الشعرية عند نقادنا القدامى تنبني على الدلالة المسنودة بلفظ لا يستغربه ذوق المتلقي. فالشعرية الحديثة ليست سوى نظم في تراثنا النقدي القديم، لقد نجح الشاعر عبد العزيز أزغاي في الوفاء للشعر كديوان العرب، وكنظم لمعاني وهبت لديوانه وحدته وشعريته.


الكاتب : مصطفى بوتلين

  

بتاريخ : 27/05/2022