حتى الهباء شيطان في السماء

 

وأنا غارق في التفكير لما يزيد عن وقت ما بين الفجر والضحى، أتأمل النملة ذات الجناحين. تحط على كتفي، دون حركة مني تطير وتعود لتحط على كعبي الأيسر، ثم تطير، وأعود إلى سهوي وغرقي في التفكير العميق، عميق، نعم، لكن في الفراغ . ولا شيء يستدعي كل هذا العناء في شغل البال، واضطراب الخاطر. حتى النملة التي استهوتها لعبة الإقلاع بجناحيها، لتحط على بقع من أطرافي، لم أكن لأعيرها أيما اهتمام، ولا أن أتطير من قفزاتها وهي تباغتني بالاستواء على ظهر كفي.
شيء ما يحتل مساحة تفكيري في كل هذا المشهد الرتيب، في كل لحظة من طوفان التفكير في الفراغ، كنت أحس بحجم جسدي يتقلص، ومقدار وزني ينقص ويزداد خفة غير مألوفة، الرجلان نحيفتان من فخار، والساقان من شمع تقطر دموعه دون توقف، والفخذان والجذع صارا هباء منثورا. البطن والصدر واليدان عبارة عن عجين من لحم ودم، صهارة تتفاذفها الريح في العدم.»الحاصول « صرت هباء في السماء…
لم يتبق مني غير مخ عار من العظم وكل غشاء، ومحجرين خاويين يتدلى منهما عصب سميك يلتصق بهذه الكتلة البيضاء، التي بقيت من رأسي بعد تحلل مغارة العظم التي كانت تأويه. كنت أرى من المحجرين الخالين من عيون، كنت أرى دماغي بتجاعيده المتضرسة وهو ينبض بلا توقف. لست أدري هل أنا سعيد أم في حيرة من أمري، لست متيقنا، إن كان أمر جسدي الذي اندثر، يريعني أم يروق لي..
المهم، صرت هباء وحلقت في السماء. أسبح بين السديم والغبار، أصعد إلى أعالي السماء، أنظر إلى الجزيئات المتناثرة في الفضاء، ثم وميض أشعة تنعكس عليها، تصدر منها كل ألوان الطيف في منظر بديع. كنت أرى هذا حتى وأنا بلا عينين في المحجرين. في لحظة غير قصيرة، بلغت من العلو ما جعل كل شيء يبدو لي قزميا. وأنا أمعن النظر في الأسفل، فإذا بدبيب يقترب من مسمعي، دبيب النملة ذات الجناحين، دنت مني قليلا، ثم صارت تحدثني وهي تقول:
– أنت من كان يبحث عن بلوغ قمة السماء، ها أنت تطير وتسبح في عليائها.
– كل من ضاق به الوضع، دون شك يرفع رأسه للسماء، وأنا من هؤلاء.
– حتى في حديثكم تمجدون من بلغ القمة واستوى في العلا. وتضربون المثل بالجن الذي يطير في السماء.
– هكذا نفهم الأمور، من حلق في السماء، بلغ سدرة المنتهى واقترب من الآلهة.
– فهم مضحك ومقرف. سترى العكس تماما وأنا أطوف بك في هذا السديم.
– أنت من هنا؟ هل لي أن أعرف كيف وصلت أنا إلى هذا الفضاء السحيق؟
– أنا من فعلت بك كل هذا، عندما تغرق في التفكير، تسبح في الفناء الفسيح، تتخيل نفسك في فضاء لا محدود، تهرب للقمة كي ترى بازدراء ما يحدث في القاع.
– وهل أذنبت في شيء إذا كنت أفكر بهذه الطريقة؟
مال الأفق الى غسق، واقترب الليل من السدول، كتلة ملتهبة تتدحرج في أقاصي الفضاء، اندهشت للمنظر، وارتج ما تبقى من دماغي، فيما النملة ذات الجناحين ترافقني في التحليق، أرسلت قهقهة ساخرة وهي تقول :
– كل تفكيركم مصدره الألم، كل وجودكم وجع ورغبات تتوالد بلا حدود.
– لأننا نملك عقلا يفكر.
– هذا العقل هو داء في جسد، جرب كل النظم، وما انتهى إلى قرار، والافظع في ما اهتدى إليه، هو أن جعل في السماء ملجأ للخلاص.
– ودون استئذان، تطوفين بي في هذا الهباء، علني أكتشف ضالة عقلي المفكر؟.
خشيت أن أسألها عن سبب قطعها كل هذه المسافة للتحليق وسط هذا الهباء، ربما تكتم سرا، أو تخفي وجعا ألم بها منذ أن تبرعم على ظهرها جناحان وفرضا عليها نوعا من الطيران المعتوه. ثم إنني أنا نفسي لا أملك جوابا لما حصل لجسدي الذي اختفت معالمه ولم يبق منه غير مضغة، ربما مضغة قادرة على التحليق في الأعالي. سأتوقف عن التفكير، يجب أن لا أفكر حتى في صمتي، فهذه النملة، جنية تقرأ ما يجول بالخاطر. حكمت على نفسي بالصمت، ولكن..
– كلنا في الهم سواء، لن يجديك نفعا أن تكلم نفسك، فأنا كما أنت، نعرف بعضنا البعض، أنت قدست إلاه عقلك.. واستسلمت لأسلته الحارقة، ظننت أن في قمة التفكير ابتعاد عن شيطان الألم. أما أنا فخطيئتي أنني كنت أصغي بحماس للصرار وهو يغني، كان يأخذني إلى السماء بنغمه الشجي، غناؤه أيقظ في حبا يوحي بسر الحياة والموت، شهية اللقاء في حميمية ملتهبة، كلما ازداد نغمه طربا، أزداد قربا منه، وفي نفس الوقت أحس بالجناحين يتمخضان في ظهري.
هل تدري؟ هذا طبيعة النظام ونظام الطبيعة. وأول ما حلقت بجناحي، صادفتك أنت، ومن رحيق دمك الأول الذي امتصته خياشمي، أدركت أنك أنت أيضا تعاني نفس الوجع والألم، ألم الرغبة والإرادة والأمل المأمول.
واستمرت في حديثها المدهش، تشرح وتزيد، خيل إلي أنها تخزن ما لم يستطع دماغي العالق في الفضاء، أن يحفظه في ذاكرتي بعد النسيان. آثرت أن أستفسرها عن كل هذا الفيض من المعارف والتشريح الدقيق لما تعرفه طبائع الناس المتقلبة. بمجرد ما مرت الفكرة من بقايا دماغي، حتى فاجأتني مرة أخرى بكونها تستطيع الغوص في أعماق خاطري، وسبر أغوار ما يجول في البال، بل حتى نوع السؤال الذي أجرب في طرحه كل نماذج الصيغ التي قد تفي بالغرض، ثم حدثتني قالت:
– لا تتعب نفسك من البحث عن السؤال، سأختصر وأخفف عنك كل هذا العناء. كل الأفكار التي والأطاريح التي سمعتني أتحدث عنها هي من ذاكرتك وذاكرة أشباهك ممن يكابدون ويجتهدون في الاطلاع والبحث عن معنى العيش في هذا العالم.
– وهل تفهمين لغة قومي وباقي الأقوام؟
زادت في سرعة التحليق وابتعدت قليلا في الفضاء، اختفت وسط الهباء، قلت ربما ضاعت مني، فإذا بها تعود بسرعة جنونية، وخزت قنة دماغي، وطرت بأقصى سرعة . صاحت بأعلى صوت، تردد في الفضاء السحيق وقالت:
– تعلمنا لغتكم منذ عهد سليمان، كنا نحدث جنده الغاشمين، تعلمنا حتى الكذب على سليمان لما أخبرناه بأن قوت العام بالنسبة للنملة الواحدة هو ثلاث حبات من القمح .
– الكذاب لا تتحمله السماء.
ونحن نحلق وسط الهباء، بدت لي من بعيد ندف النار تتطاير في كل الأرجاء، ثم أشارت بلاقطها المتمايل على جبهتها وهي تقول:
– خذ الدليل، في السماء، الهباء تحول إلى نار، مذ بلغت شياطين الأرض أبواب السماء، لم تعد ساحة الأرض موطن شرهم، احتلوا السماء، واعتلوا قممها الشاهقة كي يسخروا من أنّات الضعفاء المغبونين منهم والعقلاء، يستهزئون من ابتهالاتهم الحزينة وتوسلاتهم اليائسة. يتفهون أفكار عقولكم النيرة، ويرمونها بالإشاعات المغرضة. الهباء استحال شيطانا في السماء. هل فهمت؟..
لم أصدق ما رأته عيني، ما كاد لهيب الهباء يقترب من جناحيها حتى دوى انفجار هائل من صرة بطنها على حد ما رأته عيناي المفترض أنهما في محجريهما، تفتتت في لمحة بصر. أفزعني هول ما حدث لها المسكينة. عدت أدراجي، لأجدني في مكاني، كل ما اختفى مني عاد واستوى كما كان. قلت مع نفسي، هذه النملة، قتلتها جرأة كشف الأسرار، الشياطين في الأرض كما في السماء، لا ترحم من يكشف الحقيقة حتى في الخيال.

(*) كاتب ومسرحي


الكاتب : نجيب عبدو .(نجيب عبداللطيف) (*)

  

بتاريخ : 12/09/2025