حبيبها أقسى الرجال

كتبت له رسالتين وقصيدة قالت له أنها في عشقه رومانسية وفي انتمائها كاثوليكية.. بعد أن ضرب لها موعدا صباح اليوم الموالي.
ذهبت إليه عبر القطار تراقب الطريق تلمح وجهه في كل السنابل الحانية في السحاب وفي وجوه الأطفال الذين ينتظرون مرور القطار للعبور نحو المدارس بالحصة الصباحية.
ظلت تنتظر اتصاله لمدة ساعتين كاملتين حتى وصلت إلى محطة الرباط المدينة مع التاسعة والنصف صباحا.. ولا جواب منه يذكر.
حبيبها فعلا أقسى الرجال، أدمن السرية حتى ظن أنها عميلة، هي التي لا تعرف حتى شيخ القبيلة، يؤمن بالمؤامرة معتقدا أنها مكلفة بمهمة وأنهم يستهدفونه عبرها فهي بنظره وسيلتهم الأخيرة للانقضاض عليه بعدما فشلوا في اختراقه لسنين طويلة.
حبيبها من فرط قسوته لم يجبها بالحضور من عدمه، تركها وحيدة تواجه عاصفة السؤال وسيل الشكوك المريبة
قال درويش: قلت لن تأت
قالت: لا لا حبيبي آت
توقف القطار.. يبدو أنها قد وصلت إلى محطة الرباط المدينة، نزل الركاب ونزلت هي في آخر القطار.. كانت آخر الركاب الواصلين، تمشي بسرعة تراقب هاتفها الذكي وساعة يدها، تحسب خطواتها تستمع لطرق حذائها، تقبل مسرعة وسط الجموع، تلج باب المحطة الكبير وتبحث عنه في كل الوجوه والتقاسيم ولا تجده، تدور ذات اليمين وذات الشمال، تخرج إلى الباب الكبير المفتوح لعله ينتظرها هناك.
ترقب السيارات، سيارات أجرة زرقاء اللون مرتبة كآليات عسكرية، أضواء السير تتراقص أمامها والسيارات سمفونيات الربيع المزهر القادم، كان الكل وكان حبيبها وحده الغابر الغائب… عشر دقائق مرت.
عادت إلى داخل بهو المحطة تبحث في ذلك الفضاء الفسيح عن مقهى وجدته أخيرا وولجته طالبة كوب قهوة، ناولها النادل قهوتها الساخنة بسرعة كبيرة، بدأت في احتسائها على مهل، تشتم بخارها المتصاعد الذي ينعش خلايا رأسها، تحتسي فنجانها تبحث مجددا عن وجهه في بخارها المتصاعد فتسافر إليه مرة ثانية، ترتشفها رشفة بعد رشفة، مر مذاقها كالبعد، حارق ملمسها كالشوق، لكنها أخت الوقت حتى أنها أمل في اللقاء الموعود.
تتناول بعض الجرائد الورقية الوطنية من أحد زبناء المقهى لتقرأ الأخبار في حضرة الغياب، الجميع مذهول أمام جمالها في لحظة انبهار قصوى، أما هي فلا تلتفت إلا لساعتها حينا ولهاتفها الذكي أحيانا.
تقلب صفحات الجرائد بسرعة تقرأ العناوين الكبرى دون أن تغرق في التفاصيل، كانت عناوين الجرائد تحكي ما وقع هنا وهناك… هناك قتلت صحفية بدم بارد وهنا خرج أحد بقايا الإخوان وهنا نقاش حول أزمة اليسار وعنوان عريض عن الارتفاع الصاروخي للأسعار، تتأرجح بين أخبار القتل والدمار هنا أو شرق المتوسط بل وحتى الشمال، فالحروب أخيرًا لم تعد حكرا على العربان.
تعود لمتابعة الشأن الوطني بين أخبار المجتمع والسياسة والرياضة والفن والثقافة حتى أنها تجرب حظها وتختبر ذكاءها في ملئ خانات الكلمات المتقاطعة لربما تنسى أنها على حافة الانهيار بعد طول الانتظار.
انتظاره طريق طويل معبد تماما كطريق دُشن للتو، كانت كطفلة صغيرة لها من أحلامهن فارس وجديلة، أخذت هاتفها وكتبت:
طوقتني تلك الجديلة
قيدتني بسلاسل من ذهب أسود
أيا فارسي وسجاني
أتسألني الرحيلا…
انتظرت لنصف ساعة رده ولم يرد، فتحت هاتفها من جديد وكتبت له رسالة أخيرة:
كم جميل أن نسير واثقي الخطى نحو المصير المحتوم، وأن نحيا في مقابر الحب الخالدة، لا الرحلة معك ابتدأت ولا الطريق إليك انتهى…
طرحت جرائدها جانبا، وقفت كصفصافة حزينة ولسان قلبها يقول كل شيء وعقلها استوعب معنى أن تسقط الكرامة أمام القسوة، انحدرت بعينيها الذابلتين نحو الأسفل وغادرت، واختفت وسط الجموع ومضت نحو طريق العودة وحيدة…


الكاتب : إيمان الرازي

  

بتاريخ : 14/06/2022