يعتبر الفنان الراحل محمد المزكلدي من رواد الموسيقى المغربية العصرية، ساهم إلى جانب رفيق دربه الفنان الراحل عبد الرحيم السقاط في تطوير الأغنية المغربية العصرية حتى أصبحت تضاهي الأغاني الشرقية كلمات وألحانا، وسار على نهجهما رواد الإبداع الموسيقي في طليعتهم الراحل عبد القادر الراشدي ومحمد بن عبد السلام و عبد العاطي امنا و فتح لله المغاري و الطاهرجيمي وغيرهم، لتتوج الأغنية المغربية العصرية على عهد الموسيقار عبد الوهاب الدكالي، أطال لله عمره، كأغنية عربية متطورة تناولت أهم القضايا الإنسانية التي عالجت مجموعة من المواضيع التي لا زال الإنسان المعاصر يتعايش معها كالعنصرية في أغنية «مونبارناس» المؤثرة جدا.
تميز الفنان الراحل بإتقانه للغة العربية، حيث درس في جامعة القرويين بفاس، وتشاء الظروف أن تنشأ بينه و بين الشاعر د. محمد السرغيني، شافاه لله، والراحل المبدع عبد الرحيم السقاط صداقة متينة، حيث كان الثلاثة لا يفترقون إلا لماما، وحتى يتموا دراستهم العليا قرروا الهجرة إلى مصر، فحطوا الرحال في باريس بفرنسا ومنها توجهوا إلى القاهرة، فالتحق الفنانان المزكلدي والسقاط بجامعة فؤاد الأول للموسيقى، واحتكا بأشهر المطربين والمطربات المصريين في طليعتهم الفنان محمد عبد الوهاب والفنان فريد الاطرش والسيدة ام كلثوم. أما د. السرغيني فعاد إلى فرنسا، حيث التحق بجامعة السربون.
وبعد عودتهما إلى المغرب التحقا بالجوق الوطني براتب شهري متواضع جدا لا يليق بفنانين مجددين.
عرف الفنان محمد المزكلي بإخلاصه لأصدقائه الفنانين، كما عرف بكرمه رغم فاقته، وعاش كغيره من الفنانين المغاربة حياة بسيطة، إذ كانوا يقطنون في شقق بسيطة في الأحياء الشعبية رغم إبداعاتهم وعطاءاتهم المتميزة في المجال الفني.
تشاء الظروف أن يقيم الملك الراحل الحسن الثاني، طيب لله ثراه في التسعينيات حفل زفاف الأميرة الجليلة للامريم بالقصر العامر بمدينة فاس، وأحيي حفلا فنيا ساهرا شاركت فيه مجموعة من الأجواق المغربية، وفي إحدى اللحظات طلب الراحل من الجوق الوطني أداء أغنية العروسة، وبحث عن الفنان محمد المزكلدي صاحب هذه الأغنية الرائعة لأدائها فلم يجده بين الفنانين، فأمر جلالته بإحضاره، ولما انتهى الفنان المزكلدي من أداء الأغنية، قربه الملك نحوه وسأله عن أحواله المعيشية، فأجابه بكل احترام يا مولاي أنا قانع بما كتب لي لله من الرزق، إذاك أعطى الملك الحسن الثاني تعليماته لوزير النقل بأن يهب هبة ملكية للفنان المزكلدي وهي عبارة عن مأذونية للنقل السياحي، انحنى المزكلدي وقبل يدي الملك الراحل وقال له.. يا مولاي رعاكم الله، هناك من الفنانين من هو أحق مني بإكراميتك، إنه الفنان محمد افويتح، الذي يعيش في ضائقة مالية، في هذه اللحظات المؤثرة أمر جلالته بأن يترك له إكراميته ويأمر بمأذونية أخرى لمحمد افويتح.
فما أعظم الأخلاق التي كانت تميز الفنان محمد المزكلدي وفي طليعتها الإيثار، أي تفضيل الآخر على نفسك، وهي من الصفات التي ميزت العرب القدامى الذين اشتهروا بذلك إلى جانب إكرام الضيف، وهما صفتان قلما نعثر عليهما في عصرنا الحالي.
الفنان محمد المزكلدي من مواليد فاس سنة 1932، بدا مساره الفني في الخمسينيات وهو أول فنان مغربي تذاع له أغنية بإذاعة القاهرة، التحق بالرفيق الأعلى في 20 يناير سنة 2018، وترك ذخيرة هامة من الأغاني المغربية الناجحة في طليعتها «العروسة» و«علاش ياوردة قطعوك»، و«فين غاب القمر»، و«بارك ما تهني وتعذب في»، و«خمسة وخميس» و«شمعة عندي فالبيت»، وفكر قبل ما تعاتب ، وغيرها من الروائع.
رحم لله هذا الفنان المتميز، وأملنا أن يحذو حذوه الفنانون المغاربة الذين من لله عليهم بالخير العميم بأن يأخذوا العبرة من المزكلدي، وأن يجودوا ببعض ما وهبهم لله لزملائهم من الفنانين الذين حرمهم وباء كوفيد من العمل وأصبحوا يعيشون في فاقة وفقر مهول، وأملنا أن يحظى فنانونا المبدعون المجددون باهتمام قنواتنا الوطنية وذلك ببث أغانيهم المصورة والمسموعة وذلك أضعف الإيمان.